خرج من المقهى بإحساس كروي يمتزج بحب الوطن، وسار في الطريق، يدور، يراوغ، يهجم، يسدد ولا يصيب، يشرد يخطئ ولا يخرج عن "الملعب". لم يستطع أن يميز بين "كروية الإحساس" و"إحساس الكرة"، وتذكر الأسماء دون تمييز بين انتماءاتها؛ فلا فرق بين الضلمي والداودي، ولا بين خيري وبودربالة، ولا بين هذا الجيل وجيل فرس وسحيتة، ولا جيل العربي بن مبارك والأب جيغو. إحساس جيل "دفنا الكرة "، إحساس جيل اختلطت لديه الكرة بالوطن. ما أجمل "الوطنية الكروية"، فحب الكرة من حب الوطن، والوطنية ليست صراخا أمام التلفاز ولا في المدرجات وليست تمييزا بين درجات الجمهور، فلا أحد أكثر وطنية من الآخر؛ هي حق تاريخي وجغرافي، فالذي يصرخ "وَ لْمَغرِبْ" له حقوق وواجبات، يحتاج إلى تعليم وتطبيب ومؤسسات تخدمه بلا تلاعب. وطنيتك لا تزيد ولا تنقص حسب دخلك أو قبيلتك، فليس للوطنية درجة سفلى وعليا، الكل سواء أمام الكرة، يستوي الصبي والعجوز، الرجال والنساء، "أمي فاطنة الهندشرية" و"با العربي ذاكرة الوطن"، فلا بأس للشيوخ أن ينكسوا إحساسهم ويصرخوا مع الشباب "ولْمَغرِبْ"، صرخة قد تسترجع ما ضاع، فقد تداوي الكرة ما عجز عنه الواقع. وأحس بنشوة بدت على محياه، وتغيرت مشيته، وسار يتمايل كأنه لاعب تتنافس عليه الأندية، يخاطب نفسه: "المهم ربحنا، لا يهم الإيقاع". هو الضيق يلعب، والذات تنتشي، والنصر آت، وسنصل إلى "المربع" بعد أن خرجنا من "الدائرة"، ولن نعود إلى "المثلث"، فمسارنا الكروي "مستقيم"، والأمل في "الهندسة الرياضية" المخطط لها مستقبلا في شعار "ولْمَغرِبْ". وعاد إلى المقهى بعد جولة غابت فيها البوصلة، ووجد "تشكيلة المقاعد" قد تغيرت، فهذا "قانون اللعبة"، لا يمكن أن تلعب بنفس الإيقاع. وجد جمهورا جديدا يتحدث في السياسة وشعارات الوداد البيضاوي التي تندد بالانقلاب وتشكك في موت الرئيس، و"فلسطنة" الرجاء البيضاوي، فشكك في إحساسه: كيف يمكن للعبة الكرة أن تصبح "لعبة ديمقراطية"؟ هل يمكن أن تصنع جيلا جديدا يعكس الثقة في الذات والوطن؟.. وتداخلت في ذهنه الأسئلة المغيبة تاريخا، وخدشت إحساسه ولم يرد أن يفكر "داخل اللعبة"، فهي تتطلب "دفتر تحملات"، ولم يعد في النفس شيء من الانهمام، فكلمة "ولْمَغرِبْ" جامعة مانعة تغني عن "الفلسفة والفكر". وتحسس الحوار الدائر واستجمع قواه واسترجع حسه الوطني وتأمل الوجوه الكروية باستفزاز، فمن غيره يملك نكهة الحديث عن الكرة والوطنية، وهو اللاعب أبا عن جد، سليل الأسماء التاريخية التي كانت تلعب حافية، وبدون حسابات..رموز ورثت "صنعة الكرة" لا أموالها لأبنائها. وتخيل نفسه في محاضرة، فطرح السؤال: لماذا لا نحترف الوطنية جميعا لنخوض اللعبة؟ ونبني أجيالا تمارس الكرة فكرا وثقافة؟ ولماذا لا نثق في مدرب وطني وفي لاعبين غير "مأوربين"؟ وهل يمكن للكرة أن تجيب عن الأزمات؟. أسئلة طرحها في الهواء ولم يجد جوابا سوى دخان السجائر الذي يبخر الأفكار، وأحس بالغربة وبأن حديث الجمهور هو شعارات وليس محاضرات، نعم لها جماليتها ورسائلها لكنها لحظوية لا يمكن الرهان عليها، نعم هي شحنة إحساس قوية يحسد أصحابها على وطنيتهم وقدرتهم على "التمسرح" و"التمغرب". "وَ لْمَغرِبْ" في جميع الحالات، هي "احتفالية" ننتشي بها، إحساس دفين يعبر عن شيء ما في نفس المغاربة، سميه الوطنية أو ما شئت، المهم لحظة ننسى فيها أنفسنا ونملأ الفراغ، ونناقش ساعات طوالا بإحساس وطني عميق، فقد تحرك الكرة الناعورة، وقد تداوي ما عجز عنه العطار، وقد يكون الحل في الوقت الميت، المهم اليأس ممنوع في مغربنا. لم يستطع أن يغير المقهى التي تعود أن يشاهد فيها مباريات الوطن، فهو يتفاءل بالمكان والنادل وببعض الوجوه التعسة التي يراها ويقرأ في عيونها "ولْمَغرِبْ" وكفى. جلس قبل المباراة بالساعة بعد أن برمج فراغه وترك مهمات الأولاد الذين لم يصلوا بعد إلى "سن الكرة"، يبحث عن الإيقاع الذي تقشعر له الجلود وتتوحد فيه الأحاسيس، حيث الإجماع الوطني حول "ولْمَغرِبْ"، لم يشارك في رهانات المباراة التي تفسد نشوة الانتظار، فهو رجل مبادئ، لا يقامر، واثق في نفسه أكثر من اللاعبين، يجيب يمينا وشمالا: سنربح بتشجيعاتنا ولو من بعيد، ستصل عبر "التيليباتي المغربي"، فلننتظر نتيجة المباراة وبعدها نتحدث عن "ولْمَغرِبْ".