مهداة إلى الوزيرات و الوزراء الشباب في الحكومة الجديدة. توطئة: عبد الاله بن كيران هو ثالث ثلاثة: أولهم عبد الله إبراهيم رحمه الله؛ وثانيهم عبد الرحمن اليوسفي أمد الله في عمره. هم "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع" عن السياسة ، إذا ضمنت كلامي بعضا من المتن القرآني الكريم في سورة النور، دون أن أنفي عنهم –طبعا- ذكر الله، ولا أن أضخم نصيب أي منهم من هذا الذكر السامي. وهم " رجال تحت الشمس" بعبارة غسان كنفاني؛ المفعمة بالمعاناة، والاستماتة من أجل القضية العادلة كيفما تبدت وتلونت. شاءت لهم الصدف، وحدها،أن يكونوا جميعا عبادلة (عبد الله،عبد الرحمن،عبد الاله)تكريسا لعبودية المغاربة جميعا لله ،مالوا يمينا أو يسارا،وربما إيحاءا بأن الله تعالى ييسر لهذه البلاد،في شدائدها،عبادا صالحين. وشاء لهم تاريخ المغرب الحديث أن يكلفوا بتشكيل حكومات في ظروف حرجة ،وان بتفاوت. محمد الخامس وعبد الله إبراهيم: الإغراء الأول بالسياسة في تاريخ المغرب المستقل فاوض الملك محمد الخامس عبد الله إبراهيم عدة أسابيع؛ ليقبل منصب رئيس الحكومة، بتزكية من الشيخ محمد بلعربي العلوي، وطبعت ظروف موافقة عبد الله إبراهيم تشكيل الحكومة التي ظلت تحمل اسمه حتى الآن، جملة من الأسباب ألزمته بالاقدام على ذلك، رغم رفضه في البداية وعدم حماسه، وقد أثرت عليه ضغوطات أساتذته، وأمير الثورة الريفية، محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأ قطاب القوى الحية في المجتمع المغربي آنذاك؛ بموازاة مع إلحاح الملك محمد الخامس إلى حد جعل الملك يخيره قائلا :" إما أن تقبل تشكيل الحكومة وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا، إلى أن يقبض الله روحي". إدريس ولد القابلة و محمد لومة أن يصل "صاحب الصولة والصولجان" - الذي تغنينا كثيرا،مع الراحل البيضاوي، بعيشه في أمان ،بعد كفاح وصمود ،واختيار المنفى بدل الإذعان للمستعمر – إلى حد التفكير في منفى اختياري آخر ؛إذا أصر عبد الله إبراهيم على رفض تشكيل الحكومة ؛يعطي الانطباع بأن الاستقلال لم يكن تاما ،وأن جيوب مقاومة التطلعات الملكية و الشعبية نحو الحرية والديمقراطية ؛بلغت درجة من الخطورة لا تقل في شيء عن رد الفعل الاستعماري إزاء المطالب الوطنية التحررية . ولم يكن الرجل ،في رفضه،يصدر عن تهيب أو تهرب من المسؤولية ؛وهو مدرسة في الوطنية والثبات على المبادئ ؛بل لافتقاده – ربما- لرجال مخلصين لتوجهه ،يتمترسون معه في مواجهة ماكان يسمى بالطابور الخامس ،المناهض لمشروع الدولة الوطنية. لقد أدرك المرحوم محمد الخامس ،منذ البداية،أن مواجهة مراكز القوى ،المناهضة للدولة الوطنية،يتطلب جهادا أكبر ،بعد الأصغر؛وبرجال من طينة عبد الله إبراهيم. وما دام الرجل لا يمكن أن يصمد لإلحاح ملك وطني ، وزعيمين كبيرين ،فقد رضخ ، وهو كاره،وشكل الحكومة اليتيمة في تاريخ المغرب المستقل،التي فتحت أوراشا مهمة ،في ما يتعلق ببناء الدولة الحديثة. أوراش لا يزال السياسي منها لم يكتمل بعد لأن ما توقعه عبد الله إبراهيم هو ما حصل بالفعل . إن ما أنجزته هذه الحكومة التي امتد عمرها من: 16/12/1958 إلى 20/5/ 1960 (فقط) يبعث على الثقة في كون الإرادة الملكية،حينما تلتقي مع الإرادة الشعبية، في نفس التشخيص للداء،و في