مواقف مشرفة وذاكرة تاريخية خصبة 1 يعتبر البحث في ظاهرة الزوايا من صميم الدرس التاريخي والمجال الرمزي، مما يدخل عادة في تاريخ المؤسسات والذهنيات لشمال إفريقيا والمغرب الأقصى على وجه الخصوص، ذلك أن مؤسسة الزاوية لعبت أدوارا هامة وخطيرة على الأقل منذ القرن السادس عشر الميلادي، إثر تكالب الاحتلال الإيبري على الشواطئ المغربية أمام عجز السلطة الوطاسية عن احتواء الموقف، فلم يجد المغاربة سوى الزوايا وبعض الأسر والمجموعات القبلية والطرقية للدفاع عن وطنهم ودينهم كآل المنظري بتطوان وزاوية بن ساسي وبن راشد بشفشاون والمرابط ابن يجبش التازي ثم الزاوية الشاذلية الجزولية بالجنوب، (نسبة إلى ابن سليمان الجزولي أحد أهم أقطاب الطريقة الشاذلية بسوس والمغرب الأقصى). اختلفت المقاربات التاريخية حول الزوايا باعتبار تشعب الموضوع وتوزعه بين عدة حقول معرفية كالتاريخ وعلم الاجتماع والأدب والإثنولوجيا والأماكنية، فضلا عن مباحث التصوف، ثم تعدد الأدوار التي كانت تقوم بها مؤسسة الزاوية وقد تراوحت بين التعبد وتأطير الناس وفض الخلافات وإيواء الغرباء وأبناء السبيل، بل وأيضا إغاثة المظلومين ونجدة الهاربين برقابهم والمهددين في أرواحهم وأعراضهم أوقات الفتن والصراع بين القبائل أحيانا وبينها وبين المخزن أحيانا أخرى، وهناك الإسهام في الصراع على السلطة والجهاد لطرد القوى الاستعمارية من أرض الإسلام، كما كان البعد الاجتماعي للزاوية محط اهتمام عدد من الباحثين كمساعدة المريدين وإطعامهم وإيوائهم، وكذا استقبال الغرباء وأبناء السبيل، ووصل الأمر بزاوية الصوفي إبراهيم التازي في وهران (القرن الخامس عشر الميلادي / التاسع الهجري) إلى إغاثة المدينة العطشى ومد قنوات المياه العذبة لأول مرة، هذه الخطوة الاجتماعية الحضارية عدت من "غرر الدهر وحسنات الزمان". فدراسة موضوع الزوايا في المغرب هو في الحقيقة إحاطة لمجال أشمل وأعمق وهو التصوف في بعده السني الذي انتشر بين الفئات الاجتماعية المغربية الشعبية والميسورة على حد سواء، للأسباب التي ذكرنا وغيرها، لكن هذا التصوف سرعان ما اختلط بالمعتقدات الشعبية فنحا باتجاه الخرافة والشعوذة، مما أدى به إلى تجميد حركية المجتمع المغربي بعد الفترة السعدية وما تلاها، ما مهد السبيل لظهور زوايا أخرى حاولت إضفاء حيوية على الطريقة الشاذلية الجزولية وانتشاله من ما كان يوصف بالبدع، لكن في المقابل يجب التأكيد على مدى ما قدمه من خدمات كانت كفيلة بتأطير جزء كبير من المجتمع المغربي قبل أن تظهر الوساطات ومجالات التأطير الحديثة، لا بل ما زالت لمؤسسة الزوايا أدوار مباشرة أحيانا وغير مباشرة تؤديها خدمة للنسق العام وحتى في إطار اللعبة السياسية القائمة رغم وجود المؤسسات الحديثة كالأحزاب والنقابات وإطارات المجتمع المدني، ونذكر هنا الزاوية القادرية البودشيشية والزاوية التيجانية والزاوية الشرقاوية والزاوية الحراقية (هي في الأصل فرع لدرقاوية تطوان)، فالإطار النظري والمنهجي للموضوع كما نلاحظ لا يخلو من تداخل وتعقيد وتشابك. وإذا كانت الحركة الوطنية المغربية قد حاربت الطرقية منذ عودة الشيخ السلفي أبي شعيب الدكالي (1878–1937) من الشرق متأثرا بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبعده تلميذه الشيخ محمد بلعربي العلوي (1884–1964)، قلت إذا كانت الحركة الوطنية قد تشبعت بمبادئ السلفية والتصدي لكل أشكال الانحراف التي طبعت كثيرا من الطرق والزوايا، فإن النظر التاريخي الموضوعي يقتضي دراسة ظاهرة الزوايا