توفيت الفيلسوف الهنغارية إغنيس هيلر يوم الجمعة 19 يوليو 2019، عن عمر يناهز التسعين سنة. وبهذه المناسبة تعيد جريدة "ليبراسيون" نشر آخر حوارات هذه المعارِضة لحكم فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، أجري شهر نوفمبر 2018. في بعض الأمكنة مثل فرنسا أو إنجلترا. هذا الوصف ينطبق أيضا على إغنيس هيلر، وقد بلغت سن التاسعة والثمانين، سافرت كثيرا، قبل انتهاء المطاف بالتلميذة الماركسية لجورج لوكاتش إلى وضع أسس مدرسة بودابست. سنوات السبعينات لم تتردد هيلر، الرمز الفكري الهنغاري الكبير الرافضة آنذاك للنظام الشيوعي، في حزم حقائبها والرحيل صوب أستراليا.انضمت فيما بعد إلى حلقة المدرسة الجديدة جامعة نيويورك كي تجلس ثانية على مقعد حنا أرنت. وإن عادت اليوم للاستقرار في بودابست، تظل هيلر مع ذلك نشطة جدا، لاسيما بخصوص انتقادها لحكم فيكتور أوربان بحيث لا تتردد في وصفه ب"الديكتاتور"، ثم يرد عليها ومن خلال ذلك يوجه خطابه ضمنيا إلى جل المثقفين الرافضين لسياسته غير الليبرالية موظفا وصف: "عصابة هيلر". تطير من بلد نحو ثان، ومن محاضرة إلى لقاء معرفي، هكذا توقفت يوم الاثنين 26 نوفمبر في مسرح أوديون الباريسي كي تحضر مهرجان "ويكاند في الشرق". على بعد ستة أشهر من إجراء الانتخابات الأوروبية، التمست صحيفة "ليبراسيون" من هيلر المختصة في فلسفة التاريخ، الحديث عن كيفية مقاربتها للديناميات الكبرى المجتمعية والسياسية الجارية في أوروبا حاليا، فوجهت إليها بعض الأسئلة المنصبة على مفاهيم الحرية أو الوعي السياسي. هل يمكن تفسير نجاح التيارات الشعبوية، لاسيما في هنغاريا، بأزمة يعرفها التاريخ؟ أولا، ينبغي الالحاح على أن كلمة "شعبوية" ليست مناسبة على نحو جيد. لقد كان هيغو تشافيز شعبويا، مادام أنه دعم حقيقة الشعب. بينما الذين نقصدهم هنا قد خلقوا أوليغارشيات يزداد الفقير تحت كنفها فقرا ويتضاعف ثراء الغني. يلزم بالأحرى الحديث عن قومية إثنية أو إثنو-قومية. تأسس نموذج الحكم هذا استنادا إلى نظرية العِرق، حتى وإن لم يتجل ذلك بطريقة واضحة. نرى ذلك فعلا في هنغاريا، مع تمييز فيكتور أوربان بين القومية والمواطنة، بخلاف فرنسا حيث نلاحظ انصهار المفهومين. يتوجه أوربان بخطابه إلى الهنغاريين، ضمنهم الذين يعيشون خارج البلد، في دول مثل رومانيا، مشجعا إياهم لتهميش غير الهنغاريين مع أنهم يظلون مواطنين ينتمون للبلد نفسه. لكن بالعودة إلى سؤالكم. بعد سنة 1968، صارت مجتمعاتنا القديمة الطبقية مجتمعات جماهير. قبل هذا الوضع، مثلت الأحزاب مصالح طبقية. في مجتمعات الجماهير، توقفت الأحزاب التقليدية عن الوجود وأصبحت الانتخابات تحددها الأيديولوجيات، مثل القومية الإثنية. هذا ما فعله ماتيو سالفيني في إيطاليا. قد يكون دوتشيا (ديكتاتورا) من الدرجة الثانية، على أية حال فقد نال العديد من الأصوات. هل اختفت تلك الطبقات أم إن الأحزاب السياسية أخفقت في جعلها تتكلم؟ لم تعد موجودة.حتما، هناك أثرياء وفقراء، لكن من وجهة نظر سياسية أو سوسيو-اقتصادية، لا يعكس "الفقراء" و"العمال" الحقيقة نفسها، لأنهم فعلا أكثر اختلافا. وينطبق المعنى نفسه على تصويتهم. مثلا، في هنغاريا، انتخب قسم كبير من الغجر لصالح فيكتور أوربان. بالنسبة للعديد من البلدان، صارت بالمطلق أنظمة الأحزاب مائعة من وجهة نظر اجتماعية، ثم لا نعرف قط إن كانت طبقة معينة ستدلي بصوتها لفائدة هذه الحركة أو تلك. في خضم هذا السياق تنمو القوميات الإثنية، ويكمن السؤال إذن في كيفية إدراك إقناع الديمقراطيات الليبرالية الناخبين وفق مقاربات عقلانية. ألا يشير هذا إلى نهاية الفلسفة المعاصرة المدافعة عن الكونية أبعد من الخصوصيات القومية؟ أرى بالأحرى صراعا بين نزعتين. تتمثل الأولى في الكونية، التي تطورت مع فكر الأنوار، انطلاقا من فكرة مفادها توفر كل الكائنات البشرية على نفس كفاءة الوعي والفكر. بينما طورت الرومانسية مفاهيم الخصوصية والقومية. مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تجلت المواطنة العالمية بقوة، وتحلى قسم كبير من المثقفين بهذه الصفة. لكن في الآن نفسه لاحظنا ولادة مفهوم إمبراطوريات قومية مع وحدة إيطالياوألمانيا. في فرنسا، نصادف ثانية تيارا معارضا لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، الجامع ثانية بين التصورين. لكن ماذا يحدث حينما يدخلان في نزاع؟ عندما يتحدد مفهوم المواطن من طرف قوميين متمركزين على البعد الإثني، فسيتعارض مع حقوق الإنسان. إذا لم تختف هذه الكونية، فأين تقوم اليوم؟ إنها تمثل جانبا من وعينا التاريخي الحالي، متصلة بالاشتغال الإجمالي لعالمنا بحيث ما يحدث في جهة قد يمتد تأثيره نحو أمكنة بعيدة. من المهم تأمل عالم الفنون: إن ذهبتم إلى لابينال دي فينيسيا، فلا يمكنكم تحديد مكان إبداع لوحة من اللوحات، هل في إفريقيا الجنوبية، أمريكا اللاتينية، هنغاريا أو فرنسا، لن تتبيّنوا سوى بصمة المبدع على نتاجه. أيضا، في مجال التسلية، تُشاهد الأعمال نفسها أو يُستمع إليها، لكن في الميدان السياسي، لا نصادف ثانية هذا الطابع الشمولي. مثلا صادقت جل البلدان أو أغلبها تقريبا على الإعلان العالمي لحقوق، بيد أن جزءا كبيرا يسخر من مضامينه. تقوم الكونية كنظرية، لكنها غير مطبَّقة. لكن هل مازالت تملك دلالة على الأقل باعتبارها طوباوية؟ تتسم الحقبة التي نعيشها بانهيار الطوباويات. أكد ماركس أنه مع تحرر البروليتاريا، سيتحرر العالم قاطبة. وقد تحقق ذلك بشكل واسع – منذئذ فالعامل ناخبا مثل الآخر-على النقيض لم يتحرر العالم. أيضا، عايننا باستمرار مع الفكر التقدمي الأوروبي مسار تصور يقر بأن تطور التكنولوجيا والمعارف سيقود المجتمعات نحو التحرر. آنيا، نمتلك "السمارتفونات" نفسها، والفيزياء، ثم العلوم ذاتها على امتداد العالم. رغم ذلك، تنعدم الحرية والسعادة والعدالة في مناطق واسعة من الكرة الأرضية. لقد انهارت هذه الأوهام، وتجعلنا نلج حقبة ما بعد-الطوباوية. تنقصنا إذن سرديات جماعية؟ تأسس السرد الجماعي تقليديا في أوروبا على دعامتين؛ الأولى هي التوراة بينما تعود الثانية إلى الفلسفة والنظام المؤسساتي القديم لرومانيا والإغريق. مع الثورة الفرنسية، أخذ الجميع يرى نفسه رومانيا! لكن يتعلق الأمر هنا بسرديات أوروبية، ثم عبر تنوع ثقافات العالم، نجد سرديات عديدة مبنية، لكنها غير قابلة التعميم. على سبيل الذكر، تطلعت الكاثوليكية نحو أفق كلِّياني، دون نجاحها في تحقيق ذلك. ثم هل في إمكان سرد جماعي أوروبي التصدي للخطابات الإثنو-قومية؟ بوسعنا أن نبدع بطريقة مصطنعة سرديات جماعية. بكيفية ما، ظلت قائمة التوراة والتقاليد الرومانية. الفلسفة نفسها سرد ثقافي أوروبي، مغاير مثلا للحِكَم الآسيوية. تعتبرون أن الديمقراطية الليبرالية هي الأفضل من بين الديمقراطيات الممكنة، لماذا؟ يستحيل إنقاذ فكرة الكونية إلا بالاستناد إلى أسس الديمقراطية الليبرالية. بعد القرن العشرين تم تقويض جميع الديمقراطيات الأوروبية في أوروبا وخلفت الإثنو-قومية وراءها ملايين الجثث، بالتالي اقتضى الوضع من الديمقراطية الليبرالية أن تعيد ثانية الأفكار إلى موضعها: يلزم بعث فكرة مونتسكيو القديمة المتعلقة بفصل السلط وتكريس سيادة الشعب، فلا يمكن إبداع أفضل من ذلك. لكن يتعلق الأمر بنظام قابل جدا للعطب، يفتقد لتجليه الطبيعي، بما أن مؤسسيه لم يحيلوا دائما على فكرة الطبيعة البشرية من أجل البرهنة عليه. قبل الديمقراطية، تواجد باستمرار رجل في تاريخ البشرية، يهيمن انطلاقا من كونه الأب الصالح للعائلة، ثم يعقبه ابنه، باسم تبرير إلهي. على الديمقراطيين النضال ضد فكرة أن الأسرة بمثابة نموذج للحكم يظل قائما. عندما لا تتجذر الديمقراطية الليبرالية بعمق، يمكن بسرعة شديدة تغيير توجه الأشخاص. لذلك يستطيع فيكتور أوربان التأثير بسهولة: تنعدم الديمقراطية في هنغاريا، باستثناء فترة قصيرة لم تتجاوز خمسة عشر سنة بعد سقوط الجمهورية الشعبية الهنغارية سنة 1989. في نهاية المطاف عاد النظام القديم. هل مازالت بحسبكم جذور الليبرالية قوية مع تصاعد التيارات الشعبوية داخل العديد من بلدان العالم؟ كان التاريخ الفرنسي منازعا جدا للديمقراطية الليبرالية. هكذا تركت الجمهورية الأولى مكانها إلى اليعقوبية ثم البونابرتية، حينما أعقب نابليون الثالث الجمهورية الثانية. لكن ما شهدته فرنسا دائما، تمثل في التزام جانب من المجتمع الفرنسي لاقتحام الحواجز دفاعا عن الديمقراطية الليبرالية. هناك دائما جماعة تصمد في سبيل توطيد الفكر والثورة. أثق أيضا في البلدان الأنغلوساكسونية، رغم الوضعية الحالية. يمكن لبريطانيا العظمى التفاعل، حتى وإن لاحظنا أحيانا داخل فضائها سيادة نزعة محافظة قوية ثم حزب عمالي متهم بمناهضة السامية. لكن الوضعية أكثر مأساوية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ماذا تحديدا عن أمريكا ترامب؟ تلك حالة مختلفة تماما، يسود هناك الكثير من العنف، والعنصرية والاضطهاد. لكن على الدوام، بوسع فئة داخل المجتمع المبادرة كي تستعيد زمام الأمور. لا يقتضي الوضع بتاتا الرهان على قدوم جيش أجنبي لبناء الديمقراطية الليبرالية. بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية، الأمريكيون أنفسهم من تحمل مسؤولية تثبيتها أو إعادة توطيدها. هل يسمح فكر اقتحام الحواجز هذا بشرعنة نوع من العنف؟ باستثناء شرعية الحروب الدفاعية، لا يمكن أبدا تبرير العنف. لا أقصد هنا حق مواطن، يلزمه التطلع أساسا إلى تبني أساليب سلمية قصد مقاومته نظاما يرفضه. في المقابل، بوسعنا تصور حق أخلاقي للعنف عندما نحرم من حقوقنا الإنسانية. اليوم، ينبغي لنا بالأحرى الشعور بالهلع نتيجة نمو العنف وانتشاره في أوروبا، لأنه يشكل أرضية للقومية الإثنية. أي موقع لفرنسا الحالية بالنسبة للفلاسفة الهنغاريين؟ خلال القرن العشرين، توجهت الفلسفة الهنغارية كثيرا نحو ألمانيا. إن مثَّل هيدغر غاية الوقت الحالي رمزا أساسيا، فالفلسفة الفرنسية تحظى بالتأثير الأكبر. يتمتع ديريدا باهتمام مميز. فيما يخصني، تعرفت على فوكوا وديريدا الذي ألقيت برفقته درسا مشتركا حول الصداقة في نيويورك وقد أتى إلى هنغاريا خلال مناسبات عديدة. ماذا بوسع فكر ماركس أن يقدمه للمدافعين عن الديمقراطية الليبرالية؟ بخصوص الديمقراطية، لا يمكننا استلهام الشيء الكثير من ماركس، يستحسن في هذا الإطار العودة إلى ألكسيس دو توكفيل أو مونتسكيو. في المقابل، يمكننا قراءة ماركس لنتعلم كيفية الشعور بالغضب نحو العالم.