تسطير نفس الأهداف،وفي السعي بنفس السرعة لتحقيقها،تهد رواسي الجبال ،مهما علت وثقلت. رغم نجاحها ،والثقة الشعبية في رهاناتها واختياراتها، دكت هذه الحكومة دكا ،في ظروف وملابسات لا يتسع لها المقام، وبنهايتها أجهض حلم الشعب المغربي في أن تدير أموره حكومة وطنية تولد ولادة ديمقراطية عادية. رغم موتها تعيش تاريخها بهذا الاسم:حكومة عبد الله إبراهيم ؛وهو عنوان ظل ،دائما،يوحي بأن أمرا جللا حصل مع هذه الحكومة،بل مع الشعب المغربي وتاريخه وكفاحه؛وهو كذلك. كلما تذكرت فرحة الاستقلال،التي لم تعن لي سنة1955-وأنا ابن خمس سنوات- سوى قبعة بلاستيكية حمراء ،بنجمة خماسية؛وضعها الوالد ،بغتة،على رأسي ؛إيذانا بدخولي جيل ما بعد الاستقلال؛جيل: ياقوم هذا الوطن نفسي تناجيه فعالجوا في المحن جراح أهليه إن تهجروه فمن في الخطب يحميه يا ما أحلى السكن في أرض أجدادي كلما تذكرت هذا ،وتذكرت كم كنا سياسيين جميعا ؛حتى ونحن مجرد أطفال في جبال الزكارة- أسوة بالمغاربة جميعا وقتها- إلا وألح علي سؤال: لم انقطعت تنشئتنا السياسية الأولى ،ونحن لم نحفظ بعد كل أناشيد الاستقلال؟ الجواب عرفته في ما بعد: إجهاض الحمل الصادق لحكومة أول العبادلة. ففي عز الفرحة بالاستقلال،وتحول تدبير الشأن العام الوطني إلى هم يتقاسمه الجميع ،بكل شغف وبكل شفافية؛ كان هناك رأي آخر يدبر بليل- على مستوى حكومة ظل موازية ،جاهر بها ،مرارا،قطبها الراحل اكديرة،ومن معه- لتثبيت مفهوم جديد للسلطة ،يقطع مع مشروع الحركة الوطنية السياسي والثقافي ،وسلمها القيمي . بعد أن كان العمل السياسي مطلوبا لطرد المستعمر ،وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية؛صار مطلوبا لتثبيت لغة المستعمر وثقافته ؛دون ديمقراطيته ؛والالتفاف على انتظارات شعب حر. زهد من زهد في هذه السياسة،وخاف من خاف، وتصدى من تصدى ،ورضي من رضي. أما نحن الأطفال –جيل ما بعد الاستقلال- فقد أنسينا كل الأناشيد ؛وكلما نضجنا أكثر كلما رسخ في وجداننا أكثر أن الكبار كذبوا علينا ؛إذ لم تمغرب – إلا للقلة- عيون العسل و سواقي اللبن ... الحسن الثاني وعبد الرحمن اليوسفي: الإغراء الثاني بالسياسة منذ إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، سالت مياه كثيرة في كل وديان المغرب،وامتلأت سدود حسنية كثيرة إلا سد الديمقراطية ؛إذ ظل ماؤه غورا ،لا يلبي غير الحد الأدنى من متطلبات كل المواسم السياسية التي عشناها . ورغم هذا الشح ظل المغاربة صبورين وكرماء ،وغير انتهازيين ؛وكأن كل الحفر التي حفرها رجال الظل لم تتسبب في زلة قدم واحدة للشعب ،على مستوى نبله وكريم محتده. الذين وقعوا في الحفر هم الحفارون أنفسهم ؛الذين أساؤوا الظن بنا حين كنا نحسن الظن بهم. تستوقفني محطتان : الأولى : الالتحام العفوي للشعب بالملكية ؛حينما بدا لعسكريين انقلابيين أن يتطاولوا عليها ؛فظهرت حركتهم محدودة ومعزولة داخل جسم القوات المسلحة ؛و مبغضة على مستوى كل فئات الشعب. هوى أفقير ومن معه – وقد كان الذراع الضاربة لحكومة الظل- في غيا بات الجب . لعل هذا التلاحم الشعبي العفوي كان كافيا لتحويل ،ولو مجرى نهري واحد، صوب السد المعلوم؛ولو عين عسل واحدة. الثانية: ما أن نادى المرحوم الحسن الثاني بالمسيرة الخضراء ؛ حتى استعاد المغاربة كل أمجادهم القتالية؛رغم سلمية ما نادى به...