مقولات لاهوتية وانغلاقات تراثية تكاد لا تُحصى ما زالت سائدة في المجتمعات الإسلامية بالمنطقة، ترسم صورة تبجيلية أو تقديسية راسخة، تربّى عليها الأفراد أيًّا كانت طوائفهم أو مذاهبهم، لكن القيم الأخلاقية التي تُجسّد جوهر الدين غائبة في المجتمعات عموماً، بينما قشور الدين وشكلياته السطحية هي المهيمنة في الدول الإسلامية. كلّما رَقّعْنَا مشكلة معينة ذات صلة وثيقة بالتراث الإسلامي، تَنْفَتق أمامنا مشكلات جديدة، حتى صار واقعنا غير قابلا للترقيع، لأنه يحتاج في الحقيقة إلى عملية جراحية في العمق، من شأنها إعادة النظر في رؤيتنا للتاريخ الإسلامي، حتى نعيد الصورة التاريخية الواقعية للتراث التي تختلف كثيرا عن الصورة التبجيلية. لماذا أصبحنا المشكلة رقم واحد بالنسبة إلى العالم بأسره؟ ما الشيء الذي يميّزنا عن بقية أمم الأرض لكي نصبح العدو الذي يتجرأ على تحدي أكبر حضارة على وجه البسيطة في عصرنا هذا؟ لماذا أصبح الخطاب السياسي العربي مُجيّشًا بمعظمه لمحاربة هذه الحضارة الغربية؟. أسئلة كثيرة تتلاحق وراء بعضها البعض، يحاول من خلالها هاشم صالح، الكاتب السوري، المتخصص في قضايا التجديد الديني ونقاش قضايا الحداثة، تفكيك المسائل التراثية. تُبحر جريدة هسبريس الإلكترونية، من خلال هذه البانوراما الصيفية، بقرائها في مجموعة من القراءات والإضاءات التي ألّفها الباحث السوري، ضمن مؤلفه النقدي المعنون ب "الإسلام والانغلاق اللاهوتي"، بغية تفكيك بعض جوانب التقديس التي تلازم التراث الإسلامي على الدوام، وكذلك المفارقات التي تطبع السلوك الجمعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. -3 ميشيل دوس، باحث فرنسي، لفت الأنظار إلى نفسه مؤخرا بعد إصداره لكتاب "الله في حالة حرب.. العنف في صميم الأديان التوحيدية الثلاثة"، وهو أستاذ تاريخ الأديان المقارن في جامعة السوربون، مختص أساسا بالأديان الإبراهيمية التوحيدية، بحيث ينطلق من روح التنوير لكي يحلل النصوص الدينية بشكل تاريخي عقلاني محض. هل الله في حالة حرب؟ اكتشف الباحث الفرنسي الإسلام في الصحراء لأول مرة. في هذا الصدد، يقول إنه "من المهم اكتشاف هذا الدين في الصحراء لأنه ولد فيها ولا يمكن فهمه بعمق بدون فهم البيئة التي أنجبته". هكذا، إذن، يقر أنه لم يبدأ بفهم القرآن إلا بعد بحفظه عن ظهر قلب، وذلك لكي يصبح على قدم المساواة في ذاكرته مع الكتابات المقدسة الأخرى كالتوراة والأناجيل التي تنتمي إلى ذاكرته الشخصية وطفولته بحكم كونه مسيحي النشأة. ويرى البروفيسور أنه على الرغم من رسالة الإسلام التي تتضمنها أديان التوحيد الإبراهيمية، فإنها أصل العنف والحروب.. لماذا؟ لأن كل واحد من هذه الأديان الثلاثة يقدم نفسه كشهادة وحيدة حصرية على المطلق، على أساس أن المطلق لا يقبل النقاش. لذلك، فإن النظم الدينية التوحيدية الكبرى من يهودية ومسيحية وإسلامية، تبعا للباحث عينه، تتميز عن باقي الأديان (كالبوذية والهندوسية مثلا) من حيث كونها ذات طابع إطلاقي كوني ينفي كل ما عداها من عقائد وأديان، بحيث تعتبر أن إلهها المعترف به كإله واحد هو الخالق الكوني والشخصي الذي سيظهر كحكم أو قاض في يوم الدينونة آخر الزمن. ثم يردف قائلا: "ينبغي العلم أن الديانة التوحيدية لا يمكن أن تنفصل عن العنف.. إنه يشكل خصيصة ملازمة لها بشكل أصلي أو أزلي"، مؤكدا أن "أول ما تمارسه من عنف هي أنها تجبر على التخلي عن العقل من أجل الإيمان بها وبعقائدها.. إنها تدعو الإنسان للتخلي عن العقل من أجل شيء آخر مطلق يتجاوزه أو يتجاوز أفقه الطبيعي المعتاد". العلمانية هي الحلّ عبد الوهاب المؤدب، أحد المثقفين العرب المعاصرين الذين استشعروا مرض الأصولية بشكل حاد للغاية؛ وهو ما نجده بالدرجة الأولى في أطروحته التي تتمحور حول مأزق الإسلام الراهن أو ما يدعوه ب"مرض الإسلام"، إذ يرى المفكر التونسي أن توصّل الإسلام إلى العلمانية هو وحده القادر على تخليصه من الرواسب العتيقة التي تعرقل تطوره. ويدعو الباحث التونسي، من خلال كتابه المعنون ب "مرض الإسلام"، إلى تجاوز الشريعة وإلغاء الجهاد كليا بما فيه الجهاد الدفاعي، معتبرا أن التوصل إلى الحداثة يتطلب منا إحداث قطيعة مرة مع أنفسنا أو ذاتنا التراثية؛ وهذا يولد بالضرورة نزيفا داخليا حادا وصراعا مع الذات التاريخية المتجذرة في أعماقنا. ويوضح الباحث عينه أن مصطفى كمال أتاتورك والحبيب بورقيبة كانا الأكثر تأثرا بالغرب من بين الحكام المسلمين أو العرب، لكنهما على الرغم من كل الجهود الإيجابية التي بذلاها لم يستطيعا التخلص من الميراث الاستبدادي الثقيل الذي ورثاه عن الماضي. "مرض الإسلام" بعد فشل هذه النماذج التحديثية على طريقة بورقيبة وسواه، وفق الشاعر التونسي، فإن "الأصوليين السلفيين أشباه المتعلمين راحوا يهاجمونه، ويدعون للتخلي عنه والعودة إلى النموذج الإسلامي القديم، لكنهم نسوا أو جهلوا أن الفشل الديمقراطي والتحديثي ناتج عن استبدادية التراث الذي يتعلقون به ويعتقدون بأنه الحل الأول والأخير لكل المشاكل". ويتابع بالقول: "كل واحد يريد العودة إلى نموذج تلك الدولة المثالية النموذجية في وعي ملايين المسلمين، لكننا نعلم أنها نموذجية طوباوية أو خيالية لا واقعية؛ فثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلا، فأين هي النموذجية إذن؟ من يحلم بالعيش في ظل النظام الوهابي الذي يحجر على الأرواح قبل العقول؟". الفكرة المحورية التي يدور في فلكها كتاب "مرض الإسلام"، تتجسد في كون "أحد أهم الأعراض الأساسية لمرض الإسلام، هي كره الغرب والحداثة والحضارة كرها شديدا استئصاليا أعمى لا مرجوعا عنه"، مبرزا أن "الوهابية دمرت الأجيال العربية والإسلامية المعاصرة"، وزاد مستدركا: "لقد شوهتهم فكريا وعقليا عن طريق بث إسلام بدائي تبسيطي مقطوع عن جذوره الحضارية والتراثية القديمة". عنف الديانات التوحيدية يشير مؤلف "الإسلام والانغلاق اللاهوتي" إلى