عندما ضحى عباس لمساعدي بأرضه أطلق سراح إبراهيم التروس من السجن بعد أن حكمت عليه المحكمة العسكرية بالبراءة، وبعد أن أمضي مدة تسعة أشهر في السجن الاحتياطي، وكان معتقلا ضمن أعضاء منظمة "اليد السوداء". وبعد الإفراج عنه، استأنف من جديد نشاطه الفدائي؛ ولكن لما ألقى البوليس الفرنسي القبض على أحد الفدائيين اعترف بعلاقته بإبراهيم التروس، فأعطيت التعليمات باعتقاله، فاتصل المدني "لاعور" بعباس لمساعدي وأخبره بالخطر الذي يهدد إبراهيم التروس، فقال له: سأخفيه في منزلي، ولكن بعد خمسة أيام على وجود إبراهيم التروس في بيت عباس لمساعدي حضر صهره والد زوجته لزيارته. وذات يوم عاد عباس لمساعدي من العمل على غير عادته للغذاء مبكرا، فتناهى إلى سمعه كلام زوجته مع والدها تشكو له من وجود إبراهيم التروس في البيت، وتتخوف من أن يكون قد ارتكب جريمة؛ لأنها سمعت الحوار الذي دار بينهما، وفهمت منه أن البوليس الفرنسي يبحث عنه وزوجها يخفيه في البيت، وهذا يشكل خطرا عليها. ولم تكن زوجة عباس لمساعدي تعلم أن زوجها من زعماء المقاومة، وعندما التقيت به بعد الزوال في العمل، اعترف لي بأنه لم يعد يثق في زوجته وأنه بدأ يفكر في تطليقها، فأردت أن أخفف عنه. وقلت له: "إذا كان وجود إبراهيم التروس في بيتك سيخلق لك المشاكل مع زوجتك فسنجد له مكانا آمنا"؛ ولكن عباس لمساعدي قال لي: "المشكلة ليست في إبراهيم التروس، ولكن المشكلة تكمن في زوجتي التي لم أعد أثق فيها، ولا أريد أن أعيش مع امرأة بدأت تشكل خطرا دائما علي؛ فالمرأة الحقيقية هي التي تشارك زوجها حياته وأحلامه وكفاحه، فنحن نكافح من أجل تحرير الوطن، وهذه قضية حياة أو موت"، فنصحته أن يتريث ويلعن الشيطان، ولكنه صمم على تطليقها وتسريحها بمعروف ودون مشاكل. وقال لي: "أنا أملك قطعة أرض مساحتها 500 متر هي كل رأس مالي، وكنت عازما على بيعها وتخصيص ثمنها لدعم المقاومة والظاهر أنني سأضحي بها من أجل أن أواصل نضالي"، ثم علمت منه بعد ذلك أنه ذهب بزوجته إلى أهلها في مدينة فاس بعد سفر والدها، وكتب لها تلك القطعة في اسمها، ووضع نسخة من المصحف الشريف أمام والدها وطلب منه أن يضع يده ويد ابنته عليه ويحلفا بكتاب الله أنهما لن يقوما بالوشاية به.. وبالفعل، قبلت العرض وقام بعدها بتطليق زوجته وضحى بأرضه من أجل أن يواصل كفاحه، وعاد إلى مدينة الدارالبيضاء في حالة نفسية مطمئنة، والقصة رواها لي عباس لمساعدي، وأنا لا أعرف زوجته ولا صهره. التعرف بالخمار بعد أن تحمل عباس لمساعدي مسؤولية القيادة والتسيير، شرع في ربط علاقات التنسيق والاتصال مع الخلايا والجماعات والمنظمات المستقلة. وفي مستهل سنة 1955، تعرف بواسطة محمد السموني على خلا أولعيد العطاوي من مدينة بني ملال وعلى سلاك الطاهر الملقب الخنيفري، فأخبروه بأنهم على اتصال بأشخاص مستعدين للمشاركة في تأسيس جيش للتحرير بالأطلس المتوسط، وبحكم اتصال عباس لمساعدي بالإخوان في المنطقة الشمالية طرح عليهم الفكرة للنقاش، وكانت في ذلك الوقت قد بدأت تتبلور في الأذهان فكرة اللجوء إلي جبال الريف والأطلس کإستراتيجية حربية في مقاومة الاستعمار. وفي بداية شهر مارس 1955، توصل عباس لمساعدي برسالة من مدينة تطوان، تحثه على ضرورة السفر إلى مدينة فاس للقاء شخص يلقب ب"الخمار" مبعوثا من