من مصادفات القدر أن محمدا الناصري، الذي سيعرف فيما بعد باسم عباس لمساعدي، مسقط رأسه "الزاوية الناصرية بمنطقة تامكروت بالجنوب؛ نزح والده إلى منطقة مولاي بوعزة واستقر بها وتزوج منها ورزق بولد سماه محمد وبنت، أي أن أم عباس تنحدر من هناك.. ترعرع الابن محمد بهذه المنطقة، ولنجابته وذكائه حفظ القرآن الكريم منذ صغره، واشتغل ككاتب لقائد تلك المنطقة الذي كان يعزه ويحترمه كثيرا لحفظة القرآن الكريم صغيرا، ولمكانة والديه لديه زوجه ابنته. وبسبب شكوكه في تصرفاتها قتلها، وسلم نفسه واعترف بما اقترفت يداه. وبسبب شهادة صهره أب زوجته في المحكمة على صحة أقواله وخيانة ابنته له. راعت المحكمة ظروفه، وحكمت عليه بخمس سنوات سجنا نافذة فقط. رحل من سجن مدينة مكناس إلى سجن العاذر، لقب في السجن بالفقيه وكلف بالأذان وإمامة السجناء في الصلوات الخمس. ولحسن سلوكه ولحصوله على الشهادة الابتدائية في اللغة الفرنسية، أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات. بعد خروجه من السجن في أواخر سنة 1950، وجد في انتظاره أحد أصدقائه الذي تعرف عليه بواسطة ابن تاشفين الميلودي، فرحل معه إلي مدينة الدارالبيضاء، فوفر له السكن وعرفه بإبراهيم الروداني الذي شغله عنده في معمله.. واستقر عباس لمساعدي بمدينة الدارالبيضاء، وانخرط في حزب الاستقلال، واستطاع بفضل ثقافته وثوريته ومثابرته على العمل الوطني أن يصبح من أبرز مسيري الحزب، وتم اعتقاله في نهاية سنة 1952 بسبب نشاطه السياسي. خرج من السجن مباشرة بعد استشهاد محمد الزرقطوني، والتحق بعمله الذي كان يشتغل فيه قبل اعتقاله منصب مدير.. التقيت به أنا والمدني "الأعور" لأول مرة، فتذكرت وصية الشهيد محمد الزرقطوني في حقه، وكنت مشتاقا لرؤيته والتعرف عليه. عباس لمساعدي يلتحق بقيادة المقاومة بدأنا أنا والمدني "لاعور" نجلس مع محمد الناصري أو عباس لمساعدي في مكتبه لمناقشة مشاكل العمل، بحكم أنه مدير المعمل والمسؤول عن تسييره في غياب إبراهيم الروداني، فانسجمنا معه بسرعة.. ورويدا رويدا، بدأت مناقشتنا تنتقل إلى المواضيع السياسية والوسائل الكفيلة بمحاربة المستعمر الفرنسي، وبدأنا نتأخر في مكتبه بعد انتهاء العمل ليلا وانصراف العمال، وبدأت أكتشف ثوريته واشتياقه لممارسة العمل الفدائي، لأنه كان يهيئ نفسه لهذا قبل إلقاء القبض عليه، وعدم ارتياحه لعمله ويريد أن يتصل بالمقاومة.. لم أخبره بحقيقة علاقتي بمحمد الزرقطوني أو شهادته في حقه، لأنني كنت أنتظر فقط الظرف المناسب، بعدما علمت بأنه تربطه صداقة قوية بمحمد بالحسين الطالعي. وتفيد بعض المصادر بأن حسن "الأعرج" اتصل بالمدني "لاعور" وحذره من عباس لمساعدي، بكونه إنسانا سبق اعتقاله، ومراقبا من طرف البوليس الفرنسي، وأنه عصبي المزاج، وغير مؤتمن، ونصحه بالابتعاد عنه؛ تأثر المدني "لاعور" بهذا الكلام، فأصبح يتجنب لقاء عباس المساعدي. أما بالنسبة لي فقد كانت شهادة محمد الزرقطوني عندي أقوى من كل الشكوك، وتوطدت علاقتي بعباس لمساعدي، فوضعت فيه ثقتي. بعد أن سافر حسن "الأعرج" في 18 شتنبر 1954 إلى المنطقة الشمالية، انضم الفقيه محمد البصري إلى الجماعة الثالثة التي كانت تشرف على تسيير وتوجيه المنظمة السرية. وفي بداية شهر أكتوبر 1954، ألقى البوليس الفرنسي القبض علي الفقيه محمد البصري وعبد السلام الجبلي وامبارك الورداني والحسين الصغير ولد الخضار والمرضي الهبطي، بعد أن داهمهم البوليس في دار امبارك الورداني بدرب اليهودي، والسبب في افتضاح أمرهم هو أن البوليس الفرنسي