"الطبيعة المتغيرة للعمل".. قراءة في تقرير البنك الدولي تمهيد تحت عنوان "الطبيعة المتغيرة للعمل"، أصدر البنك الدولي تقريره عن التنمية في العالم 2019، أبرز فيه أثر التقدم التكنولوجي في إعادة تشكيل طبيعة العمل. هذا التقرير الذي تأسس على خلاصات تركيبية لعدد من التقارير أنجزها خبراء البنك، وخلاصات نقاشات وندوات أشرف عليها البنك في عدد من الدول، يستعرض بشكل ذكي التحديات التي تواجه جيل المستقبل، والتي ينبغي على الحكومات الشروع في معالجتها للتصدي لتأثيراتها. بسط التقرير هذه التحديات في فصوله السبعة، التي حاول فيها الإجابة على الأسئلة المقلقة التي تنصب حول تغير طبيعة العمل، وتأثير التكنولوجية الآلية والرقمنة على الشغل، وكيفية الاستثمار الناجع في الموارد البشرية، وطريقة تأهيل جيل الغد، وضرورة إعادة النظر في أنظمة الحماية، ومصادر التمويل لتغطية تكلفة العمليات. الطبيعة المتغيرة للعمل تتجلى فكرة تغير طبيعة العمل بوضوح في ظاهرتين: تراجع المهارات التقليدية في مواجهة التكنولوجيا التي تحل محلها، وما يترتب عن ذلك من زيادة الطلب على المهارات الإنسانية المتقدمة غير التقليدية. تغير جذري يهم أنماط المؤسسات والشركات وتوطينها، طبيعة خدماتها، طرق اشتغالها، وارتباطها بالشبكات التواصلية. فالتقدم التكنولوجي أحدث تغييرا في طبيعة العمل، الأمر الذي يفرض تحديا على خطط ومؤسسات التكوين، ويستدعي العمل على تغيير طرق إعداد الناس لوظائف المستقبل، للتغلب على التحديات التي تواجهها المجتمعات بفعل التطور المتسارع للتكنولوجيا، والاتساع القوي للأسواق واكتساحها شبكات التواصل. والأدهى أن طبيعة العمل تتغير بسرعة هائلة، لا تستطيع المجتمعات والأنظمة والمؤسسات التقليدية مجاراتها. فنحن لا نعرف ما هي الوظائف التي سيتنافس عليها غدا تلاميذ اليوم، لأن العديد من هذه الوظائف غير موجودة حتى الآن، ولكنها ستظهر حتما في المستقبل القريب. لهذا فالتحدي الكبير هو تسليحهم بكفايات حياتية مثل المبادرة بإيجاد الحلول، والحس النقدي، وهي كفايات سيحتاجون إليها مهما كانت طبيعة مهن المستقبل. كيف سيكون مستقبل العمل؟ أهم ما يميز التطور التكنولوجي في المستقبل هو ازدياد اعتماد سلسلة الإنتاج الصناعي على الروبوتات التي أصبحت تحل محل الوظائف البشرية في جميع دول العالم، ما يعده كثير من المهتمين تهديدا واضحا لفرص الشغل. لكن خبراء البنك الدولي يهونون من الأمر، لأن التطور التكنولوجي الذي ننظر إليه كمنافس قوي لليد العاملة، يساعد على خلق فرص عمل جديدة، وتوسيع آفاق العمل، وتقريب الخدمات ونمو الأسواق، في كل القطاعات، فالتكنولوجيا تتولد عنها باستمرار مهام جديدة. وخير دليل على ذلك النمو المتسارع الذي تشهده الشركات الرقمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي سائر دول العالم. فمستقبل العمل ستطبعه التكنولوجيا، وسيتطلب تعلما مدى الحياة، لاكتساب متجدد للقدرات الفائقة للتأقلم مع مستجداتها بسرعة تغيرها المستمر لتلبية الطلب المتزايد على: مهارات معرفية نوعية ومتقدمة، ومهارات سلوكية اجتماعية، ومهارات مرتبطة بزيادة القدرة على التكيف. وحسب البنك الدولي، فإن المنطقة العربية، كسائر مناطق العالم، تواجه تحديا هاما يتمثل في ضرورة خلق ملايين مناصب عمل مدى الثلاثين سنة المقبلة، لتلبية احتياجات الأعداد الكبيرة من مواطنيها من الشباب. وتوفير وظائف غير تقليدية في ظل الطور التكنولوجي المتواصل. المنصات الرقمية: فرص جديدة يرى التقرير أن التكنولوجيا تتيح فرصا لخلق وظائف جديدة وزيادة الإنتاجية وتقديم خدمات عامة فعالة، فالشركات التي وظفت التقدم التكنولوجي