إن أهم إرباك أحدثته ثورات الربيع العربي في محيطها أنها أسقطت منطق التفاوض المؤسسي، وخرجت إلى الشارع لتطالب على الهواء مباشرة بإعادة بناء مفردات الاجتماع السياسي كليا، وجعلت المدخل الشرطي إلى ذلك إسقاط رأس النظام السياسي، ولخصت كل مطالبها في كلمة بسيطة وجامعة، وهي "ارحل". إن الثورة تبني موقفها على الرفض المطلق لأي منطق تفاوضي يحل وسيطا بين الشارع وصانع القرار السياسي. إنها تعلن أن سقف المصالحة انهار كليا ليحل محله مطلب التغيير الجذري، وأنها في لحظة لا حل فيها إلا بين اختيارين: رحيل رأس النظام السياسي وأزلامه، أو تغيير الشعب بتقتيله كما قال وفعل جنرالات الجيش الجزائري بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية في تسعينات القرن الماضي. إن الفعل الثوري لا يمكن أن يكتمل إلا بركيزتين متلاحمتين: مطالب شعبية واسطة عقدها مطلب شرطي، وضغط شعبي هائل ومباشر. إن المطلب الثوري المرفوع في الحراك الشعبي لا يكون كذلك إلا أن يتحقق بشروط رباعية على الأقل: 1. شرط الوضوح غير القابل للتأويل، 2. شرط التحديد وعدم القابلية للتجريد، 3. شرط العمومية وعدم اقتصاره على فئات شعبية معينة، 4. شرط إمكان التحقق السريع وعدم استلزامه إجراءات طويلة ومعقدة. إن الوضوح المتحقق للمطالب المرفوعة ينغي أن يرفدها ويسندها حراك شعبي هادر، يؤكد في شعاراته المتواصلة والموحدة، أن مطالبه: أ. غير قابلة للتأجيل ب. غير قابلة للتجزيء ج. غير قابلة للتفاوض إن هذا المنطق كان واضحا في التجارب الثورية التونسية، والمصرية، والليبية، فماذا عن المغرب؟ إن التجربة المغربية عرفت مجموعة من التمايزات، حيث أن أرضية مطالب حركة 20 فبراير تميزت بإدراجها: شعارات متعددة دون أن تجعل إحداها مدخلا شرطيا، شعارات تتحقق فيها شروط المطلب الرباعية الآنفة الذكر وأخرى تغيب عنها. إن ذلك يبين بوضوح أن الحراك المغربي الفبرايري تميز بأفق إصلاحي، وليتحول الحراك إلى لحظة ثورية كان ينبغي أن يكون الدافع إليه طرفان: القوى السياسية الداعمة له وهو ما تجنبته في خطاباتها الرسمية، أو النظام السياسي من خلال تصعيد تعامله القمعي تجاه التظاهرات الشعبية، وهو ما تجنبه صناع القرار بدهاء شديد. إن استمرارية هذا النفس الإصلاحي العميق هو ما طبع مسار حركة 20 فبراير، وبالأخص بعد الخطاب الملكي في 9 مارس. إنه ينبغي أن نلاحظ أن الحركة عبر امتدادها الوطني تبنت الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري؛ وبعده الانتخابات التشريعية ل25 نونبر، ولم تتبَنَّ إن الحركة تبنت الدعوة إلى إسقاط الاستفتاء أو الانتخابات، والفارق بينهما هو الفارق بين الاحتجاج السياسي وصناعة الثورة. لو تبنت الحركة شعار إسقاط الاستفتاء فإن ذلك كان سيعني أنها تجعل من "المجلس التأسيسي للدستور" مدخلا شرطيا لكل مطالبها، وعندها ستكون مجبرة على الدخول في معركة كسر عظم مباشرة مع النظام السياسي، ولكنها اختارت المقاطعة لن نقف في هذا المقال على الأسباب الظاهرة والخفية لهذا الاختيار ليقوم أسلوبها على إقامة معسكرين متباينين في لحظات معينة، والغريب أنه قام توافق غير مكتوب ترك فيه النظام السياسي للحركة أن تحسب جماهيرها في أعراسها النضالية، على أن تترك الحركة النظامَ السياسي يحتسب أصوات شعبه الوفي في أعراسه الاقتراعية. لقد مرت حركة 20 فبراير بلحظة مفصلية في تاريخها بعد خطاب 9 مارس المفاجئ، والذي خلط الكثير من الأوراق. لقد كان أمامها أن تختار بين أن تعد نفسها ضمن حراك الربيع الثوري فتصر على المجلس التأسيسي، وترفع من منسوب الاحتجاج، وتغير من أنماط الأشكال النضالية؛ وتستعد للمواجهات القمعية، وتجعل الدماء والأشلاء وقود الحراك، أو تتبنى منطق الاستثناء المغربي، فتبحث عن نوع من التوافق مع النظام السياسي بشكل مضمر فتمارس الاحتجاج السياسي، وتجعل الشارع آلية ضغط وإصلاح عميق؛ لا أسلوب ثورة وتغيير جذري. بعد اختيار الحركة الطوعي التنازل عن مطلبها الشرطي الجامع في مواجهة خطاب 9 مارس، انتقلت إلى البحث عن شعارات تعبوية على المستوى الوطني تتوجه من خلالها بالأساس إلى المواطن عوض النظام السياسي، وتجسدت هذه الشعارات خاصة في الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري لفاتح يوليوز، ثم الدعوة بعدها إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية ل 25 نونبر. بعد اكتمال ترسيم المشهد السياسي الرسمي دستوريا ومؤسساتيا، تعيش الحركة مأزقا ثانيا يتمثل في كونها لم تعد تعاني من غياب المطالب الواضحة بشروطها الرباعية التي افتتحنا بها هذا المقال فقط؛ ولكنها أصبحت تعاني أيضا من غياب الشعار التعبوي على المستوى الوطني. هل يمكن أن تجدد الحركة دماءها؟ وهل تعترف أنها منخرطة في فعل احتجاج سياسي؟ وهل تبحث عن آليات جديدة لتصريف مواقفها؟ هذه من الأسئلة الملحة على حركة 20 فبراير اليوم، والتي ينبغي التوقف معها من أجل انطلاقة أخرى لفعل نضالي مجتمعي مشترك هادف. [email protected]