ضبط في الحدود أحد المقاومين قادما من المنطقة الشمالية يحمل بعض الأسلحة فأرشدهم إليهم، وفي الغد ذهبوا بالفقيه البصري إلى "سوق القريعة" ليدلهم على عبد الرحمان الصحراوي، الذي كان يزاول مهنة بيع الملابس المستعملة لاعتقاله، وبعد أن دلهم عليه اعتقلوه، وانطلقوا في أزقة درب القريعة قاصدين منزل أحد المقاومين لإلقاء القبض عليه، وعند توقفهم أمام باب منزله ونزولهم قفز عبد الرحمان الصحراوي من سيارة الشرطة، وفر هاربا وهو مكبل اليدين بالأصفاد، وبقي الفقيه محمد البصري جالسا في مكانه مذهولا. قصد عبد الرحمان الصحراوي مسجد فقيه يعرفه، فطلب منه أن يبحث له على من يهربه إلى المنطقة الشمالية، لأنه بعد الذي حدث لم يبق له أمان في الذهاب إلى منزله أو الاتصال برفقائه. ومن حسن الحظ أنه بعد مرور يومين اتصل الفقيه بعباس لمساعدي ملتمسا مساعدته، وأخبره بوجود عبد الرحمان الصحراوي في منزله، ويبحث له عن من يهربه إلى المنطقة الشمالية أو إلى سيدي إفني. بمجرد ما علم عباس لمساعدي بالخبر، اتصل بأخ إبراهيم الروداني، وسأله عن محل سكني فأجابه أنه لا يعرفه، وقال له: "ولكن يجوز أن يكون مساعده يعرف منزله"، فطلب منه عباس لمساعدي أن يذهب معه ليدله على بيت المساعد، وفعلا التقيا به ولكنه أكد لهما أنه لا يعرف منزلي، وقال لهما: "لم يحدث يوما أن رافقته إلى باب داره، فدائما ينزل قرب معمل الكارتون فيدخل بين الدروب ويختفي، ولكنني في أحد الأيام تأخر عني، فذهبت أبحث عنه حتى وصلت إلى "العوينة " هناك وجدته يحمل قفة في سوق درب الشرفاء". قال له عباس لمساعدي: "خذني إلى ذلك السوق". ولما وصلا إلى المكان ودعه، وبقي عباس لمساعدي يسأل وحده عني حتى وصل إلى محل نجار، فأخبره صاحبه بأنني أسكن في الشقة التي فوقه. فوجئت بعباس لمساعدي يدق باب منزلي في وقت وجبة الغذاء، وكان اليوم يوم الجمعة ومعي محمد بولحية نتناول الكسكس، فتحت الباب استضفته ولكنه اعتذر، وطلب مني أن أرافقه في الحال لأنه في حاجة إلي.. خرجنا معا وتوجهنا إلى شارع "مودي بوكيتا" وكان ما زال طريقا زراعيا لم تشيد عليه المباني بعد، فقال لي: "هرب أحد الفدائيين من البوليس الفرنسي من درب القريعة وقصد صديقا لي، فاتصل بي من أجل تهريبه إلى المنطقة الشمالية". فقلت له: "ألا تخاف أن يشي بك صديقك للبوليس الفرنسي؟ ويشيع عنك بأنك فدائيا وسيعرضك هذا للاعتقال من جديد"، فأجابني: "لقد احتطت للأمر، وقلت له أنني سأبحث عن صديق لي يعرف أحد مروجي "الكيف" أي القنب الهندي لتهريبه"، فقلت له: "سأساعدك على ذلك، وسأبحث عن الشخص الذي سيقوم بهذه المهمة؟". وبعد افتراقنا، قصدت المدني "لاعور" وطلبت منه أن نتعاون مع عباس لمساعدي لتمكين عبد الرحمان الصحراوي بالالتحاق بالمنطقة الشمالية، ولكن المدني "لاعور" لم يكن متحمسا لطلبي، فقلت له: "هذا واجب علينا وفاء لوصية المرحوم محمد الزرقطوني، الذي نصحنا بالتشبث بعباس لمساعدي والالتفاف حوله لأنه رجل وطني وله تجربة كبيرة، ويستحق أن يكون مسؤولا عن تسيير المنظمة السرية، ونحن مطوقين بتنفيذ وصية الشهيد محمد الزرقطوني". وهنا باغتني بكلام غريب، فقال لي: "لن أتعامل مع عباس لمساعدي، فقد حذرني أحد الإخوان منه قبل التحاقه بالمنطقة الشمالية، بعد خروجه مباشرة من السجن وأوصاني بأن أتجنب لقاءه لأنه لا يثق فيه". وأبدى اعتراضه على مساعدة عبد الرحمان الصحراوي بدعوى أنه معروف عند البوليس الفرنسي ويجري البحث عنه، فأبديت دهشتي، وسألته لماذا؟ وقلت له "سنعمل معا على مساعدة عباس لمساعدي، فقال لي: "أنا لن أتعامل معه لأنه افتضح أمره کسجين وكمسير حزبي، ثم هو رجل عصبي". ولم أتركه يكمل كلامه وقاطعته موضحا: "إنك تصدق كلام الشائعات والغيرة والحسد"، وزدت قائلا: "أنا أعرف من قال لك هذا الكلام وحذرك منه على الرغم من أنني لم أكن حاضرا معكما". فسألني: "ومن يكن؟". أجبته: "أنا أعرف أنه يحقد على عباس لمساعدي ويكرهه إنه حسن "الأعرج". استغرب المدني لهذه الحقيقة، ولأبرهن له على صدق كلامي ذكرت له شهادة الشهيد محمد الزرقطوني في حق عباس لمساعدي عندما أوصانا بالاعتماد عليه والالتفاف حوله، ليوجهنا ويتحمل مسؤولية تسيير المقاومة، فكيف تصدق كلام "حسن الأعرج " على الرغم من أنه كان حاضرا معنا، وتكذب كلام الشهيد محمد الزرقطوني، فإن كنت تشكك في وطنية عباس لمساعدي، فأنت في الحقيقة تشك في إخلاص ووطنية الشهيد محمد الزرقطوني، وتشك كذلك في وطنيتي وإخلاصي أنا أيضا، ومن هذه اللحظة أقترح إما أن نكمل الطريق معا رفقة عباس لمساعدي، أو كل واحد منا يختار الطريق الذي سيسلكه، فاقتنع المدني "لاعور" بكلامي وتغير حكمه على عباس لمساعدي. تألمت يومها كثيرا من الكلام الذي سمعته من المدني لاعور، في حق عباس لمساعدي وتخوفت عليه من مؤامرات "حسن الأعرج" ومن سوء الظن الذي قد يتعرض له، ومن التجريح الذي قد يشوه سمعته. وساعدنا عبد الرحمان الصحراوي على الالتحاق بالمنطقة الشمالية، ولكنه في الطريق إليها رفقة دليله طاردهم البوليس الفرنسي فابتلع قرصا مسموما واستشهد. وفي المساء، اجتمعنا ببعض الإخوان في جماعة التسيير والتوجيه، وطرحنا عليهم فكرة انضمام عباس لمساعدي إلى الجماعة. وبعد العديد من المناقشات والاستفسارات والتمحيص، وافقوا على ذلك. ومما سهل مهمتنا أن أغلبية الإخوان الحاضرين كانوا يعرفون محمد الناصري أو عباس لمساعدي، أو يسمعون به كأحد أبرز المسيرين لخلايا حزب الاستقلال ويعرفون تضحياته. في الغد، توجهت أنا والمدني "لاعور" عند عباس لمساعدي في معمل "لافاسك" وأخبرته بشهادة المرحوم محمد الزرقطوني في حقه، وبإعجابه الشديد بقوة عزيمته وحنكته وصموده وشجاعته ووطنيته. وقلت له: "إن الإخوان كلهم في حاجة إليك وإلى تجربتك لتحمل معنا مشعل القيادة، فهل أنت على استعداد لتحمل المسؤولية ومواصلة الكفاح؟". فلما أبدى موافقته وأدى اليمين على نسخة من المصحف الشريف، وبدأنا بعد ذلك نحدد له مواعيد فردية للاجتماع بأعضاء جماعة التسيير والتوجيه، وأصبح اسمه الحركي هو "اليمني". استعرضنا معه الحالة التي توجد عليها خلايا المقاومة وطريقة تسيريها، والكيفية التي نحصل بها على ميزانية تمويل شؤون المقاومين ومساعدتهم، فقال: "إن الطرق التي تتوصلون بها إلى التمويل غير كافية ولا بد من تطويرها؛ لأن أية حركة تحررية في العالم، إن لم تعتمد على ميزانية قارة، لا يمكن لها أن تستمر وتبقى في الوجود"، فاتفقنا معه على أن يقوم بما لديه من تجربة وخبرة بدراسة الموضوع واقتراح أنجع السبل لتطويره. فقال: "سأتصل ببعض الرفقاء الذين كانوا معي في السجن، وبالأخص محمد العمراني صاحب كراج العمراني، لأنه له اتصال وثيق بكبار التجار المغاربة، لدعوتهم إلى مساعدة حركة المقاومة. والحقيقة أنني اكتشفت بعد ذلك أن الشهيد محمدا الزرقطوني كان يتمتع بفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله، كما جاء في الحديث الشريف، فقد صدقت رؤية محمد الزرقطوني، وتجلت لنا شخصية عباس لمسعدي بقوة شخصيته وحنكته وذكاءه وشجاعته وبعد نظره وصبره على المحن. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]