رئيس الحكومة يشرف على انطلاق جولة أبريل من الحوار الاجتماعي    الرباط: تفاصيل مباحثات عبد اللطيف حموشي مع رئيس الاستعلامات للحرس المدني الإسباني    الأردن تعلن حظر جماعة 'الإخوان المسلمين'    شباب الريف الحسيمي يراهن على جماهيره في مواجهة وداد صفرو    محكمة النقض تنتصر لابن ضحية اغتصاب بالحسيمة وتمنحه حق التعويض من والده    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    بنعلي تطلق طلب اهتمام لإنشاء أول محطة لاستقبال الغاز الطبيعي المسال بالناظور    وزراء الخارجية العرب يرحبون بانتخاب المغرب لرئاسة التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان    بعد حوادث في طنجة ومدن أخرى.. العنف المدرسي يصل إلى البرلمان    الوقاية المدنية تواصل البحث عن تلميذ جرفته المياه في شاطئ العرائش    الابتكار في قطاع المياه في صلب نقاشات الملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    التازي ينظم المناظرة الجهوية للتشجيع الرياضي    السعودية توافق على اتفاقيات تسليم المطلوبين ونقل المحكومين مع المغرب    تعزيز التعاون المغربي الفرنسي، في صلب مباحثات بوريطة ورئيسة جهة «إيل دو فرانس»    وزراء الخارجية العرب يشيدون بالجهود المتواصلة لجلالة الملك في الدفاع عن القدس    بالتعاون مع وزارة الصحة والحماية الاجتماعية.. نقل سيدة إيفوارية من الداخلة إلى مراكش عبر طائرة طبية بعد تدهور حالتها الصحية    في حضرة الوطن... حين يُشوه المعنى باسم القيم    المغرب يجذب مزيدا من الفاعلين الاقتصاديين والمستثمرين الدوليين (صحيفة فرنسية)    الإتحاد الأوروبي يخاطر بإثارة غضب ترامب    وزراء الخارجية العرب يؤكدون على مركزية اتفاق الصخيرات كإطار عام للحل السياسي في ليبيا    بطلة مسلسل "سامحيني" تشكر الجمهور المغربي    الكتاب في يومه العالمي، بين عطر الورق وسرعة البكسل    "التقدم والاشتراكية" ينتقد خوف الأغلبية من لجنة للتقصي حول "دعم الماشية" ويستنكر وصف أخنوش المعارضة ب"الكذب"    إلغاء ضربة جزاء أعلنها الحكم تفجر غضب جمهور فتح الناظور    نادي "الكاك" يعتذر لجمهور القنيطرة    نادي مولودية وجدة يحفز اللاعبين    أوراش: الأزمة المالية الخانقة توقف بطولة كرة السلة بكيفية قسرية    تراجع أسعار الذهب مع انحسار التوترات التجارية    "طنجة المتوسط" يؤكد دعم الصادرات في المعرض الدولي للفلاحة بمكناس    "بي دي إس" تطالب بالتحقيق في شحنة بميناء طنجة المتوسط متجهة إلى إسرائيل    عباس يطالب "حماس" بتسليم السلاح    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    زلزال بقوة 6.2 درجة يضرب إسطنبول    وزارة التعليم العالي تدرس إمكانية صرف منحة الطلبة شهريا    البابا فرنسيس يسجى في رداء أحمر    وفاة الإعلامي الفني صبحي عطري    وزير الداخلية يحسم الجدل بخصوص موعد الانتخابات الجماعية والتقسيم الانتخابي    "مناظرة وُلدت ميتة"… انتقادات موجهة لولاية جهة الشمال من غياب التواصل حول مناظرة التشجيع الرياضي بطنجة    القضاء يستمع إلى متزوجين في برنامج تلفزيوني أسترالي    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    أمريكا تتجه لحظر شامل للملونات الغذائية الاصطناعية بحلول 2026    هذه أغذية مفيدة لحركة الأمعاء في التخلص من الإمساك    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    في الحاجة إلى مغربة دراسات الهجرة..    