تتعرض إيران لضغوط أمريكيّة غير مسبوقة في المرحلة الحالية، حيث توازت العقوبات المتتالية التي تفرضها الولاياتالمتحدةالأمريكية مع الحشد العسكري للأخيرة، بعد إرسال حاملة الطائرات "أبراهام لنكولن" وسفينة "يو إس إس أرلينغتون"، فضلًا عن قاذفات من طراز "بي 52" وصواريخ "باتريوت" إلى المنطقة. ورغم ذلك، فإن طهران ما زالت تكابر وتقلّص من احتمال اندلاع حرب بينها وبين واشنطن في الفترة القادمة، حيث اعتبرت أن واشنطن "لن تجرؤ على مهاجمتها"، وهددت باستهداف قواعدها القريبة من حدودها، ورفضت الاستجابة لدعوة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" للاتصال به. وفي الواقع، فإن ذلك يعود إلى اعتبارات عديدة تتصل برؤية طهران للمسارات المحتملة للتصعيد الحالي مع واشنطن، والخيارات المتاحة أمام الأخيرة. أسباب مختلفة: يمكن تفسير إصرار إيران على استبعاد خيار الحرب، على الأقل في الوقت الحالي، مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في ضوء أسباب عديدة يتمثل أبرزها في: 1- الأولوية للاقتصاد: ما زالت طهران ترى أن إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تراهن في الأساس على العقوبات التي تفرضها على إيران، والتي إن كانت قد أنتجت معطيات جديدة على الأرض بالفعل على نحو بدا جليًّا في تراجع الصادرات النفطية وانهيار العملة الوطنية وارتفاع معدل التضخم؛ إلا أن نتائجها "الكاملة" لم تتحقق بعد، حيث تحتاج إلى مزيدٍ من الوقت، خاصة فيما يتعلق بالعمل على الوصول بالصادرات النفطية إلى المستوى صفر، حيث تواجه تلك المساعي صعوبات تتصل بمحاولات إيران الالتفاف عليها عبر ممارسة أنشطة، مثل: تهريب النفط وبيعه عبر شركات وهمية، أو سلوك مسارات بحرية غير معروفة لنقل النفط إلى بعض الأسواق وغيرها. وبعبارة أخرى، فإن إنضاج التأثيرات المنتظرة للعقوبات الأمريكية ما زال في حاجة إلى مزيد من الوقت، على نحو يُضعف من احتمال "التعجل" باستخدام الآلة العسكرية حاليًّا قبل تبلور تلك التداعيات. 2- ضغوط متوازية: تَعتبر طهران أن الحشد العسكري المتزايد الذي تُجريه الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة يدخل في إطار الحرب النفسية التي تحاول الأخيرة شنها ضد إيران، بهدف ممارسة ضغوط أقوى عليها، ووضعها أمام خيارات محدودة تدفعها في النهاية للاستجابة للمطالب الأمريكية الخاصة بإجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق يستوعب مجمل التحفظات التي تُبديها واشنطن حول الاتفاق النووي الحالي الذي انسحبت منه في 8 مايو 2018 بالتوازي مع إعادة فرضها العقوبات الأمريكية على إيران مجددًا. لكن ذلك لا ينفي أن ثمة اتجاهات في إيران باتت ترى ضرورة التحسب من التوقعات المتفائلة في هذا الشأن، مع تبني خطوات للتهدئة في الوقت نفسه، باعتبار أن تصعيد مستوى التوتر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية قد يفرض عواقب وخيمة، وربما لا يمكن ضبط مساراته المحتملة في مرحلة لاحقة. وقد توازى ذلك، بشكل لافت، مع التحذيرات التي أطلقتها تلك الاتجاهات بشأن غياب البدائل التي يمكن أن تستند إليها إيران في مرحلة ما بعد تنفيذ إجراءاتها التصعيدية المضادة بعد شهرين من الآن، وهي الإجراءات الخاصة برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 3.67%، وإعادة تشغيل مفاعل "آراك" الذي يعمل بالماء الثقيل. ففي رؤية هذه الاتجاهات، فإن إيران لا تمتلك إجابة محددة على سؤال "ماذا بعد؟"، أي ما هي الخيارات التي يمكن أن تستخدمها إيران في اليوم التالي لاتخاذ هذه القرارات، التي ستتحول إلى خطوات إجرائية في حالة ما إذا لم تستجب القوى الدولية لما أعلنته إيران في 8 مايو الجاري، عندما رفضت بيع الفائض من إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% والماء الثقيل في الأسواق الدولية، ومنحت تلك القوى مهلة شهرين لرفع مستوى التعاملات التجارية والمصرفية بينها قبل الإقدام على ذلك. وهنا، فإن هذه الاتجاهات لا تستبعد أن تتحول الحرب النفسية إلى حرب واقعية على الأرض، باعتبار أن اتخاذ إيران لهذه الإجراءات يعني عمليًّا إعادة تنشيط برنامجها النووي مرة أخرى، والاقتراب مجددًا من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية وهو خط أحمر لن تسمح به الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أي من القوى الدولية الأخرى بما فيها روسيا. 