بعد انسحابي من الحركة الشعبية خصصت وقتي كله للاجتماعات التي كنت أشرف عليها، وكانت تضم العديد من المقاومين من مدينة الدارالبيضاء والمدن الأخرى، وكنا نعقدها بمنزل المقاوم حسن النكريمي ببوسيجور، وكان الهدف منها لمّ شمل قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، والبحث عن حلول للمشاكل التي بدأت تواجههم بعدما تنكر الجميع لهم، ووضع حد للشرذمة التي استغلت الأحداث وصارت تتمتع بالامتيازات باسمهم. وفي إحدى هذه الاجتماعات تناولت الكلمة وقلت لهم إن اجتماعاتنا هذه أصبحت لتضييع الوقت فقط، وإذا استمرت على هذا المنوال فلن نجني منها شيئا والأيام تمر، لهذا اقترح عليكم بأن نتوجه إلى المقاوم الأول جلالة الملك محمد الخامس، ونضع بين يديه مشاكلنا، ونقترح على جلالته أن يخلق لنا إطارا قانونيا، وبطاقة خاصة بنا، لأن الذي ينخرط في حزب أو ناد رياضي أو جمعية يحمل في محفظته بطاقة الانتماء إليها، فكيف ونحن من حرر هذه البلاد من الاستعمار، وسائر المقاومين في جميع بقاع المعمور لهم بطاقة ويحظون بعطف الدولة وتخصص لهم الرواتب والامتيازات، ولكي تستطيع الدولة كذلك معرفة من هو المقاوم الحقيقي والمزيف، فحظي الاقتراح بترحيب الحاضرين، ولكنهم تساءلوا كيف يمكن لنا أن نحقق ذلك؟ فاقترحت عليهم أن نحرر ملتمسا ونعمل على أن تسلمه لجنة منا يدا بيد لجلالة الملك، لكي لا يكون مصيره مثل العديد من الرسائل والملتمسات السابقة التي وجهناها للديوان الملكي. کونا لجنة خاصة لتشرف على تحرير الملتمس، واقترح بعض الإخوان أن أكون رئيسا لها. بعدما حررنا الملتمس وقمنا بمناقشته والموافقة عليه في أحد الاجتماعات التي خصصناها لذلك، اقترحت على الإخوان أن أسافر إلى مدينة الرباط لزيارة السيد أمبارك البكاي، الذي تعرفت عليه أيام تأسيس الحركة الشعبية، لألتمس منه أن يتوسط لنا لدى جلالة الملك محمد الخامس ليحدد لنا موعدا للقائه. سافرت إلى مدينة الرباط، وزرت السيد أمبارك البكاي في منزله بعدما رحب بي، التمست منه أن يساعدنا في تحديد موعد للقاء جلالة الملك محمد الخامس لنسلم له ملتمسا خاصا ببعض مطالب رجال المقاومة وجيش التحرير، وبعدما طرحت عليه فكرة الملتمس ومحتواه، شجعني على ذلك وقال: "هذا أقل واجب تقدمه لكم الدولة". وطلب مني أن أزوره أو أتصل به هاتفيا في الأسبوع المقبل، ليخبرني بما توصل إليه مع جلالة الملك. بعد مرور أسبوع، اتصلت بالسيد أمبارك البكاي هاتفيا، فأخبرني بأن جلالة الملك حدد لنا موعدا للقائه في زوال الغد، وطلب مني أن لا يتعدى عدد أفراد الوفد ستة أشخاص، وأن أزوره في الغد في منزله صباحا ليخبرني بالمكان والوقت. سارعت في الاتصال بالإخوان لعقد اجتماع في المساء لاختيار الإخوان الذين سيتشكل منهم الوفد، وسيتولون مهمة لقاء جلالة الملك وتقديم الملتمس له، بعدما وضحت لهم أن العدد لن يتجاوز ستة أفراد، اختاروا لهذه المهمة كلا من: بلحسين الطالعي مفتاح الحاج عباس محمد جعفر الجيلالي أحديبا عبد الحفيظ حسن بلمودن كما كلفوني بأن