وكالة التنمية الفلاحية تستعرض فرص الاستثمار الفلاحي خلال ندوة دولية بمعرض مكناس    في جولة أبريل من الحوار الاجتماعي.. الاتحاد العام لمقاولات المغرب يؤكد على تجديد مدونة الشغل والتكوين    توقيع شراكة استراتيجية ومذكرة تفاهم لبحث الفرصة الواعدة في إفريقيا بين فيزا ومجموعة اتصالات المغرب    المنتخب المغربي للتايكواندو يشارك في كأس رئيس الاتحاد الدولي للتايكوندو بأديس أبابا    "الإيقاع المتسارع للتاريخ" يشغل أكاديمية المملكة المغربية في الدورة الخمسين    الغربة بين الواقع والوهم: تأملات فلسفية في رحلة الهجرة    ندوة علمية حول موضوع العرائش والدفاع عن السيادة المغربية عبر التاريخ: نماذج ومحطات    صحيفة ماركا : فينيسيوس قد يتعرض لعقوبة قاسية (إيقاف لمدة عامين    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"والآن أتحدث".. سيرة ذاتية توثق حياة المقاوم الراحل حسن بلمودن
نشر في هسبريس يوم 06 - 05 - 2019


تقديم
طُبعت من هذا الكتاب الذي تنشره هسبريس خلال شهر رمضان المبارك نسخ محدودة لم تتعد 500 نسخة سنة 2008، وُزعت على ثلة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وعلى بعض الأساتذة الجامعيين، وطلبة وباحثين مهتمين بتاريخ المقاومة وجيش التحرير، وسياسيين، وعلى بعض رجال ونساء الإعلام، منهم أستاذي في الصحافة الذي تشرفت بالعمل معه وتتلمذت على يديه، قيدوم الصحافيين المغاربة بارك الله له في عمره الأستاذ مصطفى العلوي، الذي خصص مشكورا مقاله الأسبوعي لجريدته "الأسبوع الصحفي" الحقيقة الضائعة للكتاب ولحادثة اغتيال عباس المساعدي.
أما المنابر الأخرى فلم تكتب حرفا واحدا عن الكتاب كأنه لم يصدر، ولم أعرف السر إلى يومنا هذا، كأنها لم تتوصل بنسخ مهداة منه، وحتى وكالة المغرب العربي للأنباء لم تدرج ضمن نشرتها الإخبارية التي توزعها أي خبر عنه (...) كأنهم اتفقوا جميعا على تجاهل صدوره، إما عن عمد أو عن حسن نية، أم أرادوا طمس تاريخ يريدون له النسيان، لأنه يفضح بعض "الديناصورات" التي لازالت إلى اليوم تنكر أنها شاركت في مؤامرة اغتيال "الشهيد عباس المساعدي"، ولا تريد أن تظهر الحقيقة جلية للعيان؛ وآخرهم زعيم حزب سياسي تقدمي حارب النظام مثل رفيقه الآخر أكثر مما حارب الاستعمار، إذ تبجح أخيرا في لقاء صحافي مع أحد المواقع الرقمية بأن اغتيال عباس المساعدي هو من تدبير محمد الخامس، دون حياء؛ على الرغم من أنه كان المشرف على الكوماندو الذي اغتال عباس المساعدي.
كتاب يدون بين طياته تاريخ رجال كان تحرير الوطن ديدنهم، دون رغبة في غنيمة دنيا أو قصوى...كانت تسكن جل خلد المقاومين..كانوا من أوساط الشعب وأغنيائه، من عماله وحرفييه وفلاحيه، ومن خلص أثريائه ومثقفيه... يمارسون حياتهم في تقلباتها اليومية وطقوسها دون فتوى أو إلزام، يجمعون بين الواقع المتوتر والحلم الجميل الآتي...
كما شوهد في الماضي باسم الحزبية الضيقة والنزوات الشخصية، ويشاهد اليوم في ألم يعتصر الأفئدة ويقتل الأمل في الحياة، بانتشار فيروس الأمية والتطرف، الذي متح من المخزون الثقافي غير الراشد، فأنجب الشدة بدل اللين، والكره مقام الحب، والمغالاة في الدين، في حوره وقصاصه...وليس في قدسيته ووسطيته وتسامحه، لكل من شذ عن سبيلهم وخالف قصدهم...
