أوساط غربية وأخرى عربية ووسائل إعلام من مختلف الاتجاهات والمشارب، بما فيها الإسرائيلية والفلسطينية، لا حديث لها ولا هم سوى موضوع الصفقة التي يتم الترويج لها في إطار رسم سياسة شاملة رصدت للمنطقة، لعلها تفرز إخراجا لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولتدخله في مرحلة جديدة قد يكون لها أفق، وأي أفق؟ أو قد يكون الهدف من ورائها فقط إسالة اللعاب من خلال تجديد مسار آخر لمفاوضات مزعومة. وفي سياق ملامسة هذا الموضوع، صدقا لم أكلف نفسي كل ذلك العناء في البحث عن مقتضيات الصفقة، إيمانا مني بأن العبرة ليست في النصوص ولا في الاتفاقات الواعدة، وإنما في الإرادة الجادة وفي صدق النوايا والرغبة في تنزيل ما قد يتفق عليه طرفا أي وثيقة. كثيرة هي الاتفاقات التي أبرمت في إطار تسوية هذا الصراع، وكثيرة هي المشاريع التي أعدت في المحافل الدولية، كما هي المبادرات العربية التي صيغت وأجهضت قبل أن يجف مدادها...وعلى رأسها اتفاقات أوسلو الحالمة التي لم تر النور إلا بالقدر والهدف الذي أرادته إسرائيل لها. ومادام ميزان القوة مختلا فإن أي وثيقة مهما كانت طبيعتها ومقتضياتها لن يتأتى لها قطعا أن تأخذ طريقها نحو تسوية عادلة؛ وهذا يقودنا إلى التساؤل: لماذا دخلت اتفاقات أوسلو في نفق مسدود وتعذر على الفلسطينيين تحقيق الحلم؟ التعرف على ذلك قد يساعد أولا على فهم الواقع وتجاذباته والصراعات الداخلية عند كل طرف ومسؤوليتها فيما آلت إليه تلك الاتفاقات، وثانيا يساعد على إدراك ما إذا كانت الصفقة المعدة قد توفرت لها الأجواء المناسبة لكي لا تقع هي الأخرى في المحذور عند البعض، وفي نفس المطبات التي حالت دون تنزيل اتفاقات أوسلو، وإلا سنجد أنفسنا مجددا أمام اجترار وضع محبط. اتفاقات أوسلو لعام 1993وما تلاها من اتفاق القاهرة عام 1994، المعروف بغزة أريحا أولا، وبعدها اتفاق واشنطن لعام 1995، كلها ركزت على تفويت مخطط للتسوية لم تكن جميع الأطراف سواء داخل إسرائيل أو داخل التنظيمات والحركات الفلسطينية مجمعة عليه. وبعد أن أنشأت ما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب تلك الاتفاقات في حدود ما كان يعرف آنذاك بالمنطقة "أ"، بدأ الصراع يحتد بين الفرقاء المناصرين لمواصلة المسلسل السلمي من قبل منظمة التحرير الفلسطينية وحزب العمل بقيادة إسحاق رابين وشمعون بيريز من جهة، وبين الفرقاء المناهضين من حركة حماس واليهود المتطرفين الذين يرفضون من الأساس مسلسل أوسلو من جهة ثانية. وقد أدى هذا الصراع إلى نتائج كارثية كان من ورائها المعرقلون، لأن حماس كانت من الأصل ترفض أن يترك المجال للسلطة الفلسطينية للذهاب في هذا المشروع، لا لشيء سوى أنه قد يعزز من مكانة السلطة وشعبيتها على حساب الحركة، وهو الهاجس نفسه الذي شغل بال المتطرفين اليهود تجاه اليسار الإسرائيلي المتساهل في نظرهم. وكان على بناة السلام أن واجهوا تحديات حقيقية بعد أن سارع الجناح العسكري لحركة حماس إلى تنفيذ ما يسمى عمليات فدائية في