ترددت كثيراً في أن أكتب إلى جريدة محترمة، هذه الكلمة البسيطة التي لا تعني أي شيء، ولا تتضمن أي مغزى، ولا تقصد أي أحد، ولا تلمز لمزاً أي كائن. ثم قلت لماذا لا؟. فقد كان الأمر بالنسبة إلي حدثاً مدهشاً. كل ما في القصة، أني وزوجتي، عندما وقفنا امتثالا لأوامر الضوء الأحمر، يوم الأحد الفارط، في مفترق شارع الصنوبر وشارع عبد الرحيم بوعبيد وشارع العرعر، في حي الرياض، كان يقف أمامنا كذلك، احتراماً لأوامر الضوء الأحمر، رجل من أيها الناس، يظهر عليه أنه ممن يكسبون عيشهم من بين فَرْطٍ وَدَمٍ، ويكدحون كدحاً مما يلاقون، يمتطي صهوة دراجته المتهالكة، وقد حمَّلها ما لا تطيق من "الكارتون" لا شك أن به يتعيش. كان يقف بجانبه كلب من الكلاب المسكينة التي تعودنا رؤيتها وهي أيضاً تحمل أثقال الفقر والبؤس. وكان الكلب ينظر حيناً إلى صاحبه وأحياناً جهةَ فانوس الضوء. قالت لي زوجتي: "أي حديث هذا الذي يدور بين الرجل وكلبه"،لم تكد تنتهي من جملتها حتى اشتعل الضوء الأخضر، وتابع الرجل الممتطي صهوة الدراجة طريقهَ إلى الأمام، وانحرف الكلب مبتعداً عنه يميناً. قلتُ لزوجتي أخطأنا الظن، فلا علاقة لهذا الكلب بذاك الرجل، فقد سار كل في طريقه. وكم كانت دهشتنا عظيمة لما تتبعنا مسار الكلب. انحرف الكلبُ يمينا في مفترق الطرق، ومشى ما يقرب من خمسين متراً ، وهي المسافة التي تفصل بين موقفهما الأول والخطوط البيضاء التي يقطعها الراجلون. سار الكلب فوق الرصيف وراء الحاجز الأخضر، حتى وصل الخطوط البيضاء، والتفت يمينا وشمالا ثم قطع الطريق بين الخطوط. في آخر مفترق الطريق من الجهة الأخرى وقف صاحب الدراجة ينتظر كلبه المهذب المتحضر "الْقَارِي"، وهو من الكلاب العامة التي لا تعرف عيد ميلاد أو "ﭬِتِرِنيراً" حاذقاً، أو كسوة صيف أو شتاء، أو حلاقاً بارعاً. فحاله وهيأته، "وكسوته" المتسخة، وعيناه المتعبتان، كلها أمور تدل على أنه من عامة الكلاب المسحوقة في دنيا الكلاب، يجمعه ورفيقَه من بني البشر، حالُ الحاجة والاحتياج، وقسوةُ الدهر وقلة ذات اليد. تابع الرفيقان: ممتطي صهوة الدراجة وكلبه "المتعلم" طريقهما بعد لقاء. قالت لي زوجتي: "لو كان كثير من الناس متأدبين بآداب هذا الكلب وصاحبه، كيف كنا سنكون". لم أسمع كلام زوجتي جيداً، إذ شغلني عن ذلك قنينة فارغة ألقى بها رجل، يظهر أنه من ذوي اليسار الباذخ، من نافذة آخر طراز من سيارة المرسيديس التي يتربع فيها تربع من أثقلته كرشه أكثر مما يجب. وكادت القنينة تقع على زجاج سيارتي. "نعم سيدتي ماذا قلتِ: لو كُنا.....". قلتُ لزوجتي: "سأكتب هذا الذي رأيته لأعممه بين الناس". قالت لي: "سيظنونك مهووساً بالكتابة لا أقل ولا أكثر". قلت لها: "سأحلف بشرف الكلمة أن أمر هذا الكلب وصاحبه وقع كما حكيت...". من يدري قد نتأدب بآداب ضعاف الخلق؟ ولله في خلقه شؤون.