نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/25- النظرية الماركسية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة لم تعد الدراسات الماركسية تستهوي الباحثين. لقد اختفى العديد من المجلات والصحف الماركسية أو المتمركسة المتخصصة، وأصبحت الكتابات الماركسية بصفة عامة تعرض ضمن أكوام الكتب المستعملة ولا من يشتريها. وبعبارة أوضح لقد دخلت النظرية الماركسية طي تاريخ الفكر الغربي، ولم تعد وعاء دعائيا تغرف منه الأنظمة الاشتراكية أو الشيوعية في سياق مواجهتها الإيديولوجية مع الرأسمالية الليبرالية. ليس هذا إيذانا ب "نهاية التاريخ " وإنما هو تحول تاريخي ما في ذلك من شك. وعموما، ليس من السهل عرض وتحليل النظرية الماركسية بكل ما تحتاجه من مناقشة لمنهجيتها الفلسفية وتدقيق لآلياتها المفاهيمية، لكن ليس من الصعب الكشف عن مدلول محاورها الرئيسية. والبداية تحددها شخصية مؤسس النظرية والظروف التاريخية التي تبلورت فيها. ازداد كارل ماركس في مدينة تريف بألمانيا سنة 1818، وكان ينتمي إلى عائلة يهودية اعتنقت البروتستانتية. درس القانون والتاريخ في جامعتي بون وبرلين وحصل على درجة الدكتوراه سنة 1841. كان يرغب في بداية حياته العملية في ممارسة التدريس الجامعي، لكن آراءه الثورية دفعت السلطات الألمانية إلى عرقلة نشاطه الجامعي فلجأ إلى الحقل الصحافي وعمل رئيسا لتحرير "صحيفة الراين" سنة 1842، لكن الخط الإعلامي لهذه الصحيفة لم يكن موافقا للسياسة الرسمية فتم إغلاقها. وهكذا انتقل ماركس إلى باريس سنة 1843 حيث أشرف على إصدار صحيفة "إلى الأمام"، وفي باريس التقى ببرودون وبعدد من المفكرين الاشتراكيين ومنهم لويس بلان. على أن لقاءه مع فريدريش إنجلز في بروكسل سنة 1844 ظل من أهم اللقاءات المثمرة التي ساهمت بشكل فعال في التعريف بالفكر الماركسي وتعزيزه. شارك الاثنان في اجتماع عقدته العصبة الشيوعية بلندن سنة 1847، وتعاونا معا على صياغة "البيان الشيوعي" المشهور، الذي كان عبارة عن إعلان لهذه الجمعية عن آراءها في قيادة الحركة الثورية التي اندلعت في فرنسا سنة 1848. وقد جاء في نهاية البيان الشيوعي شعار كثيرا ما رفعته التيارات الماركسية بمختلف توجهاتها منذ ذلك الحين، وهو: " يا عمال جميع بلدان العالم اتحدوا". وهو تعبير تعبوي يحث كل أفراد الطبقة البروليتارية على أنهم إذا اتحدوا لن يفقدوا سوى أغلالهم ويبقى أمامهم عالم سيكسبونه. غير أن ثورة 1848 منيت بالفشل. بعد ذلك استقر كارل ماركس في لندن ليقضي فيه بقية حياته، وفي سنة 1867 نشر الجزء الأول من كتابه "رأس المال" وأما الجزءان الثاني والثالث فقد نشرهما صديقه إنجلز على التوالي في عامي 1885 و1895، أي بعد وفاته سنة 1883. ويعد كارل ماركس من المؤسسين للأممية العالمية الأولى التي انشقت عام 1873 إلى تيار فوضوي بزعامة باكونين وتيار اشتراكي ماركسي. الديالكتيك كان ماركس وإنجلز من الأتباع اليساريين لفلسفة هيجل، لكنهما كانا مختلفين مع أستاذهما هيجل فيما يخص نظرية "المادية الجدلية" والمعروفة