بعد حوالي 60 سنة على الوفاة الغامضة لعباس المساعدي، تحكي أرملته السيدة غيثة علوش، على «كرسي الاعتراف»، تفاصيل لقائها، وهي مراهقة فاسية متعلمة، في السادسة عشر من عمرها، برجل شق لنفسه طريق الكفاح بالسلاح. في «كرسي الاعتراف»، تحكي السيدة غيثة كيف أنها بعد شهر من الاقتران بالمساعدي تحولت حياتها إلى متاهة مليئة بالأسرار والألغاز، فأصبحت تتقمص شخصية غير شخصيتها وتقطع القفار والأنهار لاجتياز الحدود بين المنطقة «الفرنسية» والمنطقة «الإسبانية»، وكيف اعتقلت في إسطبل. على «كرسي الاعتراف» تُقِر السيدة غيثة علوش بأنها عاشت رفقة عباس المساعدي في الريف، داخل منزل مليء بأنواع الأسلحة والمتفجرات. وتعترف بالطريقة التي كان زوجها يتخلص بها من الخونة، وتتذكر خلافات المساعدي مع المهدي بنبركة وعلال الفاسي، وعلاقته القوية بالأمير الخطابي ومحمد الخامس. في «كرسي الاعتراف»، تحكي السيدة غيثة كيف جاء الحسن الثاني يطرق بابها، بعد اختطاف زوجها واغتياله، ليقول لها: «ما غادي نزوّل هاد القميجة من على ظهري حتى نلقا خويا عباس»، وكيف حاول لاحقا تزويجها من مسؤول داخل القصر. وتنفي أن يكون أحرضان مقاوما، وأن الخطيب كان يبالغ ولا يقول الحقيقة كاملة. عندما بعث لك زوجك عباس لمساعدي رسالة يطلب منك مقابلة شاب بمواصفات معينة في مكان محدد، ومرافقته إلى غاية منزل المسمى الخمار بفاس. ما الذي سيحدث؟ رافقت ذلك الشاب إلى غاية منزل الخمار. عندما دخلت المنزل، وجدت السي عباس هناك، وكانت بالبيت حماة الخمار. زوجي قدّم لي الخمار على أنه مقاوم، وأنه يساعد رجال المقاومة المسلحة بتمكينهم من الاختباء في بيته. حدثني السي عباس عن كل ما حدث أثناء غيابه عني. أمضيت ليلتين في ذلك المنزل، كان الخمار يخرج ويعود، فيما يظل السي عباس مرابضا بالبيت لأنه كان مطلوبا من طرف البوليس الفرنسي الذي نشر صوره في الجرائد معتبرا إياه إرهابيا خطيرا. بعد الليلتين، استأذنت السي عباس بالعودة إلى بيت والديّ حتى أطمئنهما وأطلع والدي على ما حدث، فقد كنت أستشير والدي في كل الأمور، وكانت كلمته دائما على صواب، فكنت أعمل بما نتفق عليه. لم يعترض السي عباس، وكذلك كان. بعد ليلة جلبت معي بعض الأكل و»القراشل وسلّو». مكثت رفقة السي عباس في بيت الخمار ليلتين أخريين، وعندما كنت أهم بمغادرة بيت الخمار إلى بيتنا، التقيت حماة هذا الأخير جالسة في باحة المنزل تقشّرُ الخضر، فنظرت إلي وسألتني أين نقطن، فدللتها على عنوان بيتنا ثم انصرفت. في اليوم الموالي، جاءني رسول من السي عباس، سلمني رسالة من زوجي، قرأتها فوجدته يحذرني فيها ويشدد عليّ أن لا أعود مجددا إلى دار الخمار أو أتصل به، لأنه اكتشف بأنه خائن، وأمرني أن ألزم بيت أبي. بعد أربعة أيام جاءت حماة الخمار إلى بيتنا، عندما رأيتها تدخل نزلت وقابلتها في «السطوان»، فسألتني: أين زوجك؟ قلت لها: «شمن راجل؟»