طرف مكتب المغرب العربي بالقاهرة، من أجل المساهمة في تأسيس جيش التحرير، والإشراف على تدريب رجاله، ونوهت تلك الرسالة بكفاءة الخمار على أساس أنه من معارف البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأنه درس في القاهرة وتخرج من الكلية الحربية، وواصل تكوينه العسكري في العراق. قبل أن يسافر عباس لمساعدي، طلب مني أن ألتحق به في مدينة فاس، وحددنا موعدا لذلك بالقرب من سينما "بوجلود". في الموعد المحدد وجدته في انتظاري رفقة زوجته الجديدة "غيثه"، فتوجهنا إلى "أجنان السبيل"؛ لأنه كان على موعد هناك مع بعض الأشخاص. وبعد أن أنهى كلامه معهم، طلب مني أن أرافقه للتعرف على شخص وصل إلى المغرب مبعوثا من القاهرة. في الطريق قال لي عباس لمساعدي: "في حالة إذا ما طرأ لي أي طارئ، أو أية أحداث ترغمني على اللجوء إلى المنطقة الشمالية أريد منك أن تتكفل بالاتصال به. وصلنا إلى منزل أصهار الخمار، حيث استقر منذ تمت خطبته لابنتهم. في هذا اللقاء، اكتفى عباس لمساعدي بالتعرف على الخمار فقط، ولم يفاتحه في أي موضوع آخر، واعتذر له لأنه له ارتباطات أخرى بمدينة الدارالبيضاء، بعدما حدد معه موعدا ثانيا للقائه. الأزمة الثانية للمنظمة السرية بعد رجوعنا من مدينة فاس حدث ما كان يتوقعه عباس لمساعدي من مفاجآت، فقد تعرضت "المنظمة السرية" لضربة قاسية، على إثر اعتقال البوليس الفرنسي للفقيه محمد بوراس الفكيكي، الذي باح باسم: عباس لمساعدي، وبوشعيب الحريري، وسعيد المانوزي، والمدني "لاعور". بمجرد ما توصل إبراهيم الروداني الذي رجع من منفاه، بهذا الخبر من كواليس الشرطة بواسطة الشرطي "كبور العبدي" الذي سربه إلي الهاشمي المتوكل صاحب معمل لهياكل السيارات، والذي كان يشرف على الاتصال ببعض العناصر المغربية التي كانت منضوية تحت لواء المقاومة، والتي كانت تعمل في قسم المخابرات ب"كومسيرية المعارف"، وكذلك بعناصر أخرى من جنسيات مختلفة جرى تجنيدها حبا في المال. اتصل بي إبراهيم الروداني، وأمرني بأن أبحث عن عباس لمساعدي والمدني لاعور لتحذيرهما من المجيء إلى المعمل لأنه مراقب، فذهبت إلى منزل عباس لمساعدي فلم أجد أحدا، فتوجهت إلى محطة الوقود الموجودة في ملتقى شارع السويس وطريق مديونة، وتسمى حاليا إفريقيا وتركت له وصية عند أحد العمال بالمحطة يلقب ب"البزيوي". وعند رجوعي إلى المعمل، صادفت في الطريق المدني "لاعور" قرب المدرسة المحمدية بزنقة "الموناستير". وقبل أن أخبره بما حدث، قال: عرفت كل شيء ولن أذهب إلى المعمل، وعليك أن توفر لي مكانا آمنا أختفي فيه، ثم توجهنا إلى القيسارية واشتريت له جلبابا وعمامة وذهبت به إلى منزل صهري عبد المالك فارح في "كريان کرلوطي" لإخفائه فيه، وبعد ذلك رجعت لمحطة للوقود فأخبرني البزيوي بأن عباس لمساعدي اتصل به وطلب منه إن حضرت عنده من جديد أن يخبرني بأن ألتقي به في منزله حالا، ذهبت إلى منزله فوجدته في انتظاري، وقال لي: سأترك الدارالبيضاء الآن ونلتقي غدا في مدينة فاس أمام سينما "بوجلود" في حدود الساعة الواحدة زوالا. رجعت عند المدني "لاعور"، وأخبرته أنني مسافر غدا إلى مدينة فاس للقاء عباس لمساعدي، فطلب مني أن ألتقي به بعد رجوعي مباشرة من مدينة فاس. سافرت إلى مدينة فاس، فوجدت عباس لمساعدي بانتظاري صحبة زوجته "غيثة" أمام