وحتى النسخ الأربع التي وضعت بالمكتبة الوطنية بتاريخ 23 أبريل 2008 تبخرت منها إما بفعل فاعل، أو لسبب من الأسباب، على الرغم من توفري على إيصال حيازتها من المشرف على قسم الإيداع القانوني آنذاك، وحتى رقم الإيداع القانوني: 0851MO 2007 - كان غير مدرج، مثله مثل رقم ردمك 02-0-8791-9954-978، حتى زيارتي لرئيسة قسم الإيداع القانوني يوم 9 شتنبر 2014، وتم الاتفاق معها على ترك النسخة الوحيدة التي كنت أتوفر عليها كهدية للمكتبة لكي يتم تسجيلها وإدراجها في الموقع الإلكتروني للمكتبة كنسخة فريدة، ريثما يتم البحث عن النسخ الأخرى عندما يصل الجرد إلى سنة 2008، فهل تم السطو على تلك النسخ (...) ولم يرد لها أن تبقى شاهدة في المكتبة الوطنية على حقيقة اللغز الذي أرادوا له أن يطمس..؟ أم سيعثرون عليها حقيقة في الجرد الذي يقومون به، وبعد أن مرت أكثر من ست سنوات؟ وما جدوى ذلك اليوم؟ ..أطالب من القيمين على المكتبة الوطنية الإجابة عن هذا السؤال.
وأفاجأ مرة أخرى سنة 2012 بخبر من صديق بسطو آخر على الكتاب، ومن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، التي أسست من أجل أن تكون منبرا يشرف على كتابة تاريخ المقاومة وجيش التحرير، بحيادية دون أنانية ذاتية أو حسابات حزبية ضيقة، إذ قامت بالسطو على الكتاب وطبعه دون الحصول على إذن مني أو حتى استشارتي، ضاربة بمجهود ما يزيد عن عشر سنوات أدراج الرياح، ودون كلمة شكر أو تقدير.
ولو اقتصر الأمر على هذا لهان الأمر، ولكن الذين أشرفوا على إعداد الكتاب للطباعة مارسوا هواية مقص الرقيب، التي اندثرت مع طغاة الاستعمار، فحذفوا ما حذفوا وأضافوا ما أضافوا؛ وقد كانت لهم حساسية خاصة مع تاريخ واسم أحد قادة المقاومة وجيش التحرير، الشهيد "عباس المساعدي"، فأجازوا لتاريخه ما أعطيت لهم الأوامر بتركه، وحذفوا ما خشوا أن يصل للناس من تاريخه ومن حقيقة اغتياله الذي يسيء إلى ذهاقنتهم وإلى انتمائهم الحزبي.
وطنيتي تربأ بي أن أرفع دعوى قضائية ضد هذا التيار الناكر لحقيقة الأمور، لرغبة ما..لكنني أشكر الظروف التي ساعدت على إعادة نشرهم لهذا الكتاب في طبعته الثانية ولو مبتسرا..
بعد أزيد من عشر سنوات من الإصرار..وأحيانا المطاردة من أجل اللقاء، والإلحاح في السؤال، وبعد مرور أكثر من عقد على صدور أول عدد من جريدة "20 غشت"، اقتنع المقاوم السيد حسن بلمودن أن يشرفنا بنشر مذكراته على صفحات جريدتنا، التي أردنا لها أن تكون منبرا لكل رجال المقاومة وجيش التحرير، ولكل المناضلين الصامتين، ولكل من ساهم في تحرير هذا الوطن العزيز، والذين حاصرتهم مؤامرة الصمت الحزبية وغير الحزبية التي لا تطبل ولا تزغرد إلا لمن شهدت له بالنضال، ولا تستضيف في محاضراتها وحلقاتها وسمرها ووجوهها وأحداثها وحضورها وغيابها وجرائدها وقنواتها إلا مناضليها، ومرتزقي آخر ساعة... ومقاومي المقاهي والصالونات... الذين يشاركون إما عن حسن نية أو سوء نية في تزوير تاريخ ثورة الملك والشعب، إما بقصد تلميع دورهم ودور رفقائهم، أو لإرضاء بعض الرؤوس الكبيرة التي زكت مشاركتهم، واستولت على هذا التاريخ المجيد، ونصبت نفسها وصية عليه.
فالحديث مع السي حسن بلمودن، أو مع أبا حسن، أو حسن السائق، كما كان يحلو للشهيد محمد الزرقطوني أن يناديه، هو إشعاع نور يضيء حقبة مهمة من تاريخ بلادنا، الذي يحتاج إلى المزيد من الإشراق والوضوح، لأن الماضي بما يحمله من ذكريات وعادات وتقاليد وأعراف هو الأساس لمواجهة مسيرة الحياة والمستقبل، لأنه يكشف لنا عن المعدن النقي والنفيس لأصالة وعراقة أبناء المغرب الحديث، الذين يعتزون بإسلامهم وحبهم لوطنهم، عندما يواجهون الشدائد والمحن، فيضحون بأموالهم وأرواحهم في سبيل تحرير بلادهم من الاحتلال.
