قديم هو تفاعل المغاربة بالنبات وأمر أصيل تداويهم بمستخلصاته، كطب تقليدي تحفظه ذاكرة المجتمع وفق تجارب وخبرات تراكمت مع الزمن هنا وهناك من جهات البلاد. والى جانب ما كان عليه نبات المجال المغربي ولا يزال كمصدر مواد عطرية عدة، شكل أيضاً أداة تجميل للجسم ونوعاً من الأريحية فيما هو احتفال ديني كان أم أسري. وكانت مشتقات النبات العطري دوماً عبارة عن سوائل برائحة طيبة، مفيدة لِما هو نفسي ومؤثرة إيجابا على كل توتر وقلق عصبي.. وما من شك في أن ما تزخر به البيئة المغربية من غنى وتباين وتنوع، يجعل من نباتها العطري الطبي مجالا واعداً في ما هو صيدلي طبي وتجميلي، وبقدر تنوع واتساع نبات المجال المغربي بقدر ما هو غير مستغل طبياً ويحتاج إلى دراسات علمية ومبادرات وأوراش استثمار. وكان لطبيعة المجال الجبلي المغربي ونوعية المناخ السائد، أثر على الغنى النباتي من الأعشاب الطبية والعطرية، كذا على تباين نوع وقيمة المكون النباتي وعلى قيمته في الطب والتداوي التقليدي. وعبر قرون من الزمن كانت الحضارة المغربية بطابع تنوع في التراث والثقافة والعادات ونمط العيش، باعتباره إرثاً لا مادياً ضارباً في عمق تاريخ البلاد. بحيث كثيرة هي مظاهر ما يعكس غنى الثقافة المغربية واحتفالياتها ومواسمها التي منها ما هو بعلاقة مع الطبيعة عموماً والنبات منها تحديداً، كما شأن ما لا يزال يحفظه المجتمع المغربي من أشكال تفاعل مع البيئة خلال ربيع كل سنة حيث العطر والزهور والورود وتقاليد تقطير وأشكال تعبير ونزهات وشدو وغيرها. ومعلوم أن عطر النبات ارتبط بحياة المغاربة منذ القدم، فكان بموقع رمزي في حياتهم من خلال حضوره واستحضاره في مواعد حياة وممات، وقد نجد مادة العطر أكثر ارتباطاً بما هو ديني من عبادات وتعبير عن حب وعلاقة وتقدير واحتفاء.. وإذا كانت لفظة عطر تعني كل ما هو طيب فهي ترتبط في الثقافة المغربية الأصيلة وفي ذاكرة المغاربة عموماً بالعطار ذلك الحرفي الناعم الذي يحيلنا على جوانب من عبق تفاعل ورمزية تقاطع دروب وأزقة المدن المغربية العتيقة وأسواقها كفاس ومراكش وتطوان وسلا والرباط وغيرها، وعليه يتداول المغاربة وينعتون منذ زمان بقولهم هذا رجل عطر وهذه امرأة عطرة إذا كان فيهما ما يميز من طيب وطيبوبة، والعطر عند اللغويين إسم عام لِما هو طيب والطيب إسم شامل لجميع ما هو روائح طيبة. وللإشارة فالطيب والعطر النباتي الأصيل هما أقرب المواد للإنسان ولحواسه وتفاعلاته وأحلامه وآفاق حياته، بل لكل من الطيب والعطر علاقة بالجمال وطلب الزينة. وتاريخ علاقة المغاربة بالعطر الطبيعي النباتي جزء من عبق بلادٍ وذاكرتها وثقافتها وحضارتها، كيف لا وجل مدن المغرب العتيقة التاريخية لا تزال تحفظ كثيراً من شواهد ما يثبت ذلك منذ زمن بعيد. وتذكر المصادر التاريخية الوسيطية المغربية والعربية ما هو بعلاقة ببيع العطور في أماكن خاصة ببعض مدن المغرب العتيقة، ومن هنا ما نجده من حديث حول زنقة العطارين ببلاد الأندلس ثم بالمغرب لهذا العهد. ففي فاس مثلا بنيت مدرسة العطارين قرب سوق العطارين غير بعيد عن جامع القرويين في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي زمن بني مرين 723ه، بل ويذكر بعض المؤرخين أن فاس تحديداً كانت أكثر مدن المغرب والغرب الإسلامي استيراداً للعطور خلال العصر الوسيط قائلا :" ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا.. لا أعلم بالمغرب مدينة لا تحتاج إلى شيء يجلب إليها من غيرها، إلا ما كان من العطر الهندي سوى مدينة فاس". وهو ما يعني كون المغاربة من خلال فاس كانوا على صلة بالعطر وحرف وحرفي العطور، التي هي في الأصل نباتات بمنظر جميل وجاذب وريح طيب وشكل زهي ما نجده غالباً في مناطق ذات طبيعة رطبة. وبقدر ما هناك من علاقة بين الاحتفال والعطر والطيب بقدر ما يدخل هذا الأخير ضمن عادات وتقاليد ضاربة في القدم، كالأعياد والأفراح والزواج والجنائز والدفن وغيرها من أشكال تفاعل حياة الأنسان منذ قرون. فكثيراً ما نجد الطيب يحضر في طلب المغفرة والمحبة وجلب الحظ والفأل الحسن وطمأنينة النفس، هذا لطبيعة ما هناك من علاقة خفية روحية بين الأزهار والورود والأنسان. وعليه فالنفوس تشعر دوماً بنوع من الراحة والروحانية عند رؤية الزهور والحدائق والنبات..