بارتباط مع شروطها التاريخية التي أفرزتها وعززت من مكانتها في المجتمع المغربي وباعتبارها مجالا تأطيريا ورمزيا كان الأولياء والصلحاء من خلاله يعلمون المريدين والفقراء أسس التصوف السني فضلا عن الاضطلاع بالأدوار المذكورة سابقا وباعتبار وجود مقاربتين مختلفتين للظاهرة، عبر أطروحة الاندماج حسب "M.Bellaire" باعتبار أن الدول الكبرى تأسست انطلاقا من الزوايا، فوراء كل زاوية "يكمن مدع للعرش"، وفق الباحث الفرنسي نفسه، ثم هناك أطروحة التمايز التي يجسدها الصراع بين المخزن والزاوية مثلا، حسب "P.Odinot". مجال الصراع بين الحركة الوطنية والطرقية شمل طبيعة التعامل مع التغلغل الاستعماري وسلطات الحماية فيما بعد بالنظر للدور الملتبس الذي لعبته الطرق والزوايا في تسهيل ذلك التغلغل مثلما ورد في الوثائق والمظان والمصادر عن الزاوية الدرقاوية الأم خلال الحرب الريفية أو الزاويتين الوزانية والتيجانية، سواء في التعاون التام مع الحماية الفرنسية أو الإسبانية، أو حتى القيام بأدوار تجسسية لصالحهما، وبالطبع فإننا لن نحلل ما أطلق عليه البدع والانحرافات عن المعلوم من الدين فهو موضوع مجاله مختلف، وإنما نخص بعض الوظائف الإيجابية التي لعبتها الزوايا، وخاصة الدرقاوية، ثم تسليط الضوء على مدى تفاعلها مع المجتمع التازي إيجابا وسلبا، باعتبار أن البحث في الزوايا هو مفرز أساسي من تاريخ المغرب منذ ستة قرون على الأقل. وعموما، ما زال الموضوع بالمغرب ومختلف الوظائف والأدوار التي لعبتها الزوايا يحتاج إلى مزيد تنقيب وبحث وسؤال، لأن ما كُتب وسجل حوله لحد الآن لا يفي بالغرض، سواء على مستوى الكتابات الموجهة لعموم الجمهور المثقف أو الأطاريح الجامعية المختصة وذات الطابع الأكاديمي، فهذه المؤسسة شأنها في ذلك شأن مجالات أخرى (كالقبيلة والعائلة والنسب الشريف....) لم يتم تناولها بالشكل العميق والكافي، ونقصد على مستوى مختلف المناطق المغربية، في إطار البحث المونوغرافي، بما تحمله من عمق تاريخي ورمزي، كذلك نلاحظ تداخلا مفاهيميا بين كل من الطريقة "Confrérie" والزاوية، فضلا عن ارتباط عدد كبير من الزوايا بالإطارات القبلية أو الأسرية حتى (الوزانية مثلا) حيث قدمت صورة معينة واضطلعت بوظائف مشهودة في المجال الديني بالطبع، ثم الاجتماعي والثقافي والقيمي، ومسألة الدعوة للجهاد أو العكس، أي التعاون مع القوى الأجنبية. وتشبه هذه المؤسسة المغربية، ما عرفه الشرق العربي من تكايا وخانقاوات منذ العصر الأيوبي (التكية تجمع على تكايا، أي الرباط الصوفي أو رباط الصوفية، ويطلق أيضا على مكان إيواء المسافرين الفقراء أو أبناء السبيل، والخانقاوات ج خانقاه: المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة) وتشترك الزوايا-التي نعتقد أنها إفراز مغربي محض-مع مؤسسات ظهرت وازدهرت في الغرب المسيحي القروسطي، ومن ذلك الأديرة (les Abbayes – les Monastères)، ونذكر الوظائف الدينية كالصلوات والأدعية والأذكار والجنائز والحفلات ذات الطابع الديني والوظائف الاجتماعية كاستقبال الغرباء وإطعامهم، والأدوار الثقافية كوجود الخزانات التي كانت تتميز بها الأديرة والزوايا على حد سواء، علاوة على الأدوار التعليمية باعتبار الزوايا والأديرة ظلت لقرون طويلة عبارة عن مداس مع اختلاف المواد والمعارف طبعا والتوجهات العقدية من تصوف وأصول ولاهوت وفقه ومنطق وحساب وفلك وغيرها، لكن الامتياز الأكبر لمؤسسة الزاوية في المجال العربي الإسلامي كونها تشكلت كفضاء مفتوح على المجتمع