قال سعيد ناشيد، كاتب مغربي باحث في التاريخ الاسلامي، إن "النص الديني الإسلامي يشهد تضخما كبيرا، بعد ضم النص الحديثي هو الآخر إلى النص القرآني، وذلك بالرغم من أن الرسول محمد لم يطلب أن تروى عنه أحاديث، مشيرا إلى أن القرآن دوره هو التعبد فقط، ولا يجب إقحامه في أمور التدبير، لأنه يجيب أناسا كانوا في الماضي، أما في السياق الحالي فهو بعيد عن أسئلة المجتمع. وأضاف صاحب كتب "الحداثة والقرآن" و"قلق في العقيدة" و"التداوي بالفلسفة"، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن "القرآن مفتوح على تأويلات متعددة، ولا يمكن اعتباره دستورا مباشرا ينظم أمور الناس، مشيرا إلى أن الإسلام السياسي هو الذي كرس مثل هذه المفاهيم التي تسببت في خراب روحي كبير للناس وجعلتهم يفرون من الابداع ويخافون من كل جديد. وإليكم نص الحوار: بداية، بدون شك أنت تتابع الجدل الدائر حول "صحيح البخاري" ومدى صحة الأحاديث الواردة فيه، ورغم أن الرسول محمد سبق وطلب ألا ينقل عنه أي شيء، إلا أن الأحاديث النبوية تسللت إلى المنظومة الفقهية وأصبحت مرافقة للنص القرآني، كيف تفسر الأمر؟ وكيف ترى النقاش الرائج حاليا؟ السؤال يندرج ضمن أكبر إشكاليات التراث الإسلامي، ويتعلق الأمر بتضخم النص الديني حيث لم يعد يقتصر على النص القرآني كما كان في عهد الرسول والصحابة والتابعين الأولين، ومرد هذا التضخم هو ضم المتن الحديثي بكل صحاحه. هذا التضخم أدى كذلك إلى تضخم السلطة التي ستستبد بعقل المسلم وتكبل قدراته على الابداع وبناء الحضارة، عكس الدين بالحس السليم الذي هو المسافة الفاصلة بين آية "اقرأ" وآية "اليوم أتممت لكم دينكم". عندما نزلت هذه الآية، فذاك يعني أن الدين اكتمل. بمعنى أن الدين لا يحتاج لمن يكمله، لا صحاحا ولا فتاوى، الرسول نفسه قال: "لا تكتبوا عني شيئا ومن كتبه فليمحه"، وبالتالي النص المرجعي هو القرآن، وهذا ما يفسر انضباط عمر بن الخطاب ومنعه رواية الحديث عن الرسول؛ فقد أدب، كما قيل، أبو هريرة مرات عدة لأنه لم ينضبط، ولم يتمكن أبو هريرة من العودة إلى رواية الحديث إلا بعد وفاة عمر بن الخطاب. وبالنسبة لي، مشكلة المتن الحديثي ستبدأ بشكل واضح مع ابن حنبل، وهنا لا أقصد مذهبا محددا، بل لأنه كان ذا تأثير كبير على ابن تيمية، الذي سيعتبر في سياقات معينة شخصا مرجعيا. ابن حنبل يقول بالحرف: السنة قاضية على القرآن، بمعنى مركز الثقل انتقل من القرآني إلى الحديثي، وهذا ما ساهم في تعطيل العقل المسلم. النص الديني يتعرض لانتقادات كثيرة تحمله مسؤولية الوضع الراهن، هل يكفي في نظرك تعطيل النص من الحياة اليومية أم إن الأمر مرتبط بنزع طابع القداسة عنه داخل وجدان الناس؟ ما هي وظيفة النص الديني؟ هل هو مرجع للتشريع كما تعتبره مرجعيات معينة مثل التراث الفقهي والإسلام السياسي، اللذين يتصوران "القرآن دستورنا"، أم إنه وسيلة للتعبد وهذا قولي؟ لا يجب أن نستنبط منه أحكاما، فأفعال الأمر الواردة في القرآن لا تعنينا، لسنا نحن من أمرنا بفعل ذلك، بل أشخاص محددون في الزمان والمكان والسياق. عندما تقول الآية اقتل أو اقطع الرقاب، هي تتحدث عن معركة محددة ومعروفة، إخراج الأمور عن سياقها هو المتسبب في كل الكوارث التي نعيشها. ماذا فعل مثلا عبد السلام فرج في كتابه "الفريضة الغائبة"؟ قال إن القتال فرض عين على كل مسلم، بمعنى يتم نقل أفعال الأمر من الماضي إلى مأمورين مطلقين غير محددين. القرآن نصلي ونتعبد به فقط، وهذه هي وظيفته الأصلية، ثم كذلك بدل استنباط الأحكام، نستنبط القيم الوجدانية اللازمة في بناء الحضارة، مثل الرحمة والمحبة، الفقهاء اكتفوا بالأحكام، وأنتجوا العديد من المفاهيم التي تشكل عائقا أمام بناء الدولة الوطنية. وسط "دعاة" التنوير، تنقسم طبيعة التعاطي مع النص الديني بين القطيعة النهائية أو الإصلاح، ألا ترى أن جمود النص وتباثه يصعب إصلاحه ودليل على عدم قدرته على التكييف مع تحولات المجتمع وحركية التاريخ؟ ليس المطلوب من القرآن أن يجيب أصلا عن سؤال، أو حتى أن نطرح عليه سؤال، بالحس التاريخي السليم يتضح أن الآيات تعني أشخاصا مغايرين، أما نحن فأسئلتنا تختلف، فكلمة دستور لم ترد في القرآن الذي وصف نفسه بالعديد من العبارات، ليس ضمنها الدستور، فضلا عن كون الخطاب القرآني ليس متناسبا مع الدستور من خصائصه من حيث البناء. فالدستور يكون مباشرا، أما القرآن فهو قابل للتأويل، هامش مفتوح إلى درجة وصفه بحمال أوجه، وقال علي بن أبي طالب لما بعث ابن مسعود إلى الخوارج: "لا تجادلهم بالقرآن فإنك تقول وهم يقولون"، يعني هو حمال أوجه. لكي تنتهي الخدائع يجب الايمان بأن القرآن له وظائف تعبدية، ونستنبط منه الوجدان والقيم الروحية مثل الرحمة والمحبة وبناء الإنسان، وليس بناء الدولة والدستور، وغيرها. دائما ما تطرح في كتاباتك معطى تفادي "العيش في الوهم"، وتقترح كبديل "التداوي بالفلسفة" عنوان كتابك الأخير، هل ترى المغاربة بعد كل هذا التراكم التاريخي قادرين على الشفاء؟ وهل الفلسفة كفيلة بذلك؟ في الحالة الدينية التي يعيشها المجتمع، هناك تحول في اتجاهين متناقضين، موجة خروج من الدين عبارة عن احتجاج عن عدم تلبيته لتطلعات الأجيال الصاعدة، واتجاه آخر يتجه نحو التطرف. دورنا هو إقناع الطرفين معا، المتدينون: لا يمكن أن نحافظ على الدين بالشكل الموروث، لا بد من إصلاح ديني. الإسلام لن يستمر بهذا الشكل مستقبلا، يجب إصلاحه من حيث خطابه ومفاهيمه وقيمه. أشياء كثيرة لا يمكن أن تستمر، هل في كل جمعة سنقول "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، نحارب الإبداع الذي هو عماد بناء الحضارة، إذا تخوف الناس من الإبداع فالشلل ينتظر الطاقة الإبداعية، وما معنى "اللهم شتت شملهم ويتم أولادهم"، هذا الحجم الخطير من الكراهية غير مقبول. الخطاب الديني أخل بوعد الدين، وهو تحقيق الطمأنينة