حذّر الباحث عبد العزيز أشرقي من تهديدِ الواقعِ الحزبي المغربي مسارَ الديمقراطية في البلاد، حيث يرى أن التنظيمات الحزبية في المغرب بحاجة إلى قَطْعِ أشواط هامة لتحقيق ممارسة حزبية نظيفة، مؤكدا أن فشل الأحزاب السياسية في القيام بوظائفها، وضعف تأهيلها وتأطيرها وتكوينها للمواطنين "يهدّد في العمق بنية النظام السياسي برمّته". ويحاول أشرقي، في كتابه المعنوَن ب"تموقع الأحزاب في المشهد السياسي بين إخماد صراعاتها والسباق نحو المناصب الوزارية"، رصد "أهم ملامح المشهد الحزبي من خلال تتبّع الممارسة الحزبية المغربية بتلاوينِها وعبر مراحلها المختلفة بدءا بنشأتها، مرورا بممارسة نشاطها السياسي، ووصولا إلى ممارسة الحكم والسلطة اعتمادا على التصوُّرِ الحديث للأحزاب في المفهوم السياسي الحديث". الطبيعة لا تقبل الفراغ ويرى أشرقي أن التنظيمات الحزبية في المغرب بحاجة ماسة لِقَطْعِ أشواط هامة لتحقيق ممارسة حزبية نظيفة؛ لأنه لا يكفي أن تكون هناك هياكل حزبية، وتوجُّهاتٌ إيديولوجية متباينة، وممارسة ضعيفة للجزم بوجود منظّمات حزبية فاعلة ومؤثِّرَة؛ لأن جوهر الممارسة السياسية الحديثة يربط السلطة بالإرادة الشعبية؛ وبالتالي يجب أن تتحوَّل الأحزاب إلى فاعل سياسي حقيقي قادر على ممارسة السلطة طبقا لبرامج حقيقية وطموحٍ يلبي حاجيات المواطن تطبيقا للإرادة الشعبية. ويبيِّن أشرقي في كتابه أن "الواقع الحزبي المتلاشي الذي تعيشه البلاد" يهدِّدُ "مسار الديمقراطية"؛ لأن "الطبيعة لا تقبل الفراغ" وفق تعبيره، ففي ظلّ غياب تعدّديّة سياسية حقيقية تمثِّل تيارات المجتمع، وتحمل مشاريع سياسية واجتماعية واضحة، يبقى من الوارد أن تستغل الفضاءَ جماعاتٌ متطرفة ذات نزعات عرقية أو دينية تستثمر امتدادها الشعبي في تأطير الشعب لخدمة أجندة خاصة ليست وطنية بالضرورة. ويرى أشرقي أن الفرصة، اليوم، مواتية للجميع، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة النّظر في منهجية تدبير المسألة الحزبية، التي تعدُّ الوجه الحقيقي لممارسة اللعبة السياسية على أسس ديمقراطية؛ عن طريق الإشراك الفعلي في صناعة القرار السياسي، باعتباره الوظيفة الحقيقية للحزب. ويزيد الباحث مفسّرا: دون هذه الوظيفة يفقد الحزب بعدَهُ السياسي ودوره التأطيري، قبل أن يؤكد أن "الإشراك الفعلي" لن ينجح "في ظلّ واقع حزبي تتحكّم فيه آلية التوليد والسعي وراء المصالح الشخصية"، لأن هذا يؤدي إلى "بلورة تعدّديّة حزبية ضعيفة وهشّة فاقدة لأي روح سياسية، ولن تنجح، بالتالي، في خلق حياة سياسية سليمة تقوم على أساس تعدّديّة سياسية تمثّلها أحزاب قوية وحاملة لرؤى ومشاريع مجتمعية حقيقية". غياب الاستقلالية يعتبر الكاتب أن خطاب العرش الثامن عشر حمل "عبارات نعي المشهد الحزبي والسياسي"، وأن الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة جاءت "لتقرأ عليه الفاتحة"، مرجعا ذلك إلى "خسارة الأحزاب السياسية استقلالية قراراتها وقدرتها على الفعل والتأثير". ويصف ذلك بالإفلاس الذي حتى لو كان قسمٌ كبيرٌ منه ناجما عن عوامل ذاتية وعِلّات في جسم النخب المغربية، إلا أنّه "يعود في قسم منه إلى ظهور أعراض تدخّلات ناعمة أو خشنة، انتهت بتمزيق أوردة الجسم الحزبي". ويضيف أشرقي أن "نسبة قليلة من الأحزاب تمتلك القدرة على اتخاذ قراراتها الحاسمة، بينما للأحزاب الأخرى مستويان من التدبير، مستوى ظاهري موجَّه لتحقيق الانسجام الشكلي مع المنظومة القانونية بالأحزاب السياسية، ومستوى باطني يؤكّد عدم استقلاليتها؛ وهو ما يجعلها تبدو غريبة في كيفية التدبير واختيار قيادتها ونخبها، ويبدو ذلك أوضح عند اتخاذ بعض القرارات الحاسمة؛ فيظهر وكأن الحزب يختار ما لا ينسجم مع مصلحته وما يريده مناضلوه"، قبل أن يتغير وضع الأحزاب، وفق قراءة الباحث، بشكل كبير مع دستور 2011، والفصل 47 من الدستور، الذي يؤكد أن تعيين رئيس الحكومة يكون من الحزب المتصدّر للانتخابات، وبالتالي تحدّد أصوات الناخبين الاختيار النهائي لرئيس الحكومة، مما يعني تحديد مساحة تحرُّكِ السلطة العليا. ويبيِّنُ الباحث أننا نوجد أمام تركيبة اجتماعية حزبية متمَظهِرة في شكل يعيد استنساخ تجربة بداية الاستقلال، مع فروق جوهرية يرى أن أهمّها يتمثل في حضور الريع وارتباطاته بشكل لافت، وعدم استقلالية البنية الريعية عن الاختيارات الرسمية؛ وهو ما يجعل الأحزاب أمام ازدواجية في المواقف وفي الاختيارات المعلن عنها، خصوصا بعد إنشاء أحزاب إدارية جديدة أصبحت كلها في تماه شبه كامل مع اختيارات الدولة. كما يوضّح أشرقي أن من مظاهر اختلال حكامة الأحزاب "غياب شفافية تدبيرها المالي الذي يفضي إلى تحجيم مبدأ استعمال الأموال الممنوحة لها فيما رُصِدَت له"، إضافة إلى محدودية تأثير التربية السياسية على النسيج الاجتماعي وتأطير المواطنين، وما يترتّب عن ذلك من ضعف في التمثيلية، وترسيخٍ لثقافةِ العزوف الانتخابي، الذي أدّى عمليا إلى إحداث شبه قطيعة بين المجتمع والمؤسسات الحزبية، وأذكى النقاش حول مشروعية تمثيلية الأمّة في ظلّ المشاركة المحدودة للمواطنين في الانتخابات، فضلا عن مظاهر الفساد الانتخابي، التي من بينها استمرار القيام بالحملات الانتخابية رغم انتهاء أجلها، وترويج أخبار زائفة من أجل تحويل أصوات الناخبين، واستعمال العنف اللَّفظي والجسدي ضد الخصوم، واستعمال المال من طرف بعض المرشّحين، وتوزيع هدايا وهبات لاستمالة أصوات الناخبين، وتسخير وسائل وأدوات مملوكة للهيئات العامة والجماعات الترابية لأغراض انتخابية.. أسباب كثرة الأحزاب بالمغرب ويوضح أشرقي أن المغرب لا يزال بحاجة ماسة إلى قطع أشواط طويلة لتحقيق "الممارسة السياسية النظيفة والشفافة التي تستمد مقوماتها من ثقافة التدبير الديمقراطي والحكَامة الرشيدة والانفتاح"، مشيرا إلى أنه "لا يكفي أن تعجّ الساحة بأحزاب سياسية تمثّل أجسادا دون روح وهياكل بالية؛ لأن جوهر