أكون ناطقا باسمهم لدى جلالة الملك. في الغد، توجهنا صباحا في سيارتي إلى مدينة الرباط قاصدين منزل السيد أمبارك البكاي، فاستقبلنا في منزله بحفاوة ورحب بنا، وأخبرنا بأن جلالة الملك كان يريد لقاءنا ليتسلم منا الملتمس والاستماع إلى مطالبنا، ولكن جلالته يوجد خارج مدينة الرباط، وقد كلف قبل سفره ولي العهد أسميت سيدي بأن يستقبلنا بقصر السلام بالسويسي في حدود الساعة الرابعة ظهرا. ودعنا السيد أمبارك البكاي، وفي الساعة الرابعة توجهنا إلى قصر السلام بالسويسي، فاستقبلنا سموه في الساعة السابعة مساء، فرحب بنا واعتذر عن التأخير، وقال: "كما تعلمون أن سيدنا يوجد خارج مدينة الرباط، وأنا الذي أنوب عنه في تسيير سائر أشغال الدولة"، وسألنا عن الهدف من طلبنا لقاء جلالة الملك، فقدمنا له الملتمس، وطلبنا منه أن ينوب عنا في تقبيل أيادي جلالته وتقديم أسمى فروض الطاعة والولاء لجلالته وللعرش العلوي المجيد، فسألنا عن موضوع الملتمس، فقلت له: "أسميت سيدي، إننا نلتمس من جلالة الملك ومنكم بأن تنظروا لهذه الفئة المخلصة من مواطنيكم بعين العطف والرضا، وإصدار مرسوم ظهير شريف بخلق إطار قانوني لها، تتحدد بموجبه صفة مقاوم تمنح لمن تتوفر فيه الشروط بطاقة مقاوم تحمل التوقيع الشريف للمقاوم الأول جلالة الملك والدنا ووالدكم، ولتخلد لهم ولأبنائهم شرف مشاركتهم في تحرير وطنهم مثلما يحدث في سائر الدول، ولقطع الطريق على كل من هب ودب من المرتزقة والعملاء والخونة، الذين بدؤوا يدعون بأنهم ينتمون إلى صفوف هذه الفئة المخلصة لله والوطن والملك". فقال سموه: "ولكن ما هو الهدف من خلق هذه الصفة". فقلت له: "أسميت سيدي، إن المقاومين لهم مطالب من الدولة وجل الشعب المغربي يدعي أنه مقاوم، وهم ضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل رجوع ملكهم وتحرير وطنهم، لهذا يجب على الدولة أن تساعدهم، وإذا أرادت أن تساعدهم يجب أن يكون لديها وثيقة رسمية تعتمد عليها في ذلك". فأجابنا سموه: "إن المشكلة ليست في تحديد عدد المقاومين، ولكن المشكلة أن الشعب المغربي كله يحتاج إلى المساعدة، وإلى توفير لقمة العيش الكريم له". فأجبته: "وحتى هذه الفئة من المقاومين هي جزء من الشعب وتحتاج إلى المساعدة، وإلى لقمة العيش الكريم". فأجابنا: "طيب وصحيح، ولكن إذا أردنا أن نعرف من هو المقاوم في المغرب من أين سنبدأ، لأن المغاربة منذ أقدم العصور تميزوا بصفة المقاومة، وحالوا دون استيلاء الأجنبي على بلادهم، ووقفوا سدا منيعا دون أية سيطرة خارجية على المغرب، ودون التمكن من رقاب المغاربة. وفي الرجوع إلى التاريخ خير دليل على هذا، سواء قبل الإسلام أو بعده، في أقدم العصور أو أقربها، هل نبدأ من الفينيقيين عندما أرادوا احتلال المغرب، حاربهم المغاربة وأرجعوهم على أعقابهم، أم من الرومان عندما جاؤوا بدورهم لاحتلال المغرب، فحاربهم المغاربة وأرجعوهم على أعقابهم، أم من الغزو الصليبي للإسبانيين والبرتغاليين، حاربهم المغاربة وردوهم على أعقابهم، أم من طمع