قلب إسرائيل، هدفها الحقيقي تصفية الحساب مع السلطة الفلسطينية وإيقاف مسلسل أوسلو. وفي الجهة المقابلة عند الإسرائيليين ازدادت مخاوف اليهود المتطرفين بعد الانفجارات التي هزت عدة مدن إسرائيلية. وبتواطؤ مع المؤسسة العسكرية تمكن يهودي متطرف يدعى "ايغال أمير" من أن يصب ثلاث رصاصات في جسم إسحاق رابين على مرأى عناصر من الجيش الإسرائيلي في ساحة السلام أمام مبنى بلدية تل أبيب، حيث كنت شاهد عيان على الحدث، وهرع به إلى أقرب مستشفى اسمه "إيخلوف" وفارق الحياة عند المدخل. ومع قتل الرجل قتل مسلسل أوسلو. وتبعثرت كل الأوراق بصعود اليمين إلى السلطة في يونيو 1996؛ فجاء بنيامين نتنياهو رئيسا للحكومة، وعرف كيف يحول السلطة الفلسطينية إلى سلطة قائمة فقط في حدود المنطقة "أ" وقطاع غزة، وأن يجعل منها دركيا لحماية إسرائيل، ولتقوم بوظيفتها الأمنية في مناطق آهلة بالفلسطينيين، أرادت تل أبيب في الأصل التخلص من عبئهم؛ فيما بقيت منطقتا "ب" و"ج"، 80 بالمائة من مساحة الضفة الغربية، إلى يومنا هذا تحت السيطرة الكاملة لإسرائيل. تعنت اليمين الإسرائيلي لم يتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى القفز على قضايا كانت مؤجلة إلى مفاوضات الوضع النهائي، واستعجال الحسم فيها بشكل أحادي كإعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل مقر السفارة الأمريكية إليها بعد أن كانت في السابق تطل على شاطئ تل أبيب. وإذا كان الحديث اليوم جاريا عن وثيقة قالوا إنها "صفقة القرن"، فإن ما ينبغي أن يشد الانتباه أنها أعدت في ظروف أقل ما يقال في حقها إنها أسوأ بكثير عربيا من الظروف التي أعدت فيها اتفاقات أوسلو، التي لم يرد لها النجاح، فبالأحرى تلكم الصفقة. موازين القوة اليوم أكثر اختلالا من أي وقت مضى، ولصالح المتحكم في قواعد اللعبة، ألا وهي إسرائيل. محور المواجهة مع إسرائيل لا يعرف اليوم كيف يواجه أوضاعه، فسوريا ما هي بسوريا، دمار وخراب، والعراق بات مهددا بالانقسام إلى ثلاث عراقات، ودولة حزب الله تحولت منذ "النصر الإلهي" لعام 2006 إلى مقاومة تفرس أبناءها من بقية الأطياف اللبنانية، وتسخر صواريخها في حرب مفتوحة مؤازرة لبشار الأسد لعلها تلتقط دبدبات القدس المفقود في دمشق، لتنزلق نحو العبث بالسوريين وغير السوريين. وإذ كان الأمر على ما هو عليه من ترد وتقهقر فلسطيني وعربي، فهل القيادة الفلسطينية ترى في نفسها قادرة على تدبير مقتضيات صفقة القرن وتنزيلها على النحو الذي يخدم الأهداف الكبرى للقضية؟ أم أن الأمر عصي عليها وعصي على غيرها من الدول العربية؟ لاسيما بعد أن سقطت كل الأقنعة وتحول كل ما كان مستورا إلى مكشوف وأزكمت الرائحة العربية الأنوف. بل إن الطرف العربي الذي كان في وقت من الأوقات يتقدم بمبادرات سلام مقابل الحصول على شيء، وهو ما لم يتيسر له، أصبح اليوم أول من يتخلى عنها تحت طائلة التهديد في نظامه وفي وجوده. وإذا كان هذا هو الواقع، فما العمل إذن؟. سؤال يطرح على القيادة الفلسطينية أكثر من أي قيادة أخرى..