، ومن هنا إقدام الناس منذ القدم على غرس أشجار زاهرة تنتج الزهور وسط البيوت. وبما أن الموت حالة برعب خاص في حياة الأنسان، حاول هذا الأخير منذ زمان التخفيف من أثرها وتقديم الدعاء والتوسل عند حدوثها بواسطة العطر وكل ما هو طيب. وكان لموقع المغرب وأعاليه من الجبال أثره في تنوع موارده النباتية العشبية الطبيعية، بحيث تحتوي البيئة المغربية وتحتضن منذ قرون تنوعاً شجرياً مثيراً للاهتمام لِما تسمح به هذه الثروة من قيمة عطرية أصيلة ومنها شجرة النارنج. وقد تعامل المغاربة منذ القدم مع جميع أنواع النبات العطري باعتباره إرثاً ثقافياً، وعليه نجد النبات وما يستخلص منه لهذا الغرض أو ذاك، يحضر في تجليات عدة تجمع بين الديني والاجتماعي كما الطبخ والعلاج والتزيين والزيارة والاستقبال والترحيب...ويصنف النبات العطري إلى أشكال ذات تميزات ومواصفات بحسب الدراسات العلمية الخاصة، منها التصنيف المورفولوجي الذي يقوم على الجزء المستعمل الذي يحتوي المادة العطرية الفاعلة، وفي هذا الاطار من النبات من يستعمل بكامله ومنه من تستعمل فقط أوراقه. وتعني شجرة النارنج التي ارتبطت بالبيئة المغربية منذ القدم وبالمغاربة في المدن العتيقة التاريخية الأصيلة وأريافها، الشيء الكثير لِما تضفيه من قيمة مجالية بيئية على البلاد بأكملها، ومن رمزية في الذاكرة المشتركة خلال ربيع كل سنة كما تشير لذلك نصوص التاريخ في هذا الباب، حيث تميز البيئة بأزهار بيضاء ذات رائحة طيبة هي مصدر عطر طبيعي. ومعلوم أن شجرة النارنج تجود خلال ربيع كل سنة بأزهار يتم تقطيرها بشكل تقليدي، لاستخلاص ما يعرف بماء الزهر وهي تسمية مغربية قد تكون عرفت لأول مرة بفاس ومراكش وسلا. وتعود شجرة النارنج أصل هذه المادة المعطرة (ماء الزهر) على أساس ما تذكره المصادر التاريخية، إلى بلاد الصين قبل أن تنتقل إلى جهات أخرى منها المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتصنف شجرة النارنج ضمن الحمضيات بحيث هي شبيهة بشجر البرتقال. وقد ورد عند بعض المؤرخين المشارقة خلال القرن السادس الهجري، أن المجال الأول من العالم يبدأ من جهة المغرب حيث البحر الغربي المسمى بحر الظلمات(الأطلسي) إلى البحر الهندي، وأنه بجزر هذا الأخير أنواع من الأشجار منها النارنج التي تتوفر على زهر يتفتح ويسقط، وأن منه من يتم جنيه وتجميعه وتجفيفه وبيعه لتجار واردين على المنطقة يتجهون به إلى جميع الأقطار لعل منها المغرب وفاس تحديداً خلال هذه الفترة. وقد انتقلت شجرة النارنج أصل عطر "ماء الزهر" الشهير بالمغرب والغرب الإسلامي إلى المغرب من بلاد الأندلس، وخاصة إلى المناطق المناسبة من الناحية المناخية تحديداً شمال البلاد وغربها، ومن هنا كان الأندلسيون المهاجرون بفضل في هذه العملية وفي نقل ما ارتبط بها من تقاليد وسبل استغلال خلال القرن الخامس عشر الميلادي، وبخاصة طرق تقطير أزهار هذه الشجرة واستخراج منها ما يعرف ب "ماء الزهر". هكذا انتقل هذا التقليد الأندلسي إلى مدن مغربية أصيلة وهكذا انتقلت شجرة النارنج التي كانت البيوت العتيقة تزين بها فضاءها الداخلي، الإقبال الذي كان أكثر انتشاراً لِما تضفيه هذه الشجرة من جمال على البيت ومن رائحة طيبة خلال فترة إزهارها، فضلا عما تحاط به أزهار هذه الشجرة من قدسية وقيمة جمالية وتجميلية. يبقى من خلال ما حصل من بحث علمي ودراسة حول الهندسة الزراعية عند العرب، من المفيد الإشارة إلى أن شجرة النارنج انتقلت من الأندلس إلى المغرب ومنها أيضاً إلى أروبا شمالا، إلى جانب أشجار مثمرة أخرى لا تزال تحضر في اللغات الأوربية وتنطق بأصلها العربي.