والتحول الرقمي أفلحت في تحقيق نمو كبير بفضل توسيع حدودها، وتطوير أنماط إنتاجها التقليدية. فتحول الشركات التقليدية إلى منصات رقمية أتاح لها توسيع حدودها واكتساب مزيد من العملاء، من خارج مجالها الجغرافي، بل وبسرعة فائقة أكثر من أي وقت مضى. فالاقتصاد الرقمي من خلال شركات المنصات يتيح خلق الوظائف الجديدة المطلوبة، وزيادة الطلب على الموظفين من خلال العمل الجماعي ومهارات التواصل وحل المشكلات، ويضمن الاستفادة من القدرات المادية والبشرية غير المستغلة، وتحويل رأس المال المعطل إلى رأس مال نشط. ويستعرض التقرير أمثلة لمنصات رقمية أنشئت في دول عربية كالأردن ومصر، ومن إفريقيا أيضا مثل كينيا ونيجيريا، ضمنت فرص عمل للعديد من ذوي المهارات، وأسهمت في تحسين ظروف حياة الكثيرين، وقدمت خدمات ثمينة للمؤسسات والأفراد، وحققت انتشارا هاما ونجاحا ماليا ونموا متواصلا. ووفقا للتقرير أيضا، فإن "البرامج التي تعد الشركات الصغيرة لتبني تقنيات جديدة وتلقي استثمارات خارجية هي أداة أخرى للتنمية". التعليم الجيد إن الاستثمار في رأس المال البشري هو الشرط الضروري لاستفادة الأجيال من الفرص الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة للارتقاء بمستوى العيش وجني المكاسب المالية. ولضمان نجاعة التعليم، يجب أن يكون مبكرا، ودائما، وجيدا، وقادرا على إيصال المتعلم إلى البيئات الاقتصادية والاجتماعية المكملة والاستعانة الذكية بالتكنولوجيا. فالتعليم المطلوب يجب أن يبدأ في الطفولة المبكرة ويحقق تنمية المهارات الإدراكية المعرفية والمهارات الاجتماعية والسلوكية عالية المستوى. فرأس المال البشري سيكتسي في المستقبل قيمة كبرى، لأن وظائف المستقبل غير تقليدية تتطلب مهارات معقدة، وقدرات في التفكير النقدي، والتعاون والعمل الشبكي المتواصل. ما يحتم على المؤسسات التعليمية والتدريبية القائمة اليوم أن تغير مناهجها وخططها وطرق عملها، فالمستقبل يعد بتحولات كبرى وجذرية، لكنها حتما تحمل أيضا وعودا جديدة بالرفاه وتحسين الحياة، يجب التخطيط لإتاحة الفرصة للأجيال القادمة للاستفادة منها. المؤشر الجديد عرض التقرير العناصر الجديدة المكونة لمؤشره حول الرأسمال البشري، العناصر تقيس المردود الإنتاجي المستقبلي لطفل ولد في 2018، على ضوء ما يتهدده من مخاطر تدني الظروف الصحية والتعليمية في بلده حيث يدرس احتمال "البقاء على قيد الحياة، هل سيبقى الأطفال الذين يولدون اليوم على قيد الحياة حتى سن دخول المدرسة؟ والمدرسة، كم سيكملون من مراحل التعليم وما مقدار ما سيتعلمونه؟ والصحة، هل سينهون دراستهم وهم بصحة جيدة ومستعدون لمواصلة التعلُّم و/أو العمل؟" ويبين التقرير أثر هذه المؤشرات في الإنتاجية المستقبلية للأفراد، لافتا إليها النظر لحث الحكومات على استهداف مكامن الخصاص والثغرات، وسن سياسات ناجعة لتأهيل العنصر البشري، حتى يكون أكثر إنتاجية في المستقبل. فالمعارف والمهارات والقدرات الصحية التي تتراكم لدى الأشخاص طيلة حياتهم تؤدي إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي والحد من الفقر، في حين إن كل تهاون في توفير هذه الشروط يؤدي حتما إلى تردي المردود، وتراجع الدخل، وما يترتب عنه من فقر وتهديد للاستقرار. الحماية الاجتماعية من التحديات التي تطرحها الطبيعة المتغيرة للعمل أن أنماط العمل الجديدة قد ترتب ضمن القطاع غير الرسمي وغير المهيكل، والعاملين فيه حاليا لا يخضعون في كثير من البلدان لأنظمة الحماية الاجتماعية، في غياب تعاقد رسمي، كالقطاع التقليدي المهيكل الذي يحدد المهام وساعات العمل، ما يعرض المشتغلين فيه إلى الحرمان من التمتع