هذا الرجل رغم أميته وبساطته، تشعر عندما تجالسه وتنبش في ذاكرته أنك أمام موسوعة تاريخية للأحداث الوطنية والدولية، فمنذ مرهقته بدأ يهتم بكل ما يحدث في المغرب والعالم؛ فانشغل بهموم وطنه المغرب، وبهموم إخوانه المسلمين والعرب، وشارك في كل الأحداث التي ساهمت في تحرير هذا الوطن الغالي من براثن الاستعمار.
لكن لماذا التركيز على السي حسن بلمودن...؟ عندما اتصلنا بالعديد من رجال المقاومة وجيش التحرير للسؤال عنه، أجمعوا كلهم على أنه رجل مناضل نزيه، لم تشب مسيراته أي شائبة، ولم تتلطخ يداه بدماء رفقائه في الكفاح، وكان يحث أعضاء لجنة التسيير والتوجيه والجماعات والخلايا التي كان يشرف على تسييرها على عدم التسرع في تنفيذ عملية تصفية العملاء والخونة إلا بعد التأكد من دليل خيانتهم.
وشارك في الأحداث منذ الإرهاصات الأولى للحركة الوطنية، إلى مرحلة التفكير في التحضير للكفاح المسلح وتأسيس المنظمة السرية وجيش التحرير، إلى أن رجع رمز البلاد جلالة المغفور له محمد الخامس إلى عرشه، دون أن يغادر مدينة الدار البيضاء أو يلتجئ إلى المنطقة الشمالية، أو إلى الجنوب المغربي الخاضع للسلطة الاستعمارية الإسبانية، مثل العديد من إخوانه المقاومين الذين كانت تطاردهم السلطات الاستعمارية الفرنسية.
إنه رجل ساهم في جل الأحداث ويعرف أسرار المقاومة في مدينة الدار البيضاء وغيرها من المدن القريبة، كما عاش أحداث ما تسمى الظروف الغامضة أو سنوات الرصاص، التي ساهمت جل الأحزاب على اختلاف مشاربها السياسية في الدم المسفوح فيها، إذ بدأت ترى في عدم خضوع قادة المقاومة وجيش التحرير لأوامرها والتطاول عليها خطرا يهدد تواجدها؛ فوجب ترويضهم والسيطرة عليهم بكل الوسائل، لأنهم أصبحوا يتوفرون على تنظيمات وقوة سياسية كبيرة، وتمنى جل أفراد الشعب أن ينضموا إلى صفوفهم، بالإضافة إلى توفرهم على السلاح، وهذا يشكل خطرا على الجميع؛ لذا فكرت في البداية في استغلال قوتهم ورمزيتهم، ولما استعصى عليها الأمر أعطت الأمر لزبانيتها بتصفية كل من يعارضهم..
وكان هذا هو السبب في اغتيال العديد من أبطال وقادة المقاومة وجيش التحرير، مثل رفيقيه في الكفاح: إبراهيم الروداني وعباس المساعدي، وآخرين ينتمون إلى منظمات وتيارات مختلفة، مثل: رحال المسكيني، لحسن لكلاوي، عبد الله الحداوي، أعمامو الزياني، عبد الرحمان بلمخنت، بوشعيب الزيراوي، الربانة ثوريا الشاوي، أحمد الشرايبي، الفنان الحبيب القدميري، واللائحة تطول..
لقد عاش أحداث هذه الظروف الغامضة لأنه كان ضمن لجنة الحكماء التي كونتها منظمات المقاومة المغربية وترأسها إبراهيم الروداني، لتضع حدا لتلك الأحداث والصراعات بين قادة المقاومة، لكي لا يتفرق المقاومون وتضعف قوتهم.
ولقد نجح سماسرة السياسة في بث التفرقة والخلافات بين قادة المقاومة، وزجوا بهم في متاهة العنف والعنف المضاد، فكانوا السبب المباشر في فشل لجنة الحكماء، عندما لم تستطع فعل أي شيء، وتفككت بعد أن سقط رئيسها إبراهيم الروداني مغتالا. وعجت الساحة بالخلايا والجماعات الفدائية التي تأسست بعد انتهاء الشوط الأخير للكفاح الوطني، والإعلان عن بدء المفاوضات وقرب عودة الملك وانتهاء عهد الحجر والحماية، وبدأ كل من هب ودب يلم حوله بعض المرتزقة أو أفرادا مغضوبا عليهم من جماعات أخرى ويصدر منشورا يعلن فيه عن اسم خلية أو جماعة فدائية، وتناسلت الأسماء والرموز من جيوش وسيوف ومسدسات وأنصار وأياد وعينين وأشبال وصقور بيضاء وسوداء كالفطر، واستطاع العديد من المجرمين والمشبوهين والعملاء والخونة من التسرب إلى صفوفها.