في الجدل الهيجلي على أساس كونها علاقة الطريحة بنقيضتها، وهي علاقة جدلية تعطي حصيلة بمثابة طريحة جديدة، وكل طريحة لابد لها من نقيضتها وهكذا دواليك. أراد ماركس أن يطبق هذا الديالكتيك الهيجلي لمعرفة أسباب المتناقضات الاجتماعية فخلص إلى نتيجة مقبولة شكلا ومرفوضة مضمونا. والديالكتيك يفيد أن كل فكرة تنطوي على نقيضها، وهذا التناقض يدفع الفكرة ونقيضها إلى فكرة ثالثة تؤلف بينهما، وهو شيء مقبول حسب ماركس، لكن الديالكتيك الهيجلي له مضمون روحي لأنه يجعل من الروح أصلا والتطور انعكاسا، وهذا ما رفضه ماركس قائلا:" إن الديالكتيك الهيجلي مقلوب رأسا على عقب ويجب أن نقبله من جديد ". ويقصد بذلك أن المادة هي الموجود الحقيقي، وهذه المادة في حركة متواصلة وخاضعة لقوانين الديالكتيك في شكلها. وهكذا نشأ منهج " المادية الجدلية" عند ماركس محاولة منه لفهم قوانين تطور المجتمعات البشرية. كانت فرضية ماركس شبيهة إلى حد ما بتلك التي قال بها عدد من المفكرين الذين سبقوه ومنهم روسو، ومفادها أن المجتمع البدائي كانت تسوده المساواة ويميزه نوع من التعاون الذي كان يفرضه الصراع ضد قوى الطبيعة، وبفضل هذا الصراع نشأت الأنظمة الاجتماعية، لكن سرعان ما تفجر الصراع بين أفراد المجتمع حول الثروة والسلطة، فتشكلت طبقات اجتماعية متباينة المصالح، ومن هنا كان تاريخ البشرية مجرد تاريخ للصراع بين طبقات المجتمع البشري. ويحلل ماركس هذا التطور مؤكدا أن المجتمع البدائي تعرض لاضطرابات كانت ناتجة عن استعمال أساليب جديدة للإنتاج، مما أفقده توازنه الأصلي. ومن هنا بدأ استخدام وتطوير الأسلحة والمعدات الآلية التي شكلت ابتكارات واختراعات بالنسبة لزمنها، غير أن نظام التفكير والسلوكيات الأخلاقية والمعايير القانونية على بساطتها لم تعد قادرة على مواكبة التطور المادي وملاءمة ما يفرضه الاحتكاك بالبيئة الطبيعية من تقدم على مستوى الفكر التجريدي. ومن هنا استخلص ماركس أن النظام الاجتماعي هو الذي يخلق الفكر وليس العكس كما هو وارد في المثالية الهيجلية. ويرى ماركس أنه من قبيل المنطق السليم قيام بنيات فوقية تمثلها الأفكار والقيم انطلاقا من واقع اجتماعي جديد، وهي عملية لا يمكن أن تمر بهدوء لأن المستفيدين من الوضع القديم لا بد أن يقاوموا كل تحديث من شأنه أن يضر بمصالحهم الطبقية، وبالمقابل فإن ضحايا النظام القديم الذين كانوا يعانون من عبء المتناقضات الناجمة عن أساليب الإنتاج السائدة لابد أن يدخلوا في صراع مع المستفيدين من الوضع القديم، وهكذا عندما يبلغ الصراع الطبقي نقطته الحرجة يتولد عنه نظام اجتماعي جديد، و ليس ذلك من الناحية النظرية إلا تطبيقا لمفهوم المادية الجدلية. تغيير العالم يرى ماركس أن بداية تاريخ المجتمع الإنساني كانت شيوعية، بمعنى أن المجتمع لم يكن يشتمل على طبقات اجتماعية متعارضة المصالح، ولم تظهر الطبقات إلا بعد أن برزت ظاهرة تقسيم العمل، فتحول المجتمع الشيوعي إلى مجتمع عبودي. وبالطبع كان الصراع وقتئذ بين السادة والعبيد، وهذا الصراع هو الذي أدى