تتّسم الأزمات والكوارث بالفجائية، وتهدّد مصالح مختلفة، وهي نتاج تفاعلات طبيعية، أو بسبب أخطاء بشرية أو سوء تقدير أو تراكم المشاكل دون حلّ، تثير نوعا من الذهول والحرج والارتباك، كما تتّسم بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها، وتنطوي على خطورة كبرى، وتستقطب اهتماما كبيرا وتثير قدرا من الخوف، وهي تتطلب جهدا كبيرا لمواجهتها، لتلافي تطوراتها السلبية التي قد تمتد إلى المستقبل والمحيط، وتتسبب في تهديد المصالح المختلفة، وغالبا ما تضع الأزمات والكوارث صانعي القرار في محكّ حقيقي، يفرض استثمارا جيدا للوقت، وتوخّي النجاعة والمرونة في اعتماد الخيارات المطروحة. وفي مقابل ذلك، تجمع تقنية تدبير الأزمات بين العلم والفن، وعادة ما تهدف إلى السيطرة على الأحداث والوقائع وعدم السماح لها بالخروج عن نطاق التحكم في تسابق مع الزّمن.. من خلال استثمار المقومات والإمكانات المتوافرة بصورة عقلانية.. أولت الكثير من الدول المتقدمة أهمية قصوى لتقنية تدبير الأزمات ضمن خططها الاستراتيجية والشمولية لتحقيق التنمية المستدامة، وعيا منها بأهمية هذا الخيار في تعزيز هذه الجهود، عبر توفير مقومات وأسس صلبة تسمح بتجاوز الكثير من التحديات والمخاطر التي عادة ما تعترض المؤسسات، سواء في القطاعين العام أو الخاص. إن نجاح تدبير الأزمة ليس مجرد حظ أو صدفة، بل تتوقف على توافر مجموعة من العناصر، فبالإضافة إلى ضرورة وجود أرضية متينة من المعلومات الدقيقة، معزّزة بتقنيات متطورة للاتصال، يتطلب الأمر أيضا مقومات شخصية مرتبطة كفاءة مديرها والطاقم المساعد له في هذا الشأن، إضافة إلى عناصر أخرى موضوعية في جوانبها التقنية والاقتصادية وغيرها.. تقوم إدارة الأزمات في جزء كبير منها على التنبؤ، فوظيفتها لا تقتصر على مقاربة الأزمات والكوارث التي تحدث بالفعل، بل إن جزءا كبيرا من مهامها يفترض أن ينصبّ على الجانب الوقائي، وما يرتبط بذلك من توفير قرارات جاهزة بصدد أزمات محتملة الوقوع في المستقبل.. أضحت تقنية إدارة الأزمات علما قائما بذاته، بفعل اجتهادات العديد من الخبراء والمهتمين والباحثين، وظهور مراكز متخصصة في هذا المجال، كما أن العديد من المؤسسات الخاصة والعامة في الدول المتطورة فتحت لها أقساما دائمة في هذا المجال كما هو الأمر الحاصل بأقسام العلاقات العامة وشؤون الموظفين والمالية..، بالنظر لأهمية هذا المجال ولدوره في تطوير أداء هذه المؤسسات.. وفي منع حصول الأزمات والكوارث.. إن وضع خطط استراتيجية لإدارة الأزمات، أضحى أمرا حيويا في عالم اليوم الذي تعقدت فيه المخاطر، وما يحيط بذلك من انعكاسات سلبية محتملة على مختلف المؤسسات ومحيطها. تبرز الدراسات والتقارير والأحداث إلى أن الكثير من الخسائر والضحايا التي تقع في أعقاب اندلاع الكوارث والأزمات، لا تتسبب فيها هذه الأخيرة بشكل مباشر، بل ترتبط في الغالب بحالة الارتباك والذهول التي تخلفها في أوساط بعض المجتمعات، بما يدفع إلى سلوكات وخيارات مرتجلة وغير