ووقفت الرؤوس الكبيرة تتفرج بنشوة وإعجاب على نجاح مخططها من وراء الستار، إذ ظلت تحرك بدهاء وخبث خيوط الدمى، لإثارة الانقسامات بين المقاومين، وتحريض ذوي العقول المريضة التي جرفها التيار الحزبي وأغراها بالمال والمناصب والامتيازات، فاستأسدوا على زملاء الأمس، الذين شاركوهم في مذبح الحرية، وأخذتهم نشوة العزة بالإثم، لأن أميتهم وفقرهم وجهلهم السياسي لم يكن يسمح لهم بأكثر من ذلك، بمشاركة من مرتزقة آخر ساعة المتعطشين لسفك الدماء، ومقاومي المقاهي والصالونات؛ كما أججوا الحقد والتناحر في نفوس العديد من السذج الذين كانوا يجهلون كل شيء عن الصراعات القائمة، وكانوا يعتقدون أنهم يمارسون الكفاح ضد الاستعمار وأعوانه، وصوروا لهم أنهم بتصفية من يعارض التبني الحزبي أو رغبات أسيادهم الجدد يساهمون في تحرير بلادهم، وشجعتهم على هذا كثرة السلاح الذي سربه الخونة والعملاء و(...)، فأصبح متوفرا عند الجميع وبشكل مستفز، فأنكروا على الآخرين حقهم المشروع في المعارضة وإبداء الرأي، فعمت فوضى السلاح والاغتيالات والاعتقالات، وانتشرت فرق الموت في كل المدن المغربية تحصد أرواح الأبرياء، وتضرب الخارجين عن طاعة الحزب، وولغت الذئاب الضالة في الدماء، وعندما اشتد عودها تحركت الورقة الحزبية فضربتها ضربات حطمت كيانها، فكان الصراع مأساويا ذهب ضحيته العديد من خيرة أبطال المقاومة وجيش التحرير.
كما أن السي حسن بلمودن كان ضمن القيادة الأولى التي طالبت بوضع حد للهيمنة الحزبية للحزب العتيد؛ فتكللت مساعيه مع بعض المخلصين من أبناء هذا الوطن بإصدار ظهير الحريات العامة، وكان من ضمن المؤسسين الأوائل لحزب الحركة الشعبية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعضوا في لجانهما الإدارية الأولى..واستطاع بلباقته وحكمته وحنكته عند لقائه بولي العهد الأمير مولاي الحسن سنة 1959 نيابة عن والده جلالة الملك محمد الخامس، لتسليمه الملتمس الثاني لرجال المقاومة وجيش التحرير، من إقناع سموه بوجهة نظره الداعية إلى إحداث بطاقة خاصة بأعضاء المقاومة وجيش التحرير.
لقد اخترنا السي حسن بلمودن لأننا نعرف دوره الحيوي والفعال والوطني والإنساني في تأسيس المقاومة المغربية، ودفاعه المستميت عن حقوق أفرادها، كما أننا نعرف تواضعه وتعففه وعزوفه عن الشهرة وهروبه من الأضواء وحبه الخير للجميع، ونعرف أنه لا يخاف في قول الحق لومة لائم، ولهذا تخوفت منه الرؤوس الكبيرة، التي تعرف قبل غيرها أنه لن يصمت، ولن يقبل التواطؤ معها لتزييف تاريخ المقاومة وجيش التحرير، ولن يشاركها في مخططها الرامي إلى السيطرة على المقاومين وتدجينهم، فلم تزكه لعضوية المجلس الوطني المؤقت.
إن التاريخ لا يرحم الرجال الذين يساهمون في صنع أحداثه إن صمتوا؛ لأن حقائقه تبقى ملكا للوطن ولأجيال الحاضر والمستقبل، يستلهمون من تجاربها انطلاقة لهم، لأنهم امتداد للأجيال الماضية، وتشعرهم بأصالتهم وانتمائهم إلى وطن له تاريخ مجيد، لأن الماضي هو الطريق إلى المستقبل، والتاريخ هو الذاكرة الحية للشعوب، فلهذا اقتنع السي حسن بلمودن بأن يتحدث، لأنه لا يريد أن يساهم في تزوير التاريخ بصمته، ولا أن يخدع وطنه، ولا يريد أن يحرم أجيال المستقبل من شهادته.
