تعتبر سنة 1999 سنة مفصلية وحاسمة في تاريخ مغرب يتسع لجميع جهاته، عشريتان من حينها تميزتا بإصلاحات شاملة ونوعية جعلت من المغرب نموذجا يحتذى به داخل سياق إقليمي محفوف بالمخاطر، اعتبارا لكون البيئة الأمنية هي المساهمة الرئيسية في توفير الاستقرار واستتباب الأمن والأمان، التفاتة تاريخية عرفها مطلع العشرية الأولى تجلت في المنحى السياسي المنتصر لدولة الحق والقانون، المعلن عنه في أول خطاب للعرش في 30 يوليوز 2000 الذي جاء فيه: "غايتنا المثلى تضميد الجراح وفتح صفحة جديدة تكرس فيها كل الطاقات لبناء مستقبل مغرب ديمقراطي وعصري وقوي لمواجهة المشاكل الحقيقية والملموسة لأجياله الصاعدة...". وبذلك كانت حصيلة اشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2006 أهم حدث عرفه المشهد الحقوقي خلال حكم عاهل البلاد الملك محمد السادس، كان الحقل الديني كذلك من أهم انشغالاته ومن أهم التغييرات الأساسية، سواء على مستوى قانون الإرهاب عبر تشديد العقوبات؛ اذ تمت المصادقة على القانون المذكور خلال الولاية البرلمانية السابقة، أو عبر تبني الدولة بشكل كلي للحقل الديني عن طريق ضبط المرشدين والمؤسسات الدينية والإعلام الديني، علما أنه تم التوقيع على ما يقارب 400 اتفاقية دولية كالبروتوكول الدولي لمناهضة التعذيب، واتفاقيات مناهضة الفساد، والاتفاقيات المرتبطة بمحاربة الجريمة المنظمة والإرهاب. كما أن المصادقة على مدونة الأسرة ودخولها حيز التنفيذ سنة 2004 تعتبر قفزة تاريخية تحسب لملك البلاد رفعت الحيف عن النساء ولا تعتبر مكسبا للمرأة وحدها، بل هي دعامة للأسرة المغربية المتوازنة، ولئن عرفت حاليا بعض الثغرات، فان مقترحات التعديل ستجوّد لا محالة هذه الترسانة القانونية المهمة. يضاف إلى ذلك تركيز قوي في مختلف الخطابات على أن العاهل ملك لجميع المغاربة ويعتز بالانتماء لحزب المغرب ولا فرق لديه بين مكونات الهوية المغربية التي ترسخ الوحدة الوطنية، وأن النقاش المبني على التعصب والتفرقة مرفوض ولا يسمن ولا يغني من جوع، معتبرا أن الجهوية المنشودة يجب أن تكون استثمارا للتنوع البشري والطبيعي والتمازج والتضامن والتكامل بين جميع أبناء الوطن ومناطقه، مع التأكيد على استيعاب المفهوم الجديد للسلطة المتمثل في تطبيق القانون وتفعيل آليات الضبط والمحاسبة ومحاربة الفساد لكونه ليس قدرا محتوما، وأنه ليس من العيب أن تكون الدولة قوية بمواطنيها ورجال أمنها، غير راض بأي ضغط قد يواجهه المغرب بسبب وحدته الترابية وسيادته التي هي من ثوابته الأربعة المنصوص عليها دستوريا، علما أن الصحراء المغربية أصبحت قطبا اقتصاديا مهما بدون منازع، مؤكدا أن المغرب ليس محمية وانفتاحه لا يعني تغيير مواقفه وتوجهاته، مدركا استراتيجية وأهمية التعاون جنوب-جنوب. إلى جانب الانفتاح على دول أخرى والشراكة مع الاتحاد الأوروبي والتعامل على أساس رابح-رابح، وليس التبعية، مع وضع توازنات شرق غرب لأهمية علاقة المغرب بالولايات المتحدةالأمريكية، ومواجهة التغيرات المناخية واعتماد الطاقة البديلة، ولعل إنجاز محطات الطاقة الشمسية بورزازات التي أصبحت ذات صيت عالمي أكبر دليل على تحقيق المشاريع على أرض الواقع، وهي مشاريع ضخمة لإنتاج الطاقة النظيفة من الشمس والرياح والمياه وتغطية 42 في المائة من حاجات البلاد من الطاقة لتصل إلى 52 في المائة في أفق 2030. من جهة أخرى، فإن التركيز على مصلحة المواطن كانت أهم الرسائل المستنتجة من مختلف الخطابات: توجيهات للمسؤولين والمنتخبين المطالبين بخدمة المواطن، وللناخبين المطالبين بتحكيم ضمائرهم مع التشديد على الكفاءة والمصداقية لكون التصويت أمانة ووسيلة لتغيير التسيير اليومي، وإصلاحات تنموية ومبادرات همت جميع جهات المملكة قطعا مع ما كان سائدا من مغرب نافع وآخر غير نافع، وأوراش كبرى فتحت في مدن المملكة، مثال ذلك جهة الشرق التي تعرضت للتهميش والاقصاء شهدت قفزة نوعية بعد الخطاب الملكي التاريخي المؤرخ في 18/03/2003 الذي أعطى الانطلاقة للأوراش