ولها طابع استقطابي واضح، بخلاف الأديرة الأوروبية مثلا التي ظلت بشكل عام معزولة عن محيطها الاجتماعي، كما تتلخص موارد الزوايا من الناحية الاقتصادية في الأعشار والزكوات إضافة إلى إقطاعات الأراضي المستغلة (خاصة الزاوية الوزانية) والهبات التي كانت تأتي من السلاطين وكبار القوم وما يسمى بحق الزيارة. لقد ظهرت أولى الزوايا بالمغرب المرتبطة بالتصوف في أواسط العهد الموحدي (القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي) وفي عهد بني مرين وقع تشجيع ظواهر الشرف والانتماء للبيت النبوي، كما أصبح للزوايا-وكانت تسمى النزالات-دور اجتماعي حيوي تمثل في إطعام الزوار وإيواء المسافرين، وتعزز الدور الصوفي من خلال زاوية النساك بسلا والعباد بتلمسان، وعند احتلال الشواطئ المغربية، ظهر جليا، كما سبق القول، دورها البطولي الجهادي حيث عبأت الآلاف من الأنصار، وجندتهم في إطار حركة الجهاد وتضييق الخناق على البرتغاليين والإسبان في الأماكن والثغور التي احتلوها، كموقف الزاوية الريسونية في معركة وادي المخازن، علاوة على الدور الهام للشرفاء والمرابطين والصلحاء في التعبئة الشعبية للمعركة، ونذكر هنا أبا المحاسن يوسف الفاسي، ثم دور الطريقة الشاذلية الجزولية التي تحالفت مع السعديين الحاملين للواء النسب الشريف والجهاد لتحرير ثغور المغرب ودار الإسلام. ومع أواخر السعديين وتجزئة البلاد إلى إمارات ومناطق نفوذ مستقلة، لعبت الزاوية الدلائية دورا كبيرا في تألق العلماء والفقهاء كأبي علي اليوسي وأبي بكر الدلائي، تضاف إليها زاوية السملاليين بسوس. وخلال العصر العلوي استمر وقع الطريقة الشاذلية الجزولية القائمة على أساس الكتاب والسنة وما أثر عن أبي الحسن الشاذلي فالأمر برمته لم يخرج عن التوجه السني العام، وذلك من خلال الطريقة الناصرية، ثم التيجانية فالدرقاوية، وتلك هي الطرق الكبرى الثلاث بالمغرب التي تفرعت منها العديد من الزوايا والطرق هنا وهناك مختلفة السلوكات والمرجعيات الإسلامية، والصوفية منها خاصة. وإذا كان القرن الثامن عشر هو قرن الناصرية دون منازع، وهي أقرب الطرق إلى التوجه السني المالكي للبلاد ذي الطباع المحافظ عموما، فإن القرن التاسع عشر كان بشهادة الباحثين والمؤرخين قرن الدرقاوية بامتياز، في حين انحصر نشاط الزوايا الأخرى في الزمان والمكان، فقد توسع بعضها في أماكن قليلة بالمدن وامتدت أخرى كالتيجانية عبر بعض المناطق الحضرية وفي السودان الغربي، أي السنغال ومالي والنيجر خاصة، بينما اقتصرت بعض الزوايا الأخرى على مناطق معينة وتألقت خلال فترات محدودة كالزاوية الشرقاوية بأبي الجعد والزاوية الوزانية التي اقتصر إشعاعها على الشمال والريف وممر تازة والزاوية الكتانية بفاس والزاوية القادرية وزاوية ماء العينين بالصحراء المغربية. هذا وامتد تأثير الدرقاوية من سنة 1790 إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، ونظرا لميول الزاوية المستقلة غالبا عن المخزن، فقد حسب لها هذا الأخير ألف حساب، فأغلب الزوايا تأسست بمعزل عن المخزن وتوجهاته، وبالطبع سعى المخزن بدوره لاحتواء الزوايا وضرب بعضها ببعض، بل وخلق أخرى موالية له. نحصر الحديث إذن في هذا المقال على الزاوية الدرقاوية، نشأتها في الأصل وبعض فروعها وامتداداتها، وخاصة نحو الريف والأطلس المتوسط ومدينة تازة وأحوازها وجزء من بلاد غمارة والغرب وحتى جنوب البلاد، حيث يظهر بشكل جلي مدى تجذرها والأدوار الجهادية و"الوطنية" التي حملت أعباءها منذ تأسيسها، وإذا كانت