من البديهي أن يشعر زوار مدينة الرباط بالإعجاب وهم يتأملون في معمار بعض أحيائها الراقية كأكدال وحسان والرياض والسويسي..، فتجدهم ينبهرون بالبنايات الضخمة المتراصة هناك وذلك النسق المعماري الجميل والبرﱠاق برحابة فضاءاته وتشعب طرقه وعلو أسواره؛ حتى أن المرء قد يقول وهو ينظر إلى جمالية المكان حين يكون فارغا من الناس: كأنني في حي من أحياء باريس أو مدريد أو إحدى المدن الأوروبية الجميلة؛ لكن المرء سيعود، بلا شك، ليطرح على نفسه ذلك السؤال المغربي المعروف: يا أيها المنمق والمزين والمزخرف من الخارج، ما هو حالك من الداخل؟ أي كما نقول في دارجنا: يا المزوق من برﱠا، أشخبارك من الداخل؟ فعندما تلتفت إلى اللوحات المعلقة فوق أبواب البنايات الكبرى، وأنت مار من هناك، ستجدها تمثل في الغالب مؤسسات إدارية تابعة للدولة مباشرة أو لأحد القطاعات الوزارية التي تعنى بالمجال الدبلوماسي أو الخدماتي (الصحي والجامعي) أو الاستثماري أو مؤسسات عمومية وشبه عمومية أخرى كثيرة ذات استقلال مالي نسبي... فهي، إذن، بنايات مشيدة من صميم الشخصية المعمارية لمدينة الرباط باعتبارها عاصمة إدارية للمملكة وحاضنة لجل مؤسسات تدبير الشأن العام الوطني والمتصل بالخارج، وهي بالتالي واجهة البلاد وصورتها المكشوفة للزوار من الداخل والخارج.. لذلك، فمن الجيد أن تكون تلك الصورة جميلة ومدعاة للفخر؛ لكن الواقع الذي نعرفه جميعا حول تدبير الشأن العام في المغرب وما يوازيه من مؤشرات وأرقام عامة للنمو لا يعكس، للأسف، نفس تلك الصورة الجميلة التي تحدثنا عنها سواء في صميم حياة المغاربة أو حتى في نظرة الخارج إليهم، إذ يكفيك مثلا أن تنتقل وأنت لا تزال في الرباط نفسها إلى أحياء أخرى هامشية لتكتشف مغربا آخر بعيدا كل البعد عن مظاهر التحضر التي يراد تسويقها للخارج فما بالك بالانتقال إلى مدن أخرى قريبة أو بعيدة من الرباط العاصمة. وأما ما يحدث داخل تلك البنايات الإدارية أو الخدماتية التي استشهدنا بوجودها في أحياء الرباط الراقية كحي الرياض وأكدال والسويسي وحسان وما تقوم به من أعمال وخدمات فهو موضوع آخر يلقى إجاباته الشافية في واقع تلك القطاعات الخاضعة لنفوذها، والحديث هنا عن قطاعات حساسة مهمة كالصحة أو القضاء أو التعليم العالي والبحث العلمي وما إلى ذلك حيث هناك ما يثير الانتباه في هذا الموضوع ألا وهو تكاثر الإدارات والهيآت المختصة في تدبير كل قطاع من القطاعات وضخامة الميزانيات الممنوحة للمسؤولين "الكبار والسامين" المكلفين بتسييرها في شكل تعويضات ومنح وتجهيزات دون أن يكون لذلك أي أثر إيجابي أو توجه واضح لتحسينها أو حتى استقرار أحوالها ناهيك عن ازدواجية الاختصاصات وتعددها أو تضاربها أحيانا وخصوصا بين المجالس والهيآت المحدثة والقطاعات الوزارية المختصة. في رأيي الخاص، يمكن القول إن تدبير الشأن العام في المغرب يعاني من خلل ذاتي وموضوعي ناتج عن غياب فكر إستراتيجي أصيل من شأنه التقريب بين حاجات الشعب ورغباته من جهة وإرادة السلطة الحاكمة والمؤسسات الإدارية التابعة لها من جهة ثانية، وذلك راجع لغياب أو "تغييب" دور مؤسسات الوساطة (الأحزاب السياسية، الرأي العام، البنية الثقافية...) في صناعة القرار؛ وهو الأمر الذي نتج عنه تضخم في إنتاج المؤسسات العمومية وشبه العمومية التي لا تخضع لمبدأ المحاسبة والرقابة الشعبية (الانتخابات)، على حساب تراجع القطاعات الوزارية والترابية المنتخبة المرهونة ببرامج مرحلية غير واضحة المعالم (بسبب البلقنة السياسية)، حيث إنها تظل محكومة بمساطر تشريعية طويلة الأمد ومعقّدة. هكذا، إذن، أصبحت الدولة المغربية تسير على نهج تدبيري تقنوقراطي ليبرالي في الشكل؛ لكنه يبدو ريعيا في جوهره ما دام يستنزف الكثير من أموال الميزانية العامة دون أن يلبي بالضرورة الحاجيات المستهدف تحقيقها (المجلس الأعلى للتعليم، الهاكا، مجلس المنافسة..نماذج)، كأننا نعيش في بعدين مختلفين أو فضاءين مختلفين تفصل بينهما هوة كبرى لا يلتقيان فيها، كتلك الهوة التي يعيشها المغاربة جغرافيا وتاريخيا بين المركز أو المدينة (العاصمة وبعض المدن الكبرى كمراكش وطنجة...) والهوامش المحيطة بها والمدن الهامشية المتعددة (جبالة، عروبية..، سكان البادية والمدن المتبدونة)، وهي نفس الهوة التي جعلت المغاربة يصفون بلدهم ببلد المفارقات أو بلد المتناقضات الموروثة والتي تعايشوا معها في حياتهم العامة بل وتأثروا بها كأنهم في حالة "انفصام في الشخصية المغربية" (مغرب نافع ومغرب غير نافع)، انفصام لم يترك مجالا من المجالات الحيوية إلا وقد استوطن فيه وأفرز أعراضه المرضية عليه لتظهر جلية في كل امتحان أو مناسبة حاسمة من حياتهم سواء في السياسة والانتخابات أو في التنمية أو في الثقافة والفكر أو حتى في تعاملهم مع الدين الإسلامي والأديان الأخرى وغير ذلك من المجالات التي تنكشف فيها علاتنا النفسية فتنجم عنها مخلفات سلبية كثيرة تكبح مسيرة البلاد المرجوة للتقدم في طريق الالتحاق بمصاف البلدان المتحضرة في العالم. فهل يحتاج المغاربة إلى معالجة نفسية عميقة لانتشالهم من مرض الانفصام؟ أتذكر، بالمناسبة، منظر بعض المارقين الذين اخترقوا حراك 20 فبراير بمدينة العرائش (يوم 20 فبراير 2011)، حيث أقاموا الفوضى وأشعلوا النيران في المدينة وهم يمسكون العصي والسيوف في يد والرايات الوطنية وصور الملك في يدهم الأخرى، فأكاد أجزم متأثرا بسريالية المشهد أننا في حاجة إلى علاج نفسي عميق وصادم يشمل كل أعضاء جسمنا العليل.