إن توقع الأسوأ من عزم الأمور.ولا زلت أذكر قبطان القوات المساعدة ؛وهو يصيح في بعض متطوعي بركان ،آمرا:" ادي معاك الموس"،فيسر السامعون وكأنهم يدعون لوليمة. أذكر أن قشعريرة عمت جسدي ،وأنا أرى رجال الأمن بباب كوميسارية بركان-سنة1975- وهم يردون بشارة النصر على الجموع الداعمة للمسيرة ، المارة بهم ؛ من اتحاديي بركان بالخصوص. كيف ؟ نحن رجال التعليم،وما فينا إلا القنافذ ، وما فينا أملس،نواجه بتحية تضامن و نصر بوليسية. ها نحن نستجيب – كما استجاب أجدادنا دائما- لمنادي الحركة السلطانية. ولا نسأل السلطان هل هو مصيب أم مخطئ. سنظل هكذا في المغرب: تقرب بيننا المكاره وتفرق بيننا المناشط؛ إلى أن نبني دولة المؤسسات المستبدة ،لكن العادلة ؛التي تعلوا على عواطف الجميع؛والتي لا تزول بزوال الرجال. شيخ المعارضة : ما أن حلت التسعينيات حتى بدا جليا للدولة- وقد تأكدت من هول قسوتها على شعب تواق للتحرر ونصرة القضايا العادلة - أن مشروع الحركة الوطنية،الذي زلزل زلزاله ذات ليل ،هو فعلا الحل الأمثل لتدبير الحكم ؛خصوصا والمحيط الدولي يودع حربا باردة لاأكثر منها دمارا في مجال بناء الديمقراطيات الفتية. تطلب وقف ارتدادات الزلزال الوطني سنين من حسن النية ،والتودد ؛وصولا إلى فتح أبواب السجون والمنافي .عاد من عاد إلى ربوع الوطن؛ وخرج من خرج من غيابات ،ولا غيابات القرون الوسطى ؛ وعمت البلاد هبات هوائية منعشة ؛وحلمنا بعيون العسل وسواقيها من جديد. وفي ليلة من ليالي ربيع 1998؛وقد ارتمى اللحن والمزهر على شاطئي أبي رقراق ؛وقف رجلان بالقصر الملكي ،وثالثهما مصحف : أحدهما ملك متعب لكنه مسرور؛وثانيهما شيخ المعارضة ،وثاني العبادلة ؛وما بينهما ستون حزبا من القرآن الكريم ،كأنها تلمح إلى قرابة هذا العدد من التوجس والبغضاء،وتقول للرجلين: كفى.....انه وطن ، وهو للجميع ،وليس ملكا لأحد ؛ولا يورث إلا وطنا من طرف الجميع؛مهما اختلفت مواقع تدبيره. هكذا ولدت حكومة التناوب ؛ورغم كونه توافقيا فقط ،وغير ديمقراطي–لحصة المعارضة المتدنية في الانتخابات التشريعية- فقد فتح أبوابا للأمل بدخول المعارضة التاريخية إلى الحكومة وخروج الموافقة إلى المعارضة. لم تعزف الفرقة النحاسية ،ولم يتغن أحد بأناشيد العسل، لأن أطفال الأمس اكتهلوا ؛لكن استنشق الجميع هواء نقيا ،ونظر المغاربة إلى ملكهم ،كما لم ينظروا إليه من قبل ؛وحينما انتقل إلى رحمة الله بكوه ،بمرارة،كما بكوا والده؛ وكما يبكون وفاة آبائهم وأبنائهم . ما أقرب وفاة محمد الخامس من تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم ؛وما أقرب وفاة الحسن الثاني من تنصيب حكومة عبد الرحمن اليوسفي. رغم كل ما قيل عن حكومة التناوب التوافقي – انتصارا وانتقادا- فإنها أقامت الحجة على أن قاموس التخوف والتوجس والشنآن، بين المعارضة والملكية،لم يجمع مواده ،وينشرها غير كتاب رديئين ،مزيفين ،ومغرضين ؛وقد ذهب أغلبهم مع الريح؛ وبقي الوطن شامخا. لقد بدت الأوراش التي فتحتها حكومة اليوسفي وكأنها تستعيد لحظة التأسيس الصادق للدولة المغربية الحديثة : ثقافة حقوق الإنسان،الحريات الفردية،الترسانة القانونية،تنظيم العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية،تعويض ضحايا سنوات الرصاص،خفض