لم تمر سوى أيام على المناظرة الوطنية الثالثة للجبايات، التي نُظمت بالرباط يومي 3 و4 ماي، حتى بدأت ردود الفعل من طرف الفاعلين تتناسل؛ فمن مشكك (النقابات)، إلى رافض لمواقف بعض مسؤولي وزارة المالية مع التهديد باللجوء إلى القضاء (النقابة الوطنية للمصحات الخاصة)، إلى من ساهم في هذه المناظرة وينتظر تفعيل توصياتها، خصوصاً الاتحاد العام لمقاولات المغرب. حول هذا الموضوع، يتحدث إلينا حميد النهري، أستاذ المالية العامة رئيس شعبة القانون العام بكلية الحقوق بطنجة، ويحلل تباين المواقف حول هذه المناظرة وخلاصاتها، ويستقرئ ما إذا كنت ستشكل توصياتها خارطة طريق حقيقية لإصلاح النظام الضريبي الوطني بهدف توسيع الوعاء الجبائي وتخفيف العبء على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. في نظركم، هل عكست توصيات المناظرة الوطنية للجبايات شعار "العدالة الجبائية"؟ من خلال قراءة التوصيات يتبين طابعها المخادع إن صح التعبير، بحيث تتضمن بعض المتمنيات العامة المتعلقة بمبدأ العدالة الجبائية التي فقط ستكون وظيفتها تغطية التوصيات الخاصة بجماعات الضغط المستفيدة من النظام الجبائي دوماً، وبالتالي ستبقى توصيات العدالة الجبائية كمثيلاتها سابقا حبراً على ورق. كما أن الإشكال الكبير فيما يخص هذه التوصيات هو صعوبة، إن لم نقل استحالة، التفعيل. فإذا رجعنا إلى التجارب السابقة نجد أن مطلب العدالة جاء ضمن تقديم قانون الإطار لسنة 1984 وتضمنته توصيات المناظرة الأولى 1999 والمناظرة الثانية 2013، وحالياً نُعيد السيناريو نفسه من خلال مناظرة 2019. بل أكثر من ذلك، هذه التوصيات جاءت هذه المرة كنتيجة لمناظرة شهدت سيطرة المسؤولين عن "لا عدالة النظام الضريبي" على أشغالها. لذلك لا يمكن انتظار اهتمام كبير بالعدالة الجبائية. صرح وزير الاقتصاد والمالية بأن قانون إطار سيتم تحضيره خلال وقت قريب سيتضمن تفعيلًا لهذه التوصيات؟ ربما، لكن هذا القانون حتماً لن يتم تضمينه العدالة الجبائية، بل فقط سيُعيد السياسة نفسها وسيعطي الأولوية لتشجيع الرأسمال الخاص على المردودية التنافسية والنجاعة. ولنا في تجربة توصيات مناظرة 2013 حين وعدت السلطة آنذاك بتفعيل التوصيات منذ 2014، وفعلاً تم تفعيل التوصيات الخاصة بالرأسمال من خلال قوانين المالية من 2014 إلى 2019، وتم تهميش كل التوصيات الخاصة بالعدالة. أهم ما سُجِّل على المناظرة الثالثة هو تغييب مجموعة من الفاعلين، خصوصاً الجامعيين، من المشاركة في أشغالها هذه المسألة ليست جديدة، بل اعتدنا عليها وهذه المرة ليس هناك فقط تهميش للجامعيين الذين لهم دراية بالموضوع وسبق لهم أن نشروا دراسات وأبحاث حول الضرائب، بل حتى منظمات المجتمع المدني التي ما فتئت تقدم عدة تقارير وتوصيات حول السياسة الجبائية في المغرب، وهذا في الحقيقة خطأ كبير. ومن خلال لائحة المشاركين لاحظنا سيطرة كبيرة لاتحاد مقاولات المغرب على مُجريات المناظرة، وهو يعتبر اللوبي الأكثر تأثيراً على القرار الجبائي في المغرب، وبالنسبة إليه، فالإصلاح يعني فقط تخفيض الضرائب عنه. وإلى جانب هذا اللوبي، نجد مشاركة الإدارة رفقة بعض السياسيين المحسوبين عليها وكبار المدراء، إذن هؤلاء المشاركون هم في الحقيقة المسؤولون الرئيسيون على ما وصل إليه النظام الجبائي المغربي، فكيف يمكن لهم أن يناقشوا ضرورة إصلاح النظام الضريبي؟ يرى البعض أن المناظرة لم تأت في وقت مناسب لأن البلاد ما زالت في بحث مستمر عن نموذج تنموي بديل، وبالتالي كان من الأنسب تأجيلها إلى ما بعد تحديد معالم واختيارات هذا النموذج، ما رأيكم؟ اتفق مع هذا الرأي، لأن السياسة الجبائية هي أحد العوامل المساعدة لتحقيق أهداف البرنامج التنموي المختار، وبالتالي كغيرها من السياسات الأخرى (النقدية، الميزانية، القرض …) يجب أن تأتي داخل توجهات ملاءمة لتفعيل أي نموذج تنموي. والوضع هنا أننا ما زلنا في بحث عن هذا النموذج التنموي البديل الذي من المنتظر أن يُجيب على أغلب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المغرب. لكن ما أود الاشارة اليه هو أنني أعتقد أن هذا الوضع هو إرادي من أجل الاستجابة لمطالب جماعات الضغط (اللوبيات)، حيث يتبين لي من هذا الوضع أنه إذا كان النموذج التنموي قد استنفد جميع خياراته، فإن النظام الجبائي المغربي أيضاً وصل منذ مدة إلى الباب المسدود ونتائجه محدودة جداً، سواء مالياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولذلك فإن مطلب الإصلاح أصبح ضرورة ويجب أن تحدث عدة تغييرات. وهكذا سيتم الإسراع بتحضير قانون إطار سيتضمن حتماً مجموعة من الامتيازات الجبائية لصالح اللوبيات، وبالتالي تصبح هذه الامتيازات دائمة، أو بمعنى تصبح أمراً واقعاً لا يمكن مناقشته والتراجع عنه. وحتى إذا ما تمت محاولة فرض إصلاحات حقيقية سنكون أمام صعوبة تفعيلها. الأمر نفسه حدث إبان تبني قانون سنة 1984، خصوصاً بالنسبة للضريبة على الدخل التي لم تدخل حيز التنفيذ إلا في سنة 1990. وسبب هذا التأخير هو منح الفرصة لخروج القطاع الفلاحي من وعاء الضريبة المقترحة في القانون الإطار، وذلك بموجب إعفاء 1984، ثم خروج القطاع العقاري بموجب قانون الاستثمارات العقارية 1985، ثم الأنظمة الخاصة التي تم سنها للقطاعين المالي والمهن الحرة، وعندما بقيت دخول الأجور والمرتبات حاضرة بقوة لوحدها كوعاء ضريبي، تم إدخال قانون الضريبة على الدخل حيز التنفيذ، لذلك تسمى اليوم الضريبة على الدخل ضريبة الأجور والمرتبات. وحدث الشيء نفسه أيضا مع القطاع الفلاحي مرة أخرى، حيث تعددت النقاشات حول الإعفاء الذي كان يستفيد منه منذ سنة 1984 حتى 2014. ويتبين من خلال مضامين القانون الضريبي الذي يهم القطاع الفلاحي، والذي دخل حيز التنفيذ سنة 2014، أنه أخذ بمعيار رقم المعاملات عوض معيار الدخول أو الأرباح، وبالتالي تم تحديد رقم معاملات 35 مليون درهم وسينخفض هذا الرقم سنوياً كي يصل إلى 5 ملايين درهم في 2020، وإذا تفحصنا جيداً الوعاء الضريبي للقطاع الفلاحي اليوم نجد أن هذا القانون استثنى 99,9 في المئة من الاستغلاليات الفلاحية، وبذلك أصبح إعفاء القطاع الفلاحي من الضريبة بموجب قانون 2014 دائماً بعد ما كان مؤقتا، بل أكثر من ذلك خرج من دائرة النقاش وأصبح أمراً واقعاً وحقاً مكتسباً. إذن هي سياسة تعتمد أسلوب التأثير المسبق من طرف اللوبيات من أجل حماية مصالحها وإفراغ أي إصلاح مرتقب من محتواه. ما رأيكم في رد فعل الجمعية الوطنية لمصحات القطاع الخاص التي هددت باللجوء إلى القضاء ضد الكاتب العام لوزارة المالية الذي أعطى أرقاما ومعطيات صادمة عن خروقات المصحات الخاصة في المجال الضريبي؟ في الحقيقة أنا لم أفاجأ بهذا التصرف نظراً للمستوى المحدود للوعي الجبائي في المغرب. فالجميع يعلم أن أقل من 2 في المائة من الشركات تؤدي حوالي 90 في المائة من العائدات الضريبية للضريبة على الشركات، وأن حوالي 70 في المائة من الشركات تصرح بالعجز، وأن أكثر من 80 في المائة من العائدات الضريبية بالنسبة للضريبة على الدخل تأتي من دخول الأجور والمرتبات. إذن لا داعي لأن نغطي الشمس بالغربال، فالأرقام حقيقة صادمة. ويجب أن نوضح هنا معطى حقيقيا هو أن الضريبة دائماً وعلى مر التاريخ تعتبر محور الصراع في المجتمعات والقانون هو الذي يحدد معالمها. والدستور المغربي كغيره ينص في فصله 39: "على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها"، بمعنى الواجب الضريبي ضروري وبموجب الدستور، ووزارة المالية