ضمن هذه الذكريات سيكتشف القارئ جوانب إنسانية دافئة وأسرارا خفية من حياة بعض رموز وأبطال المقاومة وجيش التحرير، الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم من أجل الحرية والاستقلال: محمد الزرقطوني، إبراهيم الروداني، عباس المساعدي، وأسماء النواة الأولى التي يرجع لها الشرف في تأسيس "المنظمة السرية" وتسييرها، والأسماء التي يرجع لها الفضل في اكتشاف أول طريق لتهريب المقاومين المبحوث عنهم إلى المنطقة الشمالية، بالإضافة إلى أسرار تنشر لأول مرة عن الأسباب الحقيقية لفشل طباعة منشور مطبعة الأطلس، وسر اغتيال إبراهيم الروداني وعبد الله الحداوي؛ كما سيفاجأ بشخصية العميل الفرنسي الذي كاد أن يصبح قائدا لجيش التحرير، وسيندهش عندما يعلم السر الحقيقي وراء اغتيال الشهيد عباس المساعدي، وأول بوادر الخلاف بينه وبين المهدي بن بركة وأنصاره، (...) وبعض خلفيات تأسيس الاتحاد المغربي للشغل وحزب الحركة الشعبية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وأتمنى صادقا أن أكون قد ساهمت ولو بجزء يسير في نفض بعض الغبار عن تاريخ ملحمة التحرير والفداء، التي أراد لها البعض أن تجمد ليعمها تيار الطمس والغموض والضبابية والتحنيط، فتكون من الرواسب في عمق أعماق التاريخ المهمش، لأن هناك أحداثا مرت في محيط المغرب حظي بعضها بالتدوين كتاريخ وشهد لأصحابها بالمجد والبطولات، وأحداثا أخرى أريد لها بالعمد وسبق الإصرار أن يطالها الطمس والإقبار، فتلاشت ملامحها عبر الزمن والسنين الطويلة بعملية اغتيال وتصفية صامتتين، فتجاهلها الكل ولم يكرم أبطالها.
وحتى الكتب التي تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات لن تجد فيها شيئا عن ملاحم وبطولات المقاومة المغربية، لأنه تاريخ أرادوا له ألا يبقي راسخا في الذاكرة لحسابات ضيقة، وأسدل عليه الستار الأسود؛ وبذلك خيم النسيان على ذاكرة جيل ما بعد الاستقلال وعمه الجهل المطبق، وبهذا تمت تصفية حقبة تاريخية هامة، فضربت الغشاوة على أعين شعب بأكمله، من أولويات حقوقه أن يعرف تاريخ وطنه.
فهل من بقي اليوم منهم على قيد الحياة، لهم الجرأة الآن للتصالح مع الذات، وتاريخ ملحمة ثورة الملك والشعب، ليصدعوا بحقيقة الأمر، وليكونوا نبراسا للأجيال الحالية واللاحقة، ما يشفع لهم في مسيرة النقد الذاتي الذي هو ركن من أركان التصحيح والبناء الموضوعي لوطن مرتجى؟.
ففي كل ثورة هناك أبطال، منهم من ذاع صيته ومنهم من مر على هامش التاريخ وسقط اسمه إما سهوا أو عمدا، فجنود الخفاء في أغوار منظمات المقاومة يبقون أشخاصا مجهولين، أما الذين يطفون على السطح فهم الواجهة التي تسند إليها تنفيذ بعض الأدوار النهائية، فيتعرف عليهم الشعب ويجنون من وراء ذلك الشهرة الخادعة والمجد. أما الذين كانوا يخططون ويسيرون فيبقون مجهولين، وهذا ما حدث لتاريخ الكفاح الوطني.
لكن من هو ذلك الشبح (...) الذي يريد ويبتغي...؟ واعتقد أن المفكر الفذ الدكتور عبد الله العروي كان له امتياز السبق في هذا المجال لما دعا إلى إحداث معهد للدراسات التاريخية، فهو الذي يدرك إدراك العالم الباحث سر التعتيم التاريخي ...وسر الماكياج التاريخي، الذي لن تزكيه الأجيال القادمة الصانعة لمنصات المحاكمات التاريخية. وستكون ولا شك أقفاص الاتهام كثيرة، كما كان التحريف كثيرا، وأتمنى أن يجد المهتمون والباحثون والمبدعون شيئا يروي تعطشهم لملاحم وبطولات أبناء وطنهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.