هذه الأدوار قد ظهرت في عدة مناطق فإنها تجلت وبوضوح في منطقة تازة وأحوازها من خلال وجود فرع لتلك الزاوية وعبر بعض زعماء الجهاد ومقاومة الجيوش الاستعمارية. تأسست الزاوية الدرقاوية كامتداد آخر للشاذلية بمركز أمجوط وسط قبيلة بني زروال المتوطنة بتلال مقدمة الريف شمال غرب فاس وأقصى غرب أحواز تازة سنة 1786، على يد الشريف محمد بلعربي الدرقاوي الحسني، ولم يكن ذلك التأسيس سوى تتويج لجهود سابقة متعددة منذ نهاية القرن السابع عشر، وتوسعت الطريقة الدرقاوية في وقت وجيز على حساب الناصرية التي تراجع نفوذها، ولربما استشعر السلطان محمد بن عبد الله الذي حكم بين 1757 و1790 هذا المد الدرقاوي مع تداعياته على المجتمع فأصدر ظهيرا شهيرا في الابتعاد عما وصفه بغلاة الصوفية. وشمل توسع الدرقاوية مناطق جبالة وزمور والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي، واحتضنتها كثير من المناطق القروية والحضرية على حد سواء، ومنها مدينة تازة التي من المرجح أن فرعا للزاوية الدرقاوية ظهر فيها خلال نفس فترة تأسيس الزاوية الأم بأمجوط وبوبريح ببلاد بني زروال، وكانت الزاوية الأم قد تأسست خلال فترة السلطان المذكور، لا بل في الوقت الذي أشيع أن هذا السلطان كان ناصري الهوى، فإن السلاطين الذين جاؤوا بعد المولى سليمان ظلوا يميلون إلى مهادنة الدرقاوية لأسباب سياسية محضة، بل يذهب بعضهم إلى أن السلطان عبد الرحمان بن هشام وابنه محمد كانا درقاويين، تبعا لما حصل أثناء تولية السلطان م سليمان من تحالف سياسي خطير لصنهاجة وزناتة ضد م سليمان بدعم درقاوي تحت قيادة أبي بكر امهاواش، وهي الثورة التي هزت المغرب، وخاصة الأطلس المتوسط، سنة 1820، والتي تنازل على إثرها م سليمان عن العرش لصالح ابن أخيه عبد الرحمان بن هشام، وبسبب قضية رفض بيعة أهل تلمسان من طرف سلطان المغرب، تلك البيعة التي لعب فيها م العربي الدرقاوي دورا هاما ليتفاجأ بالموقف الضعيف للسلطان. أما النسق العام للزاوية الدرقاوية فيقوم على تصوف عملي قريب من واقع الناس والحياة والتحلي بأخلاق الشيوخ ومكارمهم وتجنب الابتداع ووضع السبحة على العنق والسماح بالسؤال واعتماد الحضرة والعمارة، وهي تشبه في ذلك الطريقة العيساوية، كما نبذت الطريقة الدرقاوية سلوكات الانعزال والاعتكاف بعيدا عن المجتمع، وآمنت الدرقاوية بوحدة دار الإسلام، الشيء الذي يفسر أزمتها مع المولى سليمان الذي تحفظ من بيعة أهل تلمسان سنة 1805 وقد لعب فيها الدرقاويون دورا هاما، فالدرقاوية تعتقد بالأخوة الإسلامية، وهنا يمكن أيضا تفسير انتشارها في الجزائر وتونس ووصول صيتها إلى مصر والقاهرة، وتقوم هرمية الزاوية على الشكل التراتبي المعروف من الذكر إلى التفكر فالفقر والوجدان والسلم الصوفي بدءا من الفقراء وصولا إلى الأقطاب والشيوخ. هناك مبدأ عند الدرقاويين يسمى خرق العوائد كتشبيك الأيدي عند الذكر والتركيز على طريقته الجماعية في حد ذاتها ولبس الدرابل والمرقعات ووضع السبحة على العنق، وقد كان هذا التوجه (خرق العوائد) بجميع أشكاله سببا في إثارة الانتقاد ضد الطريقة الدرقاوية من طرف الفقهاء والمتصوفة، بل أدى إلى محاكمة درقاوة على نحو جماعي بتطوان سنة 1209ه/ 1794م، وزج بالعديد منهم في السجن، ومن هؤلاء أحمد بن عجيبة حين أخذ عليه الفقهاء ترك الفقه والاشتغال بالطريقة، والذي يهمنا هنا بغض النظر عن صراع الحقيقة والشريعة هو تعاطف أحد درقاويي تازة مع هؤلاء وهو محمد أبو عبد الله المكودي التازي، الذي يرجح أنه قدم من