بدوره إلى قيام نظام جديد هو النظام الإقطاعي الذي يمتاز عن سابقه بظهور العمال المزارعين. عندئذ كان الصراع قائما بين الإقطاعيين والفلاحين، وتولد عن هذا الصراع ظهور طبقة جديدة هي طبقة أصحاب الحرف اليدوية. وتحت ظروف الثورة الصناعية وما أفرزته من أساليب آلية جديدة في مجال الإنتاج برزت طبقة الرأسماليين. وتجسد الصراع في مواجهة بين الرأسماليين وطبقة البروليتارية المتكونة من مجموع العمال الذين وقعوا تحت قبضة استغلال الرأسماليين. وكان ماركس يرى أن الرأسماليين قد استنفدوا دورهم التاريخي، لقد استحدثوا أساليب متطورة وأكثر فاعلية على مستوى تقسيم العمل والتجارة والإنتاج، لهذا كانت مقاومة الطبقة الإقطاعية لهم في البداية مقاومة شديدة، ولكن حتمية المادية الجدلية حتمية من المستحيل مقاومتها. وكل ما راكمته الرأسمالية من أساليب إنتاجية وما استحدثته من قوانين تدعم مصالحها لم يعد مستحملا من طرف الطبقة العمالية التي لجأت بدورها إلى تشديد أساليب نضالاتها في مواجهة استغلال الرأسماليين لها. والخروج من هذا الوضع حسب ماركس يستلزم القضاء على البنيات التحتية بكاملها من مصانع وتجهيزات وكافة آليات الإنتاج الرأسمالية، وهو ما يستوجب في نفس الوقت تحطيم كل البنيات الفوقية من النظم القانونية والسياسية التي كانت تؤطرها من الناحية الإيديولوجية بهدف لتكريس ودعم نمط الاقتصاد الرأسمالي المبني جوهريا على استغلال الطبقة الكادحة واستلابها. لذلك وجب في نظره تحطيم البنيات الأفقية القديمة قصد مسايرة الواقع الاجتماعي الذي ستفرضه الثورة البروليتارية التي بانتصارها سيتم الانتقال إلى النظام الاشتراكي. هذا، ويلخص كارل ماركس محددات الصراع الطبقي في عنصرين أساسيين، وهما " قوى الإنتاج" و"علاقات الإنتاج". وبينما يعني العنصر الأول كل الموارد الطبيعية والمعدات الآلية والعمل، يفيد العنصر الثاني أن تحديد العلاقات الاجتماعية إنما يكون على أساس إنتاجي، أي أن قوى الإنتاج هي التي تحسم في تشكيل البنيات الفوقية من قيم أخلاقية وقواعد قانونية وغيرها. وهذا معناه أن كل تغيير يحصل على مستوى قوى الإنتاج يؤدي حتما إلى تغيير القيم، ومن يسيطر على قوى الإنتاج يمكنه التحكم في هذه القيم. وهكذا لا يمكن إرجاع التاريخ إلى الروح كما تصور هيجل، وإنما هو من صنع البشر. وتخضع حركية التاريخ لظروف اقتصادية ضرورية ولكنها مع ذلك تبقى غير كافية لإنجاح المد الثوري، لماذا؟ يجيب ماركس بأن عدم كفاية الظروف الاقتصادية راجع إلى لزوم توافر عنصر آخر حاسم، وهو الوعي الطبقي، فمن غير هذا الوعي سيظل من الممكن تغيير النظام الاجتماعي تغييرا جذريا. وهذا التحليل يتفق تماما مع الشعار الذي رفعه ماركس معتبرا أن الفلسفة الحقة هي التي ينبغي أن تهدف إلى تغيير العالم وليس إلى فهمه أو تفسيره. لقد أنجبت المدرسة الماركسية عددا لا يحصى من النقاد والمفكرين عبر العالم، وستبقى في تاريخ الفكر الإنساني تجربة في غاية الأهمية رغم فشل تنبؤاتها. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]