بأجور مستقرة ورفاه اجتماعي. ويتطلب التكيف مع الطبيعة المتغيرة للعمل حماية اجتماعية معززة للعاملين لحمايتهم، بغض النظر عن حالة العمل وطبيعته. إن القطاع غير الرسمي يشغل نسبة كبيرة من اليد العاملة، تتراوح في البلاد العربية ما بين 40 و70%، وهم محرومون من أي حماية اجتماعية أو قانونية، فالعمل لحساب الذات، وهي سمة الاقتصاد الذي لا يقوم على التوظيف، لا يندرج ضمن برامج التأمينات الاجتماعية التقليدية السائدة في المنطقة. ويقترح التقرير تحديث أنظمة الحماية الاجتماعية ويعرض حزمة من البرامج التي توفرها؛ بعض البرامج غير تقليدية ولا تقوم على الاشتراكات الدورية، وأخرى تقوم على أنظمة الادخار التقاعدي المرن التي تناسب فئات كثيرة من العمال مهما كانت طبيعة عملهم. إن الأمر يقتضي تغيير جميع الأنظمة التقليدية التي تؤطر العمل اليوم، لأن طبيعة العمل تتغير باستمرار، ومقبلة على تغير جذري، يبعدها عن المؤسسية والعقود والانتظام، لذلك فالدول مدعوة إلى التفكير في أنظمة جديدة ومرنة وشاملة وعادلة لتوفير الحماية الاجتماعية من تقاعد وتأمين صحي، إلا أن التحدي الذي يواجه الحكومات اليوم في ظل تغير طبيعة العمل هو التملص الضريبي، الذي يزداد استفحالا نتيجة التطور التكنولوجي الذي صعب على الحكومات الإحاطة الكافية بالدخول المالية الناشئة عن أعمال غير مسجلة وغير منظمة. إن إصلاح السياسات الضريبية يعد تحديا، أضحى التفكير فيه أمرا حتميا، ليشمل القطاع غير التقليدي، كالشبكات والمنصات وسائر أنشطة الاقتصاد الرقمي، لضمان عدالة النظام الضريبي وتنمية الموارد المالية لتلبية الحاجات المتزايدة للنفقات التي يتطلبها توسيع الشبكات، وتطوير الاقتصاد، وتعميم الحماية الاجتماعية. تعبئة الموارد المالية يقدم التقرير بعض الاقتراحات حول كيفية قيام الحكومات بتعبئة إيرادات إضافية من أجل استثمار أفضل في هذا المجال. يدعو التقرير الحكومات إلى تحسين التنسيق بين استراتيجيات تعبئة الإيرادات المحلية (تحقيق الوفورات العامة والخاصة من الموارد المحلية من أجل الاستثمار المنتج) وميزان المخاطر في الاقتصاد الرقمي. فالإصلاح الضريبي يجب أن يضمن حصول الحكومات على نصيبها من الأرباح الناتجة عن الأنشطة الاقتصادية الرقمية، فالطبيعة المتغيرة للعمل اليوم جعلت كثيرا من الشركات الكبرى متحررة من الوجود المادي، ما فتح أمامها الطريق للتهرب الضريبي. والمنصات الرقمية تدر أرباحا من رأسمال الآخرين، ويمكنها أن تضع أصولها وأرباحها في بلد واحد أو عدة بلدان، أو في بلدان تسهل التهرب الضريبي، ولا تؤدي الضرائب للبلدان التي ينتمي إليها زبناؤها وعملاؤها ومستهلكو خدماتها، ما يحرم الحكومات من الضرائب التي ينبغي أداؤها، لأن مواطنيها هم من يجعلون هذه التعاملات ممكنة، والمنطق الاقتصادي يقتضي أن تحصل الحكومات على حصتها وتدفع لها الضريبة. خاتمة إن البلاد العربية التي تمتد على رقعة واسعة من الأرض، وتضم موارد طبيعية هائلة وموارد بشرية ذات تطلعات واسعة وعزيمة عالية، هذه الأمة بما لديها من تاريخ تتكئ عليه، وثقافة تحفزها، قادرة، إذا أحسنت الاستثمار في مواردها البشرية، بتوفير التعليم الجيد والرعاية الصحية والاجتماعية، على إطلاق عنان إمكانات الشباب، وتحقيق ما لم يتحقق لها من تنمية وتقدم. إن الفرصة للتنمية قائمة دوما، لكنها تتطلب حزما حكوميا، ومشاركة جماهيرية والتزاما فرديا، أما إذا أضفنا إلى ذلك ثقافة تعاونية وتضامنية وتقاليد تكافلية، نابعة من ثقافتنا الأصيلة وهويتنا المتجذرة، فإنها حتما ستكون وقودا قادرا على دفع قاطرة التنمية بقوة حتى تصل غايتها وتحقق أهدافها، وبالله التوفيق.