الأتراك إخوانهم في الدين في احتلال المغرب فحاربهم المغاربة وردوهم على أعقابهم، وهكذا استمر سير التاريخ إلى أن انبعثت روح المقاومة من جديد في أيامنا هذه على يد سيدنا الهمام المقاوم الأول جلالة والدنا محمد الخامس، فما كاد يوقد جذوة الكفاح عن الحرية والاستقلال، حتى هب الشعب عن بكرة أبيه وانتظم في سلك المقاومة، بجميع طبقاته وهيآته في الشمال والجنوب، فالشعب المغربي كله تجري في دمائه المقاومة، فمن أين ستبدأ؟". فقلت له: "هل يسمح لي سميت سيدي بأن أوضح له الصورة". فقال: "قل ما تريد وخد حريتك في الكلام". فقلت له: "عندما جاء الفينيقيون لاحتلال المغرب حاربهم المغاربة حقا وردوهم على أعقابهم، وهذا يبين لنا أن المغاربة كانوا أقوياء وكانوا متحدين، ولو لم يكونوا أقوياء ومتحدين لما استطاعوا أن ينتصروا عليهم ويردوهم على أعقابهم خائبين، وعندما جاء الرومان لغزو المغرب، سمعنا أن المغاربة حاربوهم بجيش جرار وبالأفيال كذلك، فهزموهم شر هزيمة وردوهم على أعقابهم، وهذا يوضح لنا أن المغاربة كانوا في ذلك العصر قوة كبيرة يحسب لها ألف حساب، أما الغزو الصليبي الإسباني البرتغالي، فتقول الأخبار إن المغاربة كانوا متحدين وعلى كلمة واحدة حكامهم وعلماؤهم وزواياهم، واستطاعوا في معركة وادي المخازن دحر الغزو الصليبي للمغرب، ودحروا الإسبانيين والبرتغاليين وهزموهم شر هزيمة وسجلوا ملحمة نادرة من البطولة مازالت مسطرة في صفحات تاريخ المغرب بمداد دماء الشهداء، أما عندما جاء الأتراك كان المغاربة في تلك الحقبة بدؤوا يتقنون ممارسة فن السياسة والخروج من المعارك بأقل الأضرار، فدفعوا البلاء عن بلادهم بالقوة والحكمة والدهاء، وردوا الأتراك عن حدودهم واتقوا شرهم. لكن المغاربة دخلوا بعد ذلك في عزلة ولم يبقوا مغاربة تلك الأحقاب، لأنهم أصبحوا ضعفاء، وتكالب عليهم الدهر، ولكل أمة قوية من زمان تهرم فيه وهذا حال الأمم، فاستغل الأوروبيون ضعفهم وتشتتهم وجمودهم، فتآمروا عليهم، وسلموهم لقمة صائغة للفرنسيين والإسبانيين، ودخلوا المغرب باسم الحماية، ولم يبق للمغاربة أي شيء، لا إرادة ولا سلاحا، وجاءت الحرب العالمية الثانية ودافع المغاربة بجانب الحلفاء، فخسرت ألمانيا الحرب، وتطلعت شعوب العالم إلى الحرية والاستقلال، ومن جملتهم الشعب المغربي، وبدأ المغاربة في التحرك من أجل المطالبة بالاستقلال، وكان لوالدكم دور كبير في انتشار الوعي الوطني، منذ مؤتمر أنفا سنة 1943 ولقائه بالرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت، والوزير الأول البريطاني وونستون تشرشل، ومطالبة جلالة الملك لهما بمساعدة المغرب للحصول على استقلاله وكان سموكم حاضرا في هذا الحدث التاريخي الهام، وكان لجلالته دور كبير في تشجيع الشخصيات الوطنية والسياسية على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، وفي سنة 1945 عندما وشح الجنرال شارل ديغول والدكم بوسام رفيق التحرير، استغل جلالته هذه الفرصة وجدد المطالبة باستقلال المغرب، وأعرب عن أمله في