3- الاتجاه المناوئ: يرتبط استبعاد طهران لخيار الحرب برؤيتها القائمة على أن هذه الحرب لن تحظى بتأييد، سواء داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية أو خارجها. فعلى المستوى الداخلي الأمريكي، لا يبدو أن المناخ العام، وفقًا لرؤية طهران، يمكن أن يؤيّد هذه الحرب. فضلًا عن أنّ اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة قد يكون متغيرًا له تأثيرٌ في هذا السياق. وعلى المستوى الخارجي، لا تُبدي القوى الدولية الأخرى دعمًا للحرب، باعتبار أنها كانت وما زالت ترى أن الآلية الأنسب للتعامل مع إيران تتمثل في المفاوضات، التي نجحت عبرها في الوصول إلى الاتفاق النووي الذي وضع قيودًا مؤقتة على الأنشطة النووية الإيرانية، ودفع تلك الدول إلى الانخراط في تعاملات تجارية ومصرفية مع إيران، قبل أن يتراجع مستواها بسبب العقوبات الأمريكية. وفي رؤية طهران، فإن الدول الأوروبية ستكون أول من يعارض هذا التوجه، حيث تحاول تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي لتجنبه، وهو ما يعود في الأساس إلى أنها ستكون أول من سيتأثر بالارتدادات المحتملة لتلك الحرب، على غرار ما حدث في الأزمة السورية، عندما تدفقت موجات من اللاجئين والمهاجرين إليها. كما أن روسياوالصين سوف تقفان ضد الحرب، في ظل العلاقات القوية التي تؤسسها الدولتان مع إيران، على نحو قد يوفر لها ظهيرًا دوليًّا في مجلس الأمن يحول دون صدور قرارات لا تتوافق مع مصالحها. لكن إيران هنا تتجاهل دون شك أن السياسة المتشددة التي تتبناها ساهمت في تقليص مساحة الخلافات الأوروبية-الأمريكية تجاهها، وهو ما يبدو أنه سيتواصل في المرحلة القادمة في ضوء الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها في برنامجها النووي. فضلًا عن أنها تتغاضى عن الحدود المحتملة للخلافات التي قد تنشب بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وكل من الصينوروسيا حولها، حيث إن تلك الحدود تبقى مرتبطة في النهاية بحسابات كل دولة ومصالحها مع الطرف الآخر. 4- التكلفة المرتفعة: تدعي إيران أنها تمتلك القدرة على رفع كلفة أي عمل عسكري قد تقوم به الولاياتالمتحدةالأمريكية ضدها، حيث تزعم أن القواعد الأمريكية في المنطقة سوف تكون في مرمى نيرانها، وهو ما أكده قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري "أمير علي حاجي زاده" في الفيديو الذي بثته وكالة أنباء فارس، والذي شبّه تلك القواعد ب"قطعة اللحم بين أسناننا". ويتوازى ذلك بالطبع مع التهديدات التي تواصل بعض الميليشيات الموالية لإيران إطلاقها، مثل "عصائب أهل الحق" التي هددت باستهداف القوات الأمريكية في العراق، وهي التهديدات التي يبدو أنّ لها علاقة بالتحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة التي تهدف في الأساس إلى توجيه رسالة رادعة لإيران بعدم التفكير في مثل هذا الخيار. خيار التفاوض: على الرغم من أن إيران ما زالت مصرّة على رفض دعوات التفاوض التي ما زال الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يوجهها حتى بعد التحركات العسكرية الأخيرة؛ إلا أن ذلك قد يكون قرارًا مرحليًّا، بانتظار نضوج ظروف قد تُعزز من فرصة إجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن. وهنا، فإن إيران سوف تسعى -على ما يبدو- إلى تعزيز موقعها التفاوضي في المرحلة القادمة، عبر استخدام نفوذها في الإقليم، ولا سيما في دول الأزمات، قبل أن توافق بالفعل على قبول هذا الخيار. ويتوازى ذلك مع حرصها -في الوقت نفسه- على تعزيز قدرتها على مواجهة تداعيات العقوبات الأمريكية إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية عسى أن تُسفر في النهاية عن تغيير الإدارة الأمريكية الحالية، بشكل قد يؤدي إلى حدوث تحول كبير في السياسة الأمريكية تجاهها. هذا الموقف بدا جليًّا في التصريحات التي أدلى بها العديد من المسئولين الإيرانيين خلال الفترة الأخيرة، على غرار رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي بمجلس الشورى "حشمت الله فلاحيت بيشه" الذي قال إن "أحدًا لن يتصل به من طهران مهما حاول تمرير هاتفه أو فرض عقوباته". من هنا، يمكن القول إن التصعيد المتبادل سوف يكون عنوانًا رئيسيًّا للتفاعلات التي سوف تجري بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية خلال المرحلة القادمة، حيث يراهن كل طرف على أن متغير الوقت يمكن أن يساعد في تعزيز موقفه، أو تغيير حسابات الطرف الآخر. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة