نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/11 - التيارات الإرادية ومفهوم القانون الإرادية هي نظرية تعتبر الحكم عملا فكريا يتم تحقيقه بتدخل إرادي حسب ديكارت، وأما نيتش فيعرفها بالمذهب الذي يقر هيمنة الفعل على الفكر، والإرادية مشتقة من الإرادة بمعناها الرامي إلى القدرة التقريرية على القيام بالفعل تنفيذا أو إحجاما، وبديهيا أنها شغلت الفكر الفلسفي منذ عهود قديمة، وكل المدارس الفلسفية ساهمت بشكل أو بآخر في توسيع دائرة التساؤلات وتعميق مجالات التأويل بصدد هذه المسألة بالذات، ونتناولها هنا في علاقتها بالقانون ومفاهيمه ومدى انعكاس تلك العلاقة على إشكالية حقوق الإنسان. جذور الإرادية الحقوقية هناك شبه إجماع لدى المختصين بأن المبادئ الأولى للتيارات الإرادية في مجال الحقوق كانت واردة عند الاسميين، وخاصة منهم دان سكوت وأوكام، اللذين بتأكيدهما على مبدأ استقلال الإرادة عن العقل مهدا السبيل لظهور النظرية الإرادية. وفعلا كان أوكام يميز بين القواعد السلوكية العامة المطلقة التي يمليها المذهب الطبيعي، والقواعد العقلانية الاجتماعية، والقواعد القانونية الوضعية. ومن هنا حدث ارتباط تلقائي بين التيارات الوضعية والتيارات الإرادية. وهكذا بالنسبة للإرادية فإن الظاهرة القانونية تنبثق من تصرفات إرادة الحكام، وقيمة القوانين منوطة بإرادة من يضعها على حد تعبير سواريز. وبالمفهوم الوضعي يعني ذلك أن القانون موضوع وفقا لإرادة محدودة في الزمان والمكان، وصادرة إما عن حاكم بمفرده وإما بإجماع آراء الذين شاركوا في الصياغة الفعلية للقانون. وقد جاء في كتاب "قانون الحرب والسلم" للفقيه الهولندي كروسيوس، الصادر عام 1625، أن القانون هو القدرة على الفعل والامتلاك الناتجة عن سلطة الإنسان على نفسه -ويقصد بها الحرية- وعن سلطته على غيره من الناس وكذلك عن سلطته على الأشياء. وكان هذا الطرح بمثابة ثورة فكرية على مستوى المعالجة التقنية للظاهرة القانونية بالمقارنة مع الأطروحات الفلسفية للقرون الوسطى. ومن ثم فإن الإشكالية القانونية لم تعد مجرد ظاهرة أنطولوجية، وإنما أصبحت وسيلة يوظفها الإنسان العاقل في تنظيم المجتمع ويستعملها للسيطرة على الطبيعة وفقا لحاجياته، مع التأكيد على أن هذا الإنسان ليس عاقلا فقط بل يتمتع بكامل حريته. وانسجاما مع الفكر الجديد لم يعد القانون مظهرا من مظاهر المعقول لذاته كما دأبت على ذلك النظريات القديمة، بل أصبح نتاجا لإرادة الإنسان. وترتب عن ذلك مبدأ حرية التوافق الإرادي وظهور قاعدة عامة تحت صياغة "العقد شريعة المتعاقدين" التي تم اعتمادها كأساس للعلاقات القانونية والاجتماعية على الصعيدين الوطني والدولي. هذا ولم ينكر كروسيوس وجود القانون الطبيعي لكنه أضفى عليه صبغة علمانية التي لا تتنافى مع المشيئة الإلهية. وكان واضحا من هذا المنحى الرامي إلى علمنة القانون الطبيعي أنه سيؤدي حتما إلى الفصل بين القانون واللاهوت، تماما كما أدت الماكيافلية إلى فصل السياسة عن الأخلاق. ويستفاد من هذا التحول أن جوهر العلاقات القانونية أصبح يتشكل من حرية وإرادة الإنسان، وأن مفهوم القانون لم يعد مرادفا لمفهوم المعقول في علاقته بالواقع، وإنما هو حصيلة لأفعال إرادة الإنسان الحرة. بمعنى أن الاتجاه الذي كان سائدا منذ قرون في الفكر القانوني الغربي، والقاضي بالبحث عن "العدل الطبيعي"، فقد جدواه حتى وإن لم يتم نفيه نفيا نظريا قاطعا. الإرادوية والاستبداد وهكذا فالقوانين البشرية التي كانت تعتبر مجرد وسائل لتنفيذ القوانين الإلهية أصبح ينظر إليها على أساس كونها مرحلة من مراحل تطور الفكر القانوني الغربي لا غير. هذا مع الإشارة إلى أن الأرسطية والطومية كانتا تقران بأن القانون الوضعي لا يستمد سلطته إلا من الإرادة البشرية ولكن بخلفية عودة أمور الموجودات بصفة عامة في آخر المطاف إلى الله. وأما تأكيد هوبز، المؤسس للتيار الإرادي الحديث، على أن هناك اتساقا للقانون الوضعي مع القانون الطبيعي فقد جاء بهدف التشديد على أن القانون في نظره لا يصبح قانونا إلا بموجب أمر من السلطات. ولم تكن وجهة نظر بنتهام التي تضمنها مؤلفه "في القوانين بوجه عام" لتختلف عن هذا المنظور، لكون بنتهام يعتبر القانون أمرا مؤيدا بسلطة الدولة. وأما أوستين، المعروف بدراساته التحليلية للقانون الإنجليزي، فإنه عزز نفس المنهاج. وكان تعريفه للقانون كالتالي: "قاعدة وضعت لحكم كائن عاقل بواسطة كائن عاقل يملك سلطة الحكم". والقانون الطبيعي يعني في منظور هوبز احترام العقود والمحافظة على الحياة، وهو قانون لا يأمر بالشيء وإنما يشير إلى ملاحظة الأمر بالشيء، وشتان بينه وبين القانون الوضعي المعبر عن إرادة الدولة القوية. وفي هذا الباب يبقى مبدأ القانون الروماني المعروف" إن ما يرضى الحاكم يتمتع بحكم القانون" محتفظا بمغزاه الوضعي الواضح. وبناء على ما تقدم فإن التيار الإرادي يعطي التعريف لمفهوم القانون بالنظر إلى وظيفته التقريرية الآمرة وليس بالنظر إلى التقييم الأخلاقي لمحتوى الأوامر التي بتراكمها تتشكل الترسانة القانونية. وبعبارة وجيزة يمكن القول بأن القانون هو الأمر المقرر وأن السلطة تسهر على وضع القوانين لا العدالة، مما لا يدع مجالا للشك بأن هناك التباسا حقيقيا بين المذهب الإرادي و المذهب الاستبدادي، حتى وإن كان هوبز ينفي الارتباط بينهما ، فعندما يقول: " إن القانون بصورة عامة، ليس سوى إرادة سلطة عليا تفرض بموجبها على الخاضعين لها وجوب التصرف وفقا لما تمليه عليهم"، لا شك أن فكرة الاستبداد قد خطرت بباله، سيما و أن فرض العقوبات عن طريق الإكراه تعد من السمات البارزة للتيار الإرادي، والقانون في هذا السياق هو مجموعة من القواعد المنظمة بشكل مفروض بالقوة من طرف سلطة خارجية عليا ، خلافا للأخلاق النابعة من سلطة معنوية ذاتية على سبيل المقارنة. وهذا معناه أن استعمال القوة يبقى من المميزات الأساسية لتدخل الدولة في سعيها لتطبيق القانون بالاستناد إلى محض إرادتها، وهي في ذلك قد تجنح لا محالة إلى الخروقات والتجاوزات والإفراط في استعمال القوة بحجة تنفيذ القانون. وعليه فإن مفهوم القانون سرعان ما ينقلب إلى مجرد تعبير عن إرادة الدولة، وبالتالي يعم الاستبداد. وعندما يقول هيجل بأن الدولة لا تتفوق على القانون وإنما تعبر عنه، فإن ذلك لا يعارض في جوهره النزعة الاستبدادية والميول الشططية من حيث لا ينفى بتاتا أنه سيظل تعبيرا إراديا للسلطة الحاكمة المعلومة بالضرورة. لكن هذا الاتجاه استبعده الإرادويون تحت تأثير أطروحة العقد الاجتماعي لجون جاك روسو، والقائمة على تفسير للقانون باعتباره تعبيرا للإرادة العامة بمفهومها الديمقراطي الحديث، ولا يسعنا إلا أن نتوقف بإمعان عند مقولة يرينج، الفقيه الألماني البارز، حين أعلن: إن القانون هو ثمرة القتال، وإن القاعدة القانونية هي سياسة القوة... والواضح من تجربة الإدراك الإنساني عبر العصور هو أن المفاهيم مطاطية وقابلة لكل الاحتمالات، وينسحب ذلك بشكل خطير ومصيري على المفاهيم القانونية زمانيا ومكانيا عند هذا المجتمع أو ذاك. ومن الواضح كذلك أن قانون القوة وقوة القانون سيظلان إلى الأبد وجهين لعملة واحدة مهما اختلفت المقاربات... *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]