إذ يعود الحديث مجددا عن الزعيم الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، ودوره في ضمان الانتقال السلس للعرش سنة 1999، عند وفاة الملك الحسن الثاني، واعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم، فإن الموضوعية تبدو ملحة في استحضار العناصر الكاملة للسياق السياسي الذي مهد لهذ الانتقال السلس، ورافق مجرياته. واستقصاء لذلك، فإن المعادلة السياسية التي احتضنت زمنئذ هذا الانتقال، كانت ترتسم على مسرح الواقع السياسي المغربي بوجود طرفين، لم يكن فيها عبد الرحمان اليوسفي سوى طرف منها، في حين كان الطرف الآخر المقابل هو الدكتور عبد الكريم الخطيب، شريك اليوسفي في العمل الوطني، والزعيم الإسلامي الذي رعى الحركة الإسلامية بالمغرب، ظاهرا وباطنا، وفي جميع مراحلها، منذ جنينيتها وإلى فترة تألقها سياسيا، هذا فضلا عن دوره النافذ واليقظ في رعي انعقاد البيعة المشرعنة لهذا الانتقال، رعيها طقوسا وشكلا ورسما وجوهرا. ففي سنة 1996 وعندما انتهى الملك الحسن الثاني من مفاوضة المعارضة السياسية على أساس الشراكة في حكم البلاد، وفي صلب هذه المعارضة حزب الاتحاد الاشتراكي، الحزب الوريث للقوى المناهضة للنظام السياسي، وعندما قرر الحسن الثاني منح صدارة الحكم لهذا الاتحاد الذي كان هو قلب اليسار المغربي وعقله وسواده الأعظم، وكان في بداية تاريخه يواجه النظام السياسي في طبيعته وفي نسقه الملكي، وقد كان هذا القرار الملكي التاريخي من أجل حماية الاستقرار السياسي وضمان استمرارية النظام السياسي. في هذا المنعطف التاريخي، بادر الملك الحسن الثاني إلى اتخاد قرار استراتيجي آخر يعزز به قرار منح صدارة الحكم للمعارضة الاتحادية، وذلك حفاظا على التوازن السياسي بين القوى كدعامة أساسية للاستقرار والاستمرارية، وهو القرار التاريخي الذي ضمن للإسلاميين اللحاق بالركب السياسي، بإلحاقهم وإدماجهم في الحياة السياسية، عبر بوابة الحركة الشعبية الدستورية، وتحت وصاية ورعاية ورقابة الدكتور عبد الكريم الخطيب، الزعيم الوطني في حرب التحرير وشيخ المدافعين عن المؤسسة الملكية. وعبر هذا القرار الملكي التاريخي بضمان توازن القوى، خرج الدكتور الخطيب إلى الساحة السياسية من جديد، بعد أن كان متواريا في غمرة الكمون والحياد، وخرج لإنجاز وضبط المشروع الخطير، مشروع تسييس الإسلاميين، وهو المشروع الذي كان يتشبث به منذ 1967، ويرى من خلاله قيام الحزب الإسلامي كوسيلة للدفاع عن المؤسسة الملكية والثوابت الدينية للمملكة، في مواجهة زحف الحركة الاتحادية ومخاطر اليسار، غير أن الحسن الثاني كان يمانع في ذلك ويتحفظ عليه. وهكذا أصبح المشهد السياسي الجديد قائما على التوازن السياسي، بإدماج اليسار التقليدي: الاتحاد الاشتراكي، في السلطة والحكم، وبإدماج جزء من الحركة الإسلامية في المشهد السياسي، التوازن بين القطب الذي يقوده عبد الرحمان اليوسفي، زعيم المعارضة اليسارية والحركة الاتحادية المناهضة سابقا للحكم الملكي، والقطب الذي يقوده عبد الكريم الخطيب، زعيم الدفاع عن المؤسسات الدستورية والفاعل التاريخي في تعزيز المؤسسة الملكية بالمرجعية الدينية ومؤسسة إمارة المؤمنين. إذن، فقد نشأ حزب العدالة والتنمية في أحضان استراتيجية وطنية تبتغي تحصين الاستقرار السياسي عبر سبيل إحلال التوازن في البلاد بين القوى والتيارات السياسية، وقد تأتى لفريق من الإسلاميين أن يخدموا هذه الأهداف الوطنية بالتفافهم حول الدكتور الخطيب وهو رجل الدولة، ورجل المؤسسة الملكية، وابن دار المخزن وابن الحركة الوطنية وابن الكفاح الجهادي التحريري. خلاصة القول، إن الدينامية السياسية التي دفقتها في شرايين الحياة السياسية المغربية الاستراتيجية الدقيقة التي منحت للاتحاد الاشتراكي سلطة الحكم بزعامة عبد الرحمان اليوسفي ورئاسته للحكومة، ومنحت من جهة أخرى لشق من الحركة الإسلامية حق الوجود السياسي بزعامة عبد الكريم الخطيب وتحت إمرته، هذه الدينامية السياسية، التي وضعت تقابلا وتوازنا سياسيا بين شيخ اليسار عبد الرحمان اليوسفي، وشيخ المحافظين عبد الكريم الخطيب، هي التي كلأت بشكل فاعل لحظة الانتقال السلس للملك. وهي الدينامية ذاتها التي أكسبت حزب العدالة والتنمية مشروعية الوجود والدور والغاية، فتقوى عبرها، ومكنت اليسار من النفاذ في نسيج الدولة، فتشرذم بعدها.