شمس حارقة تكاد أشعتها تذيب الأمخاخ في الجماجم. صفان طويلان من السيارات المرصوصة خلف بعضها البعض. شرطي بقامة طويلة وأكتاف عريضة وذو شارب كث، ينفخ في صفارته بملء رئتيه. مارة يمشون الهوينى على الخطوط البيضاء بعد فتح الطريق أمامهم. تلك أجواء إشارة المرور التي أجبرتني على التوقف، وأنا في غاية الاستعجال.. أرغمني لونها الأحمر على الامتثال لأمره الصامت وانتظار الضوء الموالي. خلال دقائق الانتظار تلك، صرت أتساءل من أين تستمد هذه الإشارة سلطتها؟ أ من الطابع الثوري للون الأحمر؟ أم من التوافق الكوني عليها لتنظيم حركة السير؟. انعكست حمرة الإشارة على وجهي وصرت أتصبب عرقا، إلى درجة أنني رغبت في خلع وشاحي وفك أزرار سترتي. رغبة في تلطيف الجو، عمدت إلى تشغيل مكيف هواء السيارة. حينها سمعت صوت قرع على زجاج النافذة.. توجهت بناظري نحو مصدر الصوت، إذا بها سيدة يبدو من لون بشرتها وملامح وجهها العريضة أنها تتحدّر من إحدى البلدان الإفريقية. أنزلت الزجاج قليلا، فسمعتها تنطق بالكاد بضع كلمات باللغة العربية: سلام.. فاطمة.. درهم.. سبيل.. الله.. قامت هذه السيدة بتغيير اسمي دون إذن مني.. أمر اعتدناه من أمثالها، إذ تصير كل النساء "فاطمة"، وكل الرجال يصبحون "محمدا" في إشارات المرور.. إلا أنني اعتبرتُ كلماتها المقتضبة ذكاءً مهنيا من طرفها، ما دامت اختارت أن تستجدي المارة وأصحاب السيارات بما تعلمته من لغة أصحاب البلد..كيف لنا أن نفهم قصدها إن هي قدَّمت طلبها بِلُغتها الأم؟. استوقفتني ألوان ثوبها الفاقعة وإظهارها كل كتفيها وبعضا من ظهرها.. وجدتُني أتفحص قدها الفارع والامتلاء الغريب لبعضٍ من جسمها، وشعرها الأشعث الكثيف الذي جدَّلته ضفائر متعددة. بالجهة الأخرى من السيارة، وقفت امرأة ثانية، ترتدي عباءة سوداء وتضع وشاحا على رأسها، تسللت من تحته بعض من خصلات شعرها البني..كانت ملامحها جد متناسقة، وبشرتها تشع بياضا وخالية من كل عيب. تمتلك تلك السيدة عينين فاتنتين إلى درجة جعلتني أمعن النظر في لون العسل الذي يفيض منهما.. نظراتها العميقة والدمع الواقف على أطراف عينيها، كانا أبلغ من أي كلام يمكن أن ينطق به لسانها. اكتفت برفع قصاصة ورق مكتوب عليها:"عائلة سورية تحتاج للمساعدة". مددت يدي للعلبة التي أضع بها عادة قطع النقود التي أحتاجها لأداء ثمن ركن السيارة، فلم أجد بها سوى درهم يتيم..يا له من موقف محرج. أحسست بضيق في صدري، كما أن حرارة جسدي استمرت بالارتفاع أكثر فأكثر، رغم انبعاث هواء منعش من فوهات المكيف. صرت ألتفت ذات اليمين وذات الشمال، ثم أحذق بالدرهم دون أن أجد لنفسي مخرجا. كلتاهما تحاصرني بنظراتها، إلى درجة أنني تمنيت لو وجدت العلبة فارغة، وكنت سأخرج ساعتها من باب "النية أبلغ من العمل" دون أدنى حرج. بدت لي المهمة في غاية الصعوبة رغم بديهية الوضع، وذاك بسبب غياب معيار تفضيلي منصف بين السيدتين، أيهما أختار؟ أيهما أجدر بالمساعدة؟ أ تلك التي تحلم بالعبور للضفة الأخرى للمتوسط؟ أم تلك التي أرغمتها ويلات الحرب على الفرار من بلدها؟. بطل المشهد كان ذاك الدرهم الذي ارتفعت قيمته بارتفاع مدى حيرتي واستمرار إلحاح السيدتين على الظفر به.. كيف لهذا الملعون أن يصير ذا شأن عظيم، وهو لا يتعدى أن يكون قطعة نقدية صدئة لا تف حتى بثمن رغيف خبز؟. حيرة تعاظمت مع تعاقب الثواني واستمرار نظرات السيدتين للدرهم في يدي..حيرة تحولت إلى ارتباك حين ترامت إلى مسامعي أصوات منبهات السيارات التي تتأهب للمغادرة بعد أن تلونت الإشارة بالأخضر دون أن أنتبه لذلك. غضب الشرطي العملاق، وحركات يديه العصبية الدالة على عرقلتي لحركة المرور، جعلني أعيد الدرهم لمكانه وأنطلق كالسهم دون أن أحسم موقفي من السيدتين كلتيهما، بل من القضيتين ككل. لم أستطع تحديد موقفي لا من جذور بلدي التي قيل إنها تمتد إلى أعماق إفريقيا، ولا من انتمائه العربي ولحمة بلدانه التي باتت كلاما فضفاضا ولا تتعدى أن تكون سوى حبر على ورق.