يمكن توصيف إقبال أصحاب الدخل المحدود والمتوسط على الاستهلاك بوتيرة زائدة إبان شهر رمضان من خلال جانبين مغايرين، جانب طبيعي يحيل على رغبة وتمثلات الفرد في إشباع جوعه وانتظاراته الحيوية بعد فترة من الإمساك عن الطعام، وجانب اجتماعي واقتصادي يتيح فرصا وأزمنة تسوق، لاسيما إذا استحضرنا خاصية التوقيت الرمضاني ووفرة البضائع على اختلاف أنواعها داخل السوق المغربية؛ فهل يخفي ذلك جوعا قديما؟ أم ذاكرة جماعية عن مغرب الحاجة؟ أم هو شعور بعدم الأمان؟ أم يتعلق الأمر بوعي ضعيف عن الأمن الغذائي؟. لا يرتبط الأمر بجوع قديم أو بذاكرة جماعية عن مغرب الحاجة أو بشعور أو وعي اجتماعي ضعيف ومتذبذب عن الأمن الغذائي، بل يتعلق الأمر بصيغ طقوسية ثقافية وغذائية ترتبط بشهر رمضان، يشكل فيها سلوك "التفاخر التسوقي" تعويضا عن الانقطاع الزمني عن أماكن التسوق لمدة نصف النهار أو أكثر، فيصبح التواجد في أماكن الاستهلاك، لاسيما في آخر النهار، ذريعة أو دافعا إلى التزود والتبضع؛ فينتقل فعل وسلوك التسوق إلى شكل "هجوم" أو "تسونامي" أو "سطو" أو "غزوة" على المنتجات المعروضة، فيتملك الفرد شعور جارف بشراء وتجريب جميع البضائع التي لم يكن خلال السنة يتعاطى لها أو يفكر في استهلاكها، محاكاة لجميع الزبناء والأشخاص المتواجدين في نفس الفضاء التسويقي (جوطية – أسواق ممتازة – بضائع على أرصفة الطريق...). اختيار الأطباق نفسها أو أطباق معينة أو أكلات بذاتها في رمضان بوتيرة متكررة من قبيل السمك أو البيض يوميا لا يتم بمنطق اختيار الأكل الصحي، لأن هذا الاختيار لا يحضر خارج شهر رمضان، بل ويختفي بعده، فهذه العادات والسلوكيات على بساطتها الظاهرية تحيل على ملامح أنتروبولوجية للمغربي يمكن فهمها من خلال طبيعة تمثلاته القيمية التي تتأرجح بين ثنائية الفردية (Agency) والبنية (Structure)، إذ إن الأولى تمكن الفرد من التحكم في جسمه ووجوده والتقرير في فعله وسلوكه وفي اختياراته بمفرده؛ وفي المقابل يحيل مفهوم البنية على العوامل المؤثرة وعناصر الشحن (الجماعة - الطبقة الاجتماعية – الدين- النوع – المهارات المكتسبة – التقاليد ...) التي تحدد وتقنن وجود وقرارات الفرد. لهذا فالسبب الرئيس في الاستهلاك بوتيرة زائدة إبان شهر رمضان هو هيمنة البنية على الفردية؛ فالفرد الواحد لا يمتلك القدرة على الدفاع عن اختياره وعن رغبته في استهلاك عاد كاستمرارية لنوعية الاستهلاك طيلة السنة، وعدم الرضوخ لسلطة الجماعة التي تبتدئ من عائلته الصغيرة، والتي