الكبرى مثل الطريق السيار وكلية الطب والمركز الاستشفائي الجامعي والمدارس العليا ومراكز تجارية وإنجاز المحطة السياحية بالسعيدية ومحطة مارشيكا بالناظور، وتأهيل المطارات، وإحداث المراكز التجارية الكبرى، وإنشاء المدارات الطرقية التي فكت العزلة عن المناطق النائية. وإذا كان فتح الحدود بالنسبة للمناطق الحدودية يساهم في تحسين الوضعية المادية للساكنة عن طريق التكامل الاقتصادي، وهي عملية تعثرت، فان ذلك لم يمنع من كون جهة الشرق لم تعد جهة تأديب كما كانت، وإنما تتوفر على جميع المرافق الحيوية من مطارات وطرق وميناء بالناظور وقطب فلاحي ببركان، والوعاء العقاري والمحاكم المتخصصة، وجميع مواصفات المدن الصاعدة. ومهما يقال عن مشكل البطالة وعدم وجود معامل بالقطب الصناعي، فان ذلك راجع إلى سياسات حكومية فاشلة لم تلتفت إلى تحفيزات ضريبية تستقطب المستثمرين، وراجع إلى تركيز رجال المال والأعمال بالجهة على تشييد المقاهي وقاعات الحفلات والحمامات ليس إلا، مع انعدام مدارس أو جامعات تخرج مدينة السعيدية من الاحتضار مدة عشرة أشهر، علما أن صاحب الجلالة في خطاب العرش لسنة 2014 شخص واقعا حلل فيه معاناة المغاربي من جراء استمرار إغلاق الحدود وإسدال الستار الحديدي بين المغرب والجزائر، كما أن خطاب 20 غشت 2016 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب أشار إلى ارتباط المغرب بمحيطه انطلاقا من تاريخ مبصوم بتضامن المغرب المطلق عبر التنسيق بين قيادات المقاومة المغربية وجبهة التحرير الجزائرية. كما أن مطلع العشرية الثانية تميز بدستور رفع سقف الحقوق والحريات، وعبر عن الإرادة القوية للدولة المغربية في اتجاه تكملة مسار الإصلاح الديمقراطي وتنزيل الأوراش التي من شأنها تحقيق العدالة المجالية وتجسيد النموذج المرتكز على قيم التضامن والتماسك الاجتماعي بغية تحسين ظروف العيش وتخفيض نسب الفقر. ولعل بطاقة راميد التي استهدفت الفئات المعوزة حققت نتائج إيجابية على أرض الواقع في مجال التغطية الصحية والاستفادة من مجانية العلاجات الطبية، كما أن ورش الجهوية الموسعة تنزيلا لمقتضيات الدستور والقوانين التنظيمية المصادق عليها خلال الولاية البرلمانية السابقة، من شأنه خلق التوازن بين الجهات وتقليص التفاوت عن طريق صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات، علما أنه أصبح لرؤساء الجهات الاثني عشر اختصاصات وسلطات أوسع انتصرت لإشراك المواطن عبر آليات الديمقراطية التشاركية. ورش استقلال القضاء والارتقاء به كسلطة واستقلالية النيابة العامة بمنحى حقوقي كان حدثا بارزا خلال العشريتين، كما أن الترسانة القانونية، سواء تعلق الأمر بالقوانين التنظيمية المكملة للدستور أو القوانين العادية، بدورها عرفت مناقشات مستفيضة من خلال الندوات والمناظرات ومختلف وجهات النظر، وهمت الإصلاحات الملكية قوانين الأسرة والأحزاب والجمعيات والجنسية في تناغم مع مغرب عصري متطور ومتشبث بهويته التاريخية الغنية والمتنوعة، علما أن المغرب مطالب بملاءمة تشريعاته الوطنية مع الاتفاقيات الدولية طبقا لتصدير الدستور المعتبر جزء منه. وبذلك، فان اكتساب مهارات الصياغة التشريعية وإعداد النصوص والمقترحات والتعديلات وتجويدها هي مسؤولية بين الجهات الحكومية التي تتقدم بمشاريع القوانين والبرلمان الذي يأتي بالمقترحات حتى تتلاءم مع حاجيات المجتمع ولا تحدث الظلم أكثر مما تشيعه من عدل، خصوصا وأن التشريع انتقل من القومية إلى العالمية. ختاما، لا يمكن طبعا الإلمام بجميع منجزات العشريتين المنقوشة بمداد الفخر والاعتزاز في ذاكرة المغاربة، ولكن الطريق ما زال طويلا وشاقا ولا يمكن للمسار التنموي تحقيق العيش الكريم للمواطن إلا بتضافر الجهود وتحمل كل مسؤول لمهامه بجدية وإخلاص وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، وربط المسؤولية بالمحاسبة مع عدم الإفلات من العقاب، وتحمل المواطن لمسؤوليته في اختيار المنتخبين القائمين على الشأن المحلي. *محامية برلمانية سابقة