وجود تناقضي في الديانة التوحيدية؛ وهو أنه يستحيل حصر أو تحديد موضوعها الأساسي الذي هو الله؛ فالله بحسب هذا المنظور متعال يجلّ عن الوصف ولا صورة له أو لوجهه، وهو يقود التاريخ بواسطة وحيه، وبالتالي فهو أصل العديد من التجاوزات المتمثلة بأعمال العنف والحروب. بدوره، يقارن ميشيل دوس بين منسوب العنف في الأديان التوحيدية، معتبرا أن التوراة؛ أي كتاب الدين التوحيدي الأول، يهيمن عليه عنف الاعتقاد بوجود الخطيئة الأصلية الذي هو أصل كل عنف، ثم هناك عنف عملية القتل الأولى التي ارتكبها قابيل ضد أخيه هابيل، وغيرها من الوقائع. العنف موجود أيضا في القرآن، بحسب البروفيسور، لكنه موجود أكثر بكثير في التاريخ الإسلامي أو التراث الإسلامي الذي تلا القرآن وتشكل بعده، مبرزا أن "الإنجيل وحده يبدو شبه خال من العنف، ولكن هذا لم يمنع أتباعه المسيحيين من ممارسة العنف على امتداد التاريخ، ولهذا السبب ينبغي التفريق بين الإنجيل والكنيسة". ويتابع بالقول: "إذا قرأنا القرآن بشكل موضوعي وبدون أحكام مسبقة، فإننا نجد أن النبي لم يكن يجد نفسه بحاجة لكبح جماح المناضلين المندفعين بكل عنف لسحق الكفار كما قد نتوهم، وإنما كان بحاجة إلى العكس تماما، لكي يكونوا متحمسين جدا للقتال، إذ كان يجد صعوبة كبيرة في تجييشهم وتعبئتهم بالعدد الكافي وإقناعهم بالانخراط في الحرب في سبيل الله والدين، أي من أجل تحقيق ما يبدو له بمثابة رسالته التي يؤديها باسم الله". تأجيل السلام بين البشر الباعث الأعظم والوحيد الحاسم على الجهاد في سبيل الله بالنسبة للإسلام، بحسب منظور الباحث الفرنسي، ليس الفتوحات ولا التبشير بالدين وإنما الإحساس بضرورة فرض احترام حقوق الله على الأرض. ويخلص في نهاية المطاف إلى كون "الأديان التوحيدية الثلاثة مارست العنف باسم الله على مدار التاريخ، ولكن الشيء الذي حصل مؤخرا هو أن الدينين الأولين؛ أي اليهودية والمسيحية؛ تحدّثا وتعقلنا بشكل واسع، في حين أن التطور لم يحصل في الإسلام حتى الآن على الأقل". ما سبب ذلك؟، يجيب ميشيل دوس بكون الظاهرة تعزى إلى عوامل تتعلق بطبيعة الإسلام نفسه، وبعضها مرتبط بالظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها المجتمعات العربية الإسلامية ولا تزال؛ نحن نعتقد أن الإسلام شديد الارتباط بالصيغة البطريركية للمجتمع، ما تسبب في عزل الطائفة الإسلامية بدون أن تنجيها من مؤثرات التطور المحتوم الذي لا مفر منه. ولم يفوت المصدر عينه طرح سؤال إشكالي راهن هو: هل يستحيل علينا أن نعيش بسلام في ظل هيمنة الأديان التوحيدية؟.. قناعة الكاتب الفرنسي تشير إلى أنه "ينبغي الاعتراف أن كتب الوحي الثلاثة تؤجل تحقق السلام والوئام بين البشر إلى أزمنة أخرى؛ أي إلى الزمن الأخروي بوصفه عالم الأبدية والخلود.. وهذا يعني أنها تعرف أنها لن تستطيع تحقيق هذا السلام على الأرض في الحياة الدنيا، وإنما فقط ستحاول الإسهام في ذلك قدر الإمكان".