سينما "بوجلود"، فذهبنا إلى "جنان السبيل" وجلسنا لوحدنا، فزودني ببعض التعليمات وأطلعني على كل علاقاته ومواعيده وأمرني بأن أتصل بمولاي أحمد الصقلي، لأتسلم منه قيمة المساعدة التي وعده بها، وكذلك الاتصال بمحمد العمراني الذي عنده أخبار هذه الاتصالات، وأن أتصل بعبد الرحمان العمراني، الذي أسس شركة للصابون بمدينة فضالة "المحمدية حاليا " والذي اتفق معه على تخصيص جزء من أرباح الشركة لدعم المقاومة، وأن أتصل بشخص يعمل في متجر قرب "الباب الكبير"، وأتصل كذلك بشخص بشارع "مولاي يوسف" وبسعيد المانوزي فله اتصال بأحدهم، وقال لي: كان من المفروض أن ألتقي بالخمار لأقدمه له أحمد الدخيسي وميمون أوعقا، يوم 30 مارس، ولكن ربما تضطرني الظروف التي طرأت لغير ذلك، لهذا فكن على استعداد للقيام بهذه المهمة بدلا مني. بعد هذه الجلسة، ذهبنا للقاء الخمار الذي أرسله رجال مكتب تحرير المغرب العربي بهدف تأسيس جيش التحرير في منزل أصهاره. وبعد أن شربنا القهوة وتحدثنا حول السبل الكفيلة بإنجاح عمليات جيش التحرير، ثم قال له عباس لمساعدي: "في حال غيابي سيتكفل هذا الشخص بالتنسيق معك لربط الاتصال بالإخوان القادمين من الأطلس". ودعنا الخمار وفي الطريق قال لي عباس لمساعدي: "لي موعدا يوم 30 مارس 1955 في "لالة شافية" بحامة "مولاي يعقوب" مع شخصين مكلفين بالإشراف على تأسيس فرقة لجيش التحرير، في "مرموشة" بناحية مدينة صفرو لربط الاتصال بينهم وبين الخمار، وأطلعني على جميع اتصالاته بالخمار، وعن الكيفية التي سأتعرف بها على هذين الشخصين، وأضاف قائلا: لهذا أريد منك أن تحضر يوم 29 مارس 1955 لمدينة فاس وتنتظر في محطة القطار، فستأتي إليك زوجتي "غيثه" على الساعة الواحدة زوالا لتحضرك عندي، وإذا لم تحضر، فاعلم أنني توجهت إلى المنطقة الشمالية، فقم أنت بالمهمة واذهب للقاء الخمار لإتمام ما اتفقنا عليه وهذه هي الخطة، في الغد يوم 30 مارس ستكون مهمتك هي السفر رفقة الخمار إلى حامة "مولاي يعقوب"، للقاء الشخصين القادمين من "مرموشة" وربط الاتصال بينهما وبين الخمار، واتركه ينسق معهما بهدف تنفيذ خطة تأسيس جيش التحرير في منطقة الأطلس المتوسط. بعد رجوعي من مدينة فاس زرت المدني "لاعور" في منزل صهري، فوجدته قد قرر اللجوء إلى المنطقة الشمالية بعد أن افتضح أمره، فطلب مني أن أتوجه في الغد إلى مدينة فاس للقاء الشخص الذي سيتكفل بتهريبه إليها، وقال لي: "عندما تصل إلى مدينة فاس توجه إلى "كراج الغزاوي" في الساعة الثالثة زوالا، ستجد شخصا يحمل "ربطة من النعناع" وعلى رأسه "طاقية" مخططة بالأبيض والأسود هذه هي العلامة، وسيعرفك على الخطة وعلى موعد اللقاء به. في الصباح ذهبت لمدينة فاس، وفي الموعد وقفت أمام "كراج الغزاوي " إلى أن وصلت الساعة الخامسة، فلم يحضر الشخص المطلوب، فرجعت إلى مدينة الدارالبيضاء وأخبرت المدني "لاعور" بما حدث فقال: "ماكين باس"، إنني وجدت شخصا آخر سأسافر معه إلى مدينة مكناس، ومن هناك سيتولى أمر تهريبي إلى المنطقة الشمالية، وزاد قائلا: "والآن بعد أن اختفى أغلب المسؤولين والتحقوا بالمنطقة الشمالية بقيتم أنتم، وسيتصل بكم بعض الأشخاص من طرف محمد إيفقيرن فتعاونوا معهم و"تحزموا" وكونوا رجالا". *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]