هي المكلفة بتفعيل مقتضيات الدستور، والقانون يمنحها كافة السلطات. في المقابل، يُمنح الملزمون، أشخاصا ذاتيين أو معنويين، وهنا المصحات الخاصة، كافة الحقوق، وعلى رأسها حق الطعن واللجوء إلى القضاء، والأمور واضحة بخصوص حقوق وواجبات المكلفين من جهة، وحقوق وواجبات الإدارة الضريبية من جهة أخرى، والكتاب الأول "المساطر الجبائية" من مدونة الضرائب يوضح ذلك بكل تفصيل. لكن القطاع الخاص في بلادنا للأسف يتجاهل ذلك، فهو معروف بتعامله بمفهوم غريب لليبرالية، فعندما تُطلب منه الضرائب يستعمل مبادئ الليبرالية وضرورة تشجيع الاستثمار، وعندما يتعرض لأزمة يلجأ إلى الدولة طلباً للمساعدة. لذلك تبقى مسألة مطالبة هؤلاء بالمساهمة الضريبية غير مقبولة. فلا أحد تخفى عليه الممارسات التي تعرفها المصحات الخاصة ومستوى التهرب الضريبي فيها حتى أصبحت هذه الممارسات أمراً واقعاً وحقاً مكتسباً، فيما القانون يعتبر غير مقبول من طرفها، بل ويتم تبرير هذه الممارسات بأنها مساهمة إلى جانب الدولة في قطاع اجتماعي هو الصحة. وهذه المسألة ليست جديدة، فقد سبق لمؤسسات التعليم الخاص أن صرحت بذلك، والشيء نفسه بالنسبة للقطاع العقاري، عندما عملت الإدارة الضريبية على اعتماد رقابة جبائية على أرباحهما. إذن هي مسألة تتداخل فيها محدودية الوعي الجبائي وتأثير اللوبيات على القرار الجبائي، بل أكثر من ذلك يجب أن نناقش مستوى حس المواطنة لدى الملزمين. هل يمكن لهذه التوصيات أن تشكل أرضية لإصلاح ضريبي حقيقي في شكل قانون إطار كما صرح بذلك المسؤولون؟ من خلال ما ذكرناه سابقاً، يمكن الإجابة بالنفي والقول إن توصيات المناظرة الثالثة للجبايات لا يمكن أن تشكل أرضية حقيقية لإنجاز إصلاح جبائي، لكن يجب أن نعترف ببعض الحقائق: أولاً: إن أصعب إصلاح يمكن أن تقوم به حكومة ما هو الإصلاح الجبائي، فقليلة هي الدول التي أنجزت إصلاحاً جبائياً حقيقياً ذا مردودية مالية، فعالا اقتصادياً، وعادلا اجتماعياً. ثانياً: إن الحكومات المتعاقبة في المغرب ما فتئت تقترح بعض الإصلاحات على صعيد الجباية، لكن هذه الإصلاحات تبقى نظرية وغير قابلة للتنفيذ. ثالثاً: صُعوبة إنجاز إصلاح جبائي في المغرب، لأن هامش استقلالية المُشرع في المجال الجبائي يعد ضيقا جداً، فالقرار الجبائي يتأثر بالتأثيرات الداخلية، أي اللوبيات من جهة، والتأثيرات الخارجية المتمثلة في المؤسسات المالية الدولية من جهة أخرى، وحتى عندما تكون بعض المحاولات الحقيقية يتم إفراغها من محتواها. لكن مع ذلك، يجب أن نبقى متفائلين لأنه ما زال بإمكان الدولة أن تستغل هامش الاستقلالية المتوفر عن هذه التأثيرات وتسعى إلى إنجاز إصلاح جبائي حقيقي. ماذا تقصدون بإصلاح حقيقي؟ سيكون من العبث القول إن بإمكان أي كان تحديد وصفة نظام جبائي ذي مردودية، عادل اجتماعيًا وفعال اقتصادياً. لكن يمكن إبداء بعض الملاحظات الضرورية لأي إصلاح ضريبي في المغرب: - إصلاح يقطع مع الممارسات السابقة ويتخذ مقاربة جديدة، شعاره إعادة النظر في علاقة الدولة بالمجتمع في المجال الضريبي. - اعتماد مبدأ البحث عن الأموال حيث توجد، وليس السهلة فقط، وجعل مساهمة الملزمين عادلة. - ضرورة توسيع الوعاء الجبائي ليشمل تضريب الثروة والإرث. - إعادة النظر في ضريبة القطاع الفلاحي والقطاع العقاري. - عقلنة سياسة الامتيازات الجبائية باعتماد مبدأ الضروري والضروري جداً عند أي سياسة للتنازل عن العائدات الضريبية. - تطوير إطار النفقات الجبائية من الإحصاء إلى تقييم النتائج والتكلفة ورسم سياسة جبائية معقلنة. - اعتماد برامج حقيقية مرقمة، عملية وقابلة للتنفيذ كإطار لأي إصلاح جبائي. - ضرورة وجود حكومة قوية سياسياً ومؤسساتيًا لفرض هاته الإصلاحات والدفاع عنها.