الممارسة السياسية الحديثة يقتضي ربط الممارسة السياسية بالإرادة الشعبية حتى تتحوّل الأحزابُ إلى فاعل سياسي حقيقي". ويتصوّر الباحث أن من أسباب تكاثر الأحزاب السياسية في السياق المغربي أن إنشاء حزبٍ في اعتقاد الكثيرين "لا يمثّل ولادة مشروع سياسي طَموح وإضافة نوعية للمشهد السياسي والرفع من مستواه، بل يكشف عن رغبة جامحة من أجل الظهور على المسرح السياسي والاصطفاف على قائمة الزعماء"، وهو ما نتج عنه أن بعض التنظيمات الحزبية "ورقية لا قاعدة جماهيرية لها، ولا أنصار يدافعون عن أفكارها ومبادئها، ولا برامج قوية وهادفة تقنع المواطنين بها، ولا يلتزم معظمُها بالمهام الموكولة إليه في قانون الأحزاب بتأطيرِ وتكوين وتثقيف المواطنين والمواطنات وتأهيلهم". كما تعرف كل الأحزاب المغربية "عملية الترحال"، أي الانتقال من حزب إلى آخر بسبب "ضعف العلاقة التي تربط الحزب بالمنتسبِين إليه؛ والتي تكون غالبا مبنية على مصالح شخصية أو مادية، إضافة إلى افتقار تلك الأحزاب إلى أنشطة تلبي جميع أذواق أعضائها، وغياب الديمقراطية والشفافية داخلها وداخل أجهزتها، ورغبة بعض الأعضاء في تسلق المراتب، وصراعات أجنحة معظمها". ويؤكّد أشرقي أن مسار الحياة الحزبية المغربية "مطبوعٌ بتشبُّث الزعماء بالبقاء على رأس زعامة أحزابهم رغم الخطابات الموجَّهَة للاستهلاك الخارجي التي تنادي بالتّشبيب، بينما تتطلّب المصداقية أن تطابق أقوال العمل الحزبي الأفعال". ويضيف مبيّنا أن من بين ما ينفر المواطنين والرأي العام من السياسة والسياسيين "الوضع المتردي والفاسد الذي أصبح يعمّ المشهد الحزبي بالبلاد"، مشيرا إلى أن المطلوب من الأحزاب "المبادرة إلى القيام بثورة تنظيمية تأخذ بعين الاعتبار الدينامية التي يشهدها المجتمَع منذ صدور دستور 2011، وفتح الباب أمام الشباب للانخراط في العمل السياسي"، قبل أن يستدرك بأن هذا "ليس بالعمل السهل لأن معظم الأحزاب تعرف سيطرة الحَرَسِ القديم على مفاصلها، ويقاوم كل تغيير مفاجئ يبعده عن خيوط اللعبة السياسية وتحريكِها في اتجاه يخدم مصلحته". ويحذّر أشرقي في كتابه "تموقع الأحزاب في المشهد السياسي بين إخماد صراعاتها والسباق نحو المناصب الوزارية" من أن "فشل الأحزاب السياسية في القيام بوظائفها وضعف تأهيلها وتأطيرها وتكوينها للمواطنين يهدّد في العمق بنية النظام السياسي برمّته"؛ لأن "مسلسل الإصلاح يتمّ خارج فضائها، فيقع اللجوء إلى الشارع بدل وساطة الأحزاب السياسية نتيجة قصورِها وعدم القيام بأدوارها لأسباب ذاتية أو موضوعية، أو لكونها نسخة مكرّرة لا تعبّر عن تعدّديّة حزبية حقيقية"، وهو ما نبه إليه الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش، الذي أُلقِيَ بتاريخ 30 يوليوز 2014، حيث أكد أنه "حريص على تقوية الهيئات السياسية وإعادة الاعتبار للعمل الحزبي الجاد بما يكفل انبثاق مشهد سياسي قائم على أقطاب قوية متمايزة في رؤاها الواضحة".