آن الأوان لتتخلى عن الوهم الذي طالما ابتليت به، فما حك جلدك مثل ظفرك. المطلوب من تلك القيادة إذن أن تتحلى بالواقعية عوض أن تراهن على فارس أحلام يمتطي جوادا عربيا أبيض من خلف سراب بدا ألا وجود له في الأصل. القيادة الفلسطينية إذن أمام خيارين أحلاهما لا يقل عن مرارة العلقم؛ الخيار الأول أن تساير الموجة وألا تذهب في الاتجاه المعاكس للتيار حتى ولو كان جارفا. أنظمة عربية قد تدفع بها إلى الانخراط في الصفقة مقابل دعم مالي يقدم كالعادة للسلطة الفلسطينية لتدبير الأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية للفلسطينيين في الضفة والقطاع. وربما أن الغرض من ذلك ليس بالضرورة أن يكون مدخلا لتسوية القضية الفلسطينية، فالأمر لم يعد فيه مجال للتصرف من الجانب العربي، فيما أوراق اللعبة أضحت في مكان آخر وفي أياد أخرى بالتأكيد أنها ليست أيادي عربية. الخيار الثاني بقدر ما هو حمل ثقيل على القيادة الفلسطينية بقدر ما خيار إستراتيجي على المدى البعيد، ورجاله لم يولدوا بعد. ويتعلق الأمر باتخاذ القيادة الفلسطينية قرارا تاريخيا هو تقديم استقالتها وإعادة المناطق التي أعطيت لها بموجب اتفاق أوسلو إلى دولة إسرائيل.. قرار ليس بالسهل بل يصعب حتى تصوره. يقال إن السلطة الفلسطينية سلطة وطنية، وهو الاسم الذي أعطي لها في شهادة ميلاد أوسلو؛ ولكي تكون كذلك ينبغي أن تكون وطنية في اختياراتها وأن تضع فوق كل اعتبار مصلحة أصحاب القضية؛ فالقرارات التاريخية تتطلب الجرأة ونكران الذات. وهل تلك القيادة تتحلى بنكران الذات أم أنها ابتليت كغيرها من القيادات العربية بعقدة السلطة..لماذا ينبغي على القيادة الفلسطينية أن ترمي بمنديلها على الحلبة إن استطاعت إلى ذلك سبيلا؟. أولا لأنها إلى غاية الآن لم يتيسر لها أي شيء على الأرض، بل تبين أن دور السلطة الفلسطينية لا يتجاوز حدود تدبير الأحوال المدنية والأمنية لساكنة المنطقة "أ"، وبالتالي ليست هناك مؤشرات لدولة، وثانيا أن اتخاذ قرار من هذا القبيل من شأنه أن يعيد الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، حيث التحديات الأمنية قد تظهر من جديد. ومن المؤكد أن إسرائيل سوف تعاني الأمرين من الناحية الأمنية ومن الناحية السياسية، والأخطر تهديد الكيان الإسرائيلي. فتل أبيب لن تقبل بوجود فلسطينيي الضفة والقطاع على أرضها لأن قوانينها الأساسية تعرف إسرائيل بأنها دولة يهودية خالصة. ولذلك على القيادة الفلسطينية أن تثبت وطنيتها، وأن تدرك بأن هذا القرار إستراتيجي، فلا يمكن الاستمرار في وضع غامض وبدون أفق لا يبشر بكيان مستقل ولا بالانضمام إلى دولة إسرائيل..هل القيادة الفلسطينية قادرة على بعثرة الأوراق أم أنها مجبرة على الانتظار إلى حين أن تجد لها السلطة العليا في هذا العالم موطنا للمبيت في خاصرة إقليم من أقاليم دول الجوار؟. ومن المحتمل أن يكون السيناريو الأخير هو سيناريو المرحلة القادمة، كما هو غير معلن في صفقة القرن. [email protected]