والسكينة، وأصبح ينتج خطابا يؤجج الانفعالات السلبية مثل الخوف والكراهية. وفي المقابل، الذين يخرجون من الدين، وبالمناسبة هو شأن شخصي فردي لا نقاش فيه لكنه لا يمكن أن يصبح مشروعا مجتمعيا، خروجهم ليس دائما سليما إن لم توازه آليات محددة. "التداوي بالفلسفة" جاء بعد لقائي بأشخاص مروا من تجربة التطرف في أقصى مراحلها، وبعدها خرجوا من الدين، لكن في الأمر اختلال كبير، لأن منظومتهم الأخلاقية بنيت على الدين، وانهارت بعد ذلك، لأنهم لم يؤسسوها مدنيا، ودورنا الآن من خلال الفلسفة هو الترميم الروحي لأجيال بنت أحلامها على أوهام الإسلام السياسي، أوهام أن الغرب سينهار قريبا، والإسلام والخلافة سيعودان، وفلسطين ستتحرر عاجلا. المغاربة لا يواجهون فقط تراكم الماضي، هناك أيضا بديل يطرح نفسه كحل للمشاكل القائمة، هو الإسلام السياسي، وقد وصل إلى الحكم ويمارس الدعوة بقوة، ألا ترى أن صعود الإسلاميين بهذا الشكل يصعب مأمورية التنوير؟ الإسلاميون لا أجندة سياسية أو اقتصادية لهم سوى تطبيق تعاليم صندوق النقد الدولي، ولنعترف لهم بالنجاح، فقد أسدوا خدمات جليلة للجهات المانحة من خلال برامج التقشف. وبالتالي، العولمة الرأسمالية ما تزال تحتاج هذه الأطراف فهي تسدي لها خدمات كثيرة. بالموازاة مع هذا، القوى المالية لا تهتم سوى بالعوائد المادية، ولا تلتفت للدمار الثقافي الذي يخلفه الإسلام السياسي، فما جرى ليس له مثيل، تم مسح الطاولة من كل المكتسبات الثقافية السابقة، مسح حركات التحرر، قدم نفسه بديلا مطلقا للشعب الذي انتهت ذاكرته، وعادت إلى الصفر. المشكل هو أن زمن الإسلام السياسي محدود، لكن بعد نهايته سيكون قد خلف لنا خرابا أخلاقيا. كل ما تبنيه أدلجة الدين هو النقاق الأخلاقي والديني، أن يكون الإنسان بوجهين، واحد في الرباط وآخر في باريس، وجه في الانتخابات ووجه في الملتقيات الدعوية، وآخر أمام أمريكا ووجه أمام القواعد والأتباع. علاقة بهذا، تتصاعد العديد من الأصوات والتوجهات داخل صف اليسار وتدعو إلى التنازل عن مطلب الحداثة مقابل ديمقراطية يشرك فيها الإسلاميون، هل ترى التنازل عن سقف الحداثة لصالح الديمقراطية مفيدا؟ هذا غباء من طرف بعض اليساريين، فلا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين، جرب هذا في إيران وجنوب لبنان وسوريا، لكن النتائج مكلفة، الإسلام السياسي يمسح الطاولة. الدرس السوري يوضح هذا بالملموس، فالمفكر السوري ياسين الحاج صالح كان من الداعين إلى الثورة السورية بشكل يتحالف فيه جميع المعارضين، ماذا حدث؟ زوجة اختطفتها جبهة النصرة، وأخ اختطفه "داعش"، وكلا التنظيمين الإرهابيين محسوبان على المعارضة. المتوقع في لحظة سابقة هو أن تيارات الإسلام السياسي قد تجتهد بفعل الممارسة السياسية، لكن العكس ما يجري، واليسار الباحث عن التحالف مع الإسلاميين منتحر وحاقد ينم عن رغبة في هدم المعبد على الجميع، وهذا لا يليق أبدا.