مدينته تازة ضمن وفد من مريدي الطريقة الدرقاوية إلى تطوان للتعبير عن تعاطفه مع إخوانه هناك في محنتهم، وألف كتابا في هذا السياق أسماه "الإرشاد والتباين في رد ما أنكره الرؤساء من أهل تطوان"، ويجب التذكير هنا برسالة م سليمان الشهيرة التي تدعو إلى ترك البدع ومختلف أشكال الانحرافات التي لا تمت للدين بصلة، علاوة على تشجيعه للزوايا المخالفة والموافقة لتوجه م سليمان القريب من الوهابية كالتيجانية مثلا وقبلها الناصرية. ومن أسباب تنكيل المخزن بالدرقاويين أنه توجس من الزاوية الدرقاوية باعتبارها تشكل ثورة على ما هو سائد كاختلاط النساء بالرجال وخرق العوائد بلبس المرقعات ومد اليد بالسؤال، ويهمنا من هذه الواقعة أن فرع الزاوية المعنية كان موجودا ونشطا بتازة خلال هذه الفترة، مع أن مصير الصوفي الدرقاوي أبي عبد الله المكودي التازي كان نفس مصير باقي الدرقاويين، أي السجن والتنكيل، وقد سبق لصاحب المقال أن ترجم لهذا الشيخ الصوفي التازي في كتاب "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" الصادر عن دار المعارف الجديدةبالرباط سنة 2017. التوزيع التنظيمي للزاوية الدرقاوية يتميز بنوع من اللامركزية الفريدة والمثيرة للانتباه، فالزاوية الأصل لا تتحكم في الفروع بل قد تأخذ تلك الفروع التوجه الذي اختاره لها شيخها المحلي في استقلال شبه تام عن القطب الأصلي، وأفضل نموذج يجسد هذا الأمر اختلاف شيوخ الزاوية في التعامل مع المخزن وإن غلب عليه طابع التدافع والصراع، ثم الموقف من التغلغل الاستعماري، سواء منه الفرنسي أو الإسباني، فقد اختلفت تلك المواقف بين التعاون وتمهيد الطريق أمام المستعمر من جهة، والدعوة إلى الجهاد بل والمشاركة فيه من جهة أخرى. إذا راجعنا وثائق فترة نهاية القرن التاسع عشر مثلا على مستوى الجنوب الشرقي للمغرب نجد أن قبائل الواتدغير وشرفاءهم ولاد سيدي الشيخ كانوا موالين للدرقاوية، أو على الأقل متعاطفين معها، وقد تحملوا عبء الجهاد والتصدي لتغلغل الجيش الاستعماري الفرنسي باسم وضع سكة حديدية وفتح الأسواق، ولا سيما بعد اتفاقيات باريس وتوات (1901) التي اعتبرت أول تفريط في التراب الوطني من طرف المخزن، فكان للدرقاويين دور مهم في التحريض على الجهاد والتصدي للقوات الفرنسية وقتذاك، ومثلما وقع حينما تصدى جيش الدرقاوي الروغي الجيلالي الزرهوني للقوات الفرنسية المتغلغلة في حاسي لغزال والنخيلة ومركز تاغيت وواد زوزفانة بين 17 غشت و2 شتنبر 1903. سجل كثير من الباحثين أن منطقة تازة وأحوازها وقبائلها تميزت بحساسية خاصة تجاه الاستعمار الأجنبي منذ احتلال الجزائر سنة 1830، وتعززت جوانب الحيطة والحذر تجاه الأجانب بعد واقعتي إيسلي 1844 وتطوان 1860، علاوة على سجلها الجهادي خلال فترات متقدمة من تاريخ المغرب، ولعبت الزاوية الدرقاوية دورا هاما اعتبارا من زمن ظهورها بهذه الناحية في تعبئة القبائل، خاصة عند زحف الوحدات العسكرية الفرنسية واللفيف الأجنبي ووحدات الكوم تحت قيادة الجنرالين بومغارتن وغورو نحو تازة، وقد وجد عدد من زعماء الجهاد تربة خصبة في المنطقة لا بسبب موقعها الخطير فقط الرابط بين المغرب والجزائر، ولكن أيضا لوجود عناصر جاذبة لحركة الجهاد وأبرزها دور الزاوية الدرقاوية، وهو ما سنتعرض له مع بعض التفاصيل التي أوردتها الوثائق الفرنسية والروايات والمظان المغربية، بما فيها الروايات الشفوية، حول تلك الزاوية في الحلقة المقبلة بحول الله. *رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث - تازة