الوفاء بالوعود التي قدمت لجلالته في مؤتمر أنفا. وجاءت سنة 1947 فكان الخطاب الملكي لوالدكم بمدينة طنجة الشعلة التي دفعت بالمغاربة إلى التفكير جديا في المطالبة باستقلال بلادهم. وجاءت محنة الجنرال جوان وذهب بخيره وشره، بعد أن لم يستطع تحقيق مخططه والضغط على والدكم ليتراجع عن مطالبه، وجيء بكيوم الذي قال في خطابه الشهير "إن الحرب مهنتي وسأطعم المغاربة التبن"، وألقى القبض على جميع السياسيين والنقابيين والوطنيين، ولم يبق في المغرب لا زعيم ولا مسير ولا نقابي، إلا الملك والشعب وفرنسا، ثم تم نفي جلالة الملك إلى كورسيكا، فلم يبق في المغرب لا ملك ولا زعيم ولا مسير ولا نقابي، وبقي الشعب وفرنسا وجها لوجه. فجاءت هذه الجماعة من المواطنين، الذين لم يجدوا أمامهم إلا الوسيلة الوحيدة التي تلجأ اليها الشعوب المظلومة منذ أن خلق الله الأرض وما عليها، وقدمت نفسها للاستشهاد قربانا للوطن، لأنها لم يكن عندها الوقت الكافي لوضع عملية حسابية لما ستقدم عليه، فهل ستنجح أم ستفشل، ولم تنتظر الجواب عن هذا السؤال الصعب، ولم تتلق الفتوى من العلماء أو من الزعماء، وقدمت أرواحها فداء للوطن والعرش، بسلاح قليل ولكن بعزيمة قوية، فساعدتها الظروف على تحقيق النصر بعون من الله، ورجع الملك إلى وطنه مؤيدا منصورا وتحرر المغرب من نير الاستعمار، فهل لهذه الفئة القليلة من المواطنين التي ضحت بأرواحها وأموالها حق على هذا الوطن وعلى هذا العرش؟". فطأطأ سموه رأسه وصمت لفترة ليست بالقصيرة، ثم قال: "صدقت، وسيكون إن شاء الله خيرا، وأعدكم بأنكم ستسمعون ما سيسركم قريبا"، وأضاف مازحا: "كل هذا ويقول عليكم السياسيون إنكم لا تجيدون فن السياسة، وغير مؤهلين للتفاوض والإقناع". بواسطة هذا الملتمس، وكذلك بتلك العبارات الصادقة التي خرجت من القلب، كان الفتح، وأوفى ولي العهد مولاي الحسن بوعده. وصدر بعد ذلك بما يقرب من شهرين، في 11 مارس سنة 1959، أول ظهير شريف لتحديد صفة مقاوم. كما قمنا بتسليم نسخة أخرى من الملتمس إلى السيد عبد الله إبراهيم الذي بدأ يشغل آنذاك منصب رئيس الحكومة بواسطة كاتبه الخاص، فوعدنا خيرا، وقال إنه سيدرس الأمر مع جلالة الملك. وأخبرني بعد ذلك عبد الله الصنهاجي بأن جلالة الملك عند توصله بالملتمس أمر السيد عبد الله إبراهيم بتكوين لجنة لبحث مشروع الظهير الخاص بتحديد صفة مقاوم، فاستدعى السيد عبد الله إبراهيم كلا من: الدكتور عبد الكريم الخطيب وعبد الله الصنهاجي وحسن صفي الدين، الملقب حسن الأعرج، لتكوين لجنة من المقاومين الدراسة مشروع الظهير. وعقدوا لهذه المهمة أول وآخر اجتماع لهم بمنزل حسن صفي الدين بحضور كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب وعبد الله الصنهاجي، وقعت فيه مشادة كلامية حادة بين عبد الله الصنهاجي وحسن الأعرج، انفض على إثرها الجمع دون الوصول إلى اتفاق. وللأسف ضاعت من بين يدي نسخة الملتمس في زحمة الأحداث التي وقعت لي بعد ذلك. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]