المديونية،تقويم مسار القطاعات الاقتصادية ... رغم أهمية هذه الانجازات فلا أعتقد أن اليوسفي أقسم على المصحف من أجلها ؛لأنها كانت منتظرة منه ؛باعتبار مكانته و مشروع اليسار عموما،كما أنضجته معارضة طويلة النفس ؛بل أقسم لشيء جلل كان في نفس المرحوم الحسن الثاني :استشعاره،رحمه الله، لدنو أجله ،وحرصه على سلاسة انتقال الملك . أعتقد أن المصحف احضر لهذا الغرض؛في سابقة غير معهودة ،من طرف الحسن الثاني، في تعيين رؤساء الحكومات. محمد السادس وعبد الإله بن كيران: الإغراء الثالث بالسياسة لم يكن بينهما مصحف ،لأن المصحف، هذه المرة، نزل إلى الميدان،ومارس سياسة الدنيا، ليعود بمائة وسبعة مقاعد نيابية جعلت ثالث العبادلة يدرك محلة السلطان،متجاوزا منافسيه بكثر، ،وهي في "حركة" تنموية بين جبال ميدلت المجللة بالثلوج. رسميا لا رمزية سياسية للمكان بثلوجه ؛لأن الملك محمد السادس حول كل حواضر المغرب وقراه إلى عواصم للدولة؛وحتى الأستاذ بن كيران وضع في اعتباره أن الملك لا يستقبل في العاصمة الإدارية فقط. من حيث الجوهر: ورث محمد السادس الملك عن أبيه- باني المغرب الحديث- ليتمم مكارم جده محمد الخامس :كل ما لم تتسع له حياة هذا الملك الوطني،القصيرة ؛حتى سداد دين الحب الشعبي الذي حالت دونه المنية. ولعل نصيحة الفقيه البصري للملك الشاب:" اربط بجدك" لا توجه صوب سلوك بل تفسر واقعا قائما. لحظة استقبال محمد السادس لعبد الإله بن كيران لا يمكن ألا تستدعي لحظة استقبال محمد الخامس لعبد الله إبراهيم: الأول ليعين أول رئيس لحكومة مغربية ذات خطاب ديني ،بالأساس؛ والثاني ليعين أول رئيس لحكومة يسارية: فجر الاسلاموية الممارسة للحكم ،على خلفية فجر اليسارية. بينهما قطيعة وفراغات وامتدادات ؛أو بسبب كل هذا أفضت الأمور إلى ما هي عليه. وعلى غرار عبد الله ابراهيم ،فان مهمة بن كيران لن تكون سهلة ؛بل لو كانت سهلة لما ارتقى إليها أصلا. لعله أدرك هذا حينما قال :أعول كثيرا على دعم الملك. ولا يتصور في محمد السادس ،الذي تمثل عميقا قول جده،وهو ينصح ولي العهد:"فكن يا بني ديمقراطي الطبع ،شعبي النزعات" ألا يقيم الحجة على أن الاستثناء المغربي ،ليس كلاما منمقا يقال ،بل واقعا يبنى ويعاش. لقد ورث محمد السادس حكومة عبد الرحمن اليوسفي ؛بكل نجاحاتها وإخفاقاتها؛وكان من الممكن أن تتواصل تجربة التناوب،وصولا إلى التناوب الديمقراطي؛لكن هذا لم يحصل ،ليس لتآكل الثقة في شيخ اليسار بل تأسيسا لوضعية البداية في ورش ملكي شاسع ،خالص الانتماء لمحمد السادس ،وما تقتضيه مرحلة حرجة، تداخل فيها الدولي والإقليمي والوطني ؛ولم يعد كل بريق اليسار يفيد فيها كثيرا؛ولو في المعارضة؛وخير دليل الانسحاب الباهت لبرلمانيي الاتحاد الاشتراكي من جلسة انتخاب الرئيس. لقد أفرزت المرحلة- بدستورها الجديد- رجلها في المغرب ؛كما أن الملك محمد السادس وصل إلى لحظة تثبيت ورشه الإصلاحي الكبير؛الذي مهد له بالمفهوم الجديد، ليس للسلطة فقط بل للملكية والمواطنة وكل التفاصيل التي تبني سلما تتدافع فيه القيم،القديمة والحديثة ؛وتجري فيه الدولة المغربية لمستقر لها ضمن ديمقراطيات العالم. ملوك ثلاثة وعبادلة ثلاثة وحكومات تترى....لنستوعب المرحلة وننخرط فيها لأنها تعد بالكثير. أيها الوزراء ننتظر منكم الكثير ... [email protected]