، وردّت: زوجك الذي كنت تبيتين معه في بيت الخمار، فأجبتها: «راجلي طلقني ومشى ما نعرف فين». ولما استفسرتها عن سبب سؤالها عن زوجي أخبرتني بأن السي عباس بعث إلى صهرها الخمار رسالة ليلتحق به في الريف، ومذاك لم يعد الخمار إلى البيت، ثم هددتني قائلة: إن لم يعد الخمار فأنتِ من سيؤدي الثمن. أنا أنكرت أن لي علاقة بأي شيء تقوله، وأنكرت حتى أني ذهبت إلى بيتهم، فعلّقَت:»إيلا ما عرفتيش دابا يجيو اللي غيعرّفوك»، ثم انصرفت. - ما الذي فعلته بعدما غادرت حماة الخمار بيت والديك؟ أنا بقيت مرعوبة، لأني وقبل أن أقابلها سمعت أن عناصر البوليس الفرنسي يقتحمون بيوت زوجات المقاومين ويحتجزونهن، ثم يعذبونهن في أقسام الشرطة بالصعقات الكهربائية، إلى أن يعترفن بكل ما يتعلق بأزواجهن.. بقيت أفكر وأخمن في الأمر ولم يرقد لي جفن تلك الليلة. في اليوم الموالي كنت واقفة أراقب الباب من الطابق الأول لمحت امرأة بلباس الجبليات؛ ملتحفة ب»الحايك» ورأسها ملفوف ب»السبنية». كان باب بيتنا مفتوحا كعادته، فدلفت. نزلت فقابلتها في «السطوان». من أنت؟ قُلت، اسمي فاطْمة التغزوتية، أجابت، وأردفت: خبئيني عن الأنظار وسأخبرك بكل شيء. اصطحبتها إلى صالة بالطابق الأول، وبمجرد ما جلست وقالت: إليّ ب «الخُدْمِي» (الموس بلغة أهل الشمال)، جلبته لها ورميته نحوها من باب الصالة، فقد خفت ولم أعلم ما تريد أن تفعل به. خلعت نعلها «الريحية»، وبدأت تقطع بالسكين خياطة النعل الجلدي، ثم أخرجت من بين ثناياه ورقة ومعها صورة للسي عباس، فتحت الورقة فوجدت أنها رسالة من السي عباس، يطلب مني فيها أن أرافق المرأة الجبلية إلى حيث تقودني لأني مراقبة وفي خطر. كنا في شهر رمضان وقد صادف حينها فصل الصيف، والجو قيظ. ذهبت إلى أمي وأخبرتها بأن عليّ أن أرافق هذه المرأة، ثم أخبرت أبي، وأوصيته في حال إذا تمّ القبض علينا في الطريق واستدعوه في قسم الشرطة أن يقول بأني مجرد فتاة من أسرة جبلية، رباها عندما كانت في عمر الرابعة، وأن والدي الحقيقي قد توفي، والمرأة التي أستصحبها هي أمي البيولوجية، جاءت لتأخذني إلى الجبل كي أقابل إخوتي وعائلتي وأتعرف إليهم. - لماذا فعلت ذلك؟ حتى لا يتورط والدي في المشاكل، كنت أريد أن أنكر الصلة التي بيننا حتى لا يحاسبوه على شيء. وقد اتفقنا على هذا بالفعل. في نفس اليوم بعد أن أفطرنا وتسحرنا، توجهنا أنا والتغزوتية إلى سوق زريزر، وأنا أرتدي ملابس جبلية جلبتها لي حتى لا يشك أحد بأمري، وفي الكيس الذي جلبت به الملابس الجبلية وضعنا أكلا وبعض المؤونة، وبعض «الطعارج». - لماذا «الطعارج»؟ للتمويه، حتى إذا ما أوقفنا البوليس الفرنسي نخبرهم بأننا ذاهبون إلى القرية للاحتفال. من باب بوجلود في فاس ركبنا حافلة أوصلتنا إلى سوق زريزر، الواقع ما بين الحدود الاستعمارية الفرنسية الإسبانية، غير بعيد عن جبل الطاهريين، وهناك قابلنا أقارب للتغزوتية، يأتون للتسوق وبيع بضائعهم ثم يقفلون عائدين إلى مدشرهم قاطعين الحدود الفرنسية الإسبانية مستعملين جوازات مرور»laisser-passer». سأل بعضهم التغزوتية أين كانت، كما سألوها من أكون، فأخبرتهم بأنني ابنة لها كانت قد تركتها لدى عائلة فاسية، وها هي اليوم تسترجعها بعد طول مدة. حاجَجَها بعضهم بأنهم لا يعرفون لها غير ابن وحيد، وانصرفوا مبتعدين عنها.