محسوبة.. ففي أعقاب الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير، يسقط الكثير من الضحايا بسبب التّسرّع والتّدافع والقفز من أماكن شاهقة طلبا للنجدة، أو بسبب الافتقار لتكوين في مجال الإسعافات الأولية.. ونفس الأمر ينطبق على الكوارث الطبيعية في علاقة ذلك بجهل سبل التعامل مع الحرائق أو الزلازل والفيضانات.. وما يستلزمه الأمر من اتباع شروط السلامة وضبط منافذ الإغاثة..، وكذلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية.. التي تزداد خطورة تداعياتها، كلّما كان هناك قصور قبلي على مستوى مواجهتها بسبل عقلانية تتجاوز العشوائية والارتجال. إن ترسيخ ثقافة تدبير المخاطر والأزمات في أوساط المجتمع، وداخل المؤسسات التابعة للقطاعين العام والخاص، يشكّل منطلقا ضروريا وأساسيا للتّخفيف من حدّة الأخطار الناجمة عنهما وتوفير الأجواء النفسية الكفيلة بمواجهتها بقدر من الاتزان والنجاعة. إن كسب هذا الرهان لا يسائل الدول بمفردها، بقدر ما يعني أيضا الكثير من المؤسسات والقطاعات الأخرى، سواء تعلّق الأمر منها بالأسرة والمدرسة والإعلام أو فعاليات المجتمع المدني والخواص.. ثمّة وعي متزايد داخل الدول المتقدمة بأهمية ترسيخ ثقافة تدبير الأزمات، وهو ما يعكسه وجود تخصّصات علمية مستقلة وقائمة بذاتها داخل عدد من الجامعات التي توفر للطلاب تكوينات وبرامج في هذا المجال، علاوة على إحداث مراكز علمية متخصّصة في هذا الشأن، تفرز مخرجات على قدر من الأهمية بالنسبة لصناع القرار، فيما أضحى أمرا طبيعيا وجود مصالح دائمة تعني بتدبير المخاطر والأزمات داخل مؤسسات القطاع العام ونظيرتها في القطاع الخاص. نجحت الكثير من هذه الدول في إرساء نظم تقنية وإدارية تقوم على الإنذار المبكر، مع ترسيخ ثقافة التأمين داخل المؤسسات وفي أوساط المجتمع، كسبيل لتقليل المخاطر عند حدوث الأزمات والكوارث.. وتقدّم اليابان نموذجا واعدا في هذا السياق، فهذا البلد الذي يعيش باستمرار على إيقاع الكوارث الطبيعية..، يضع ترسيخ ثقافة تدبير المخاطر ضمن أهم أولوياته، فالتعاطي الياباني مع هذه الأخيرة ينبني على تدبير القرب، فالمعنيون المباشرون بالأزمة هم الأكثر كفاءة وقدرة على مجابهتها، بطرح البدائل الناجعة في هذا السياق، واعتماد أسلوب الفرق والخلايا اللامركزية المعنية بهذا الأمر. إن أسلوب تدبير الأزمات لا يمنع أو يحول دون وقوع الكوارث، بقدر ما يقلل من تداعياتها، ويوفّر أجواء سليمة لاتخاذ قرارات صائبة تتحوّل معها هذه المحطات الصعبة إلى مناسبات لتحصين الذات، وفرص لتقييم ومراجعة الأوضاع والاستفادة من الأخطاء المرتكبة.. ولعلّ هذا ما يفرض إحداث منظومة عصرية لتدبير الأزمات والمخاطر، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع والمجال الجغرافي، مع الانفتاح على تجارب دولية رائدة في هذا المجال، بصورة تدعم جهود صانعي القرارات في كسب رهانات التنمية. *مدير مختبر الدراسات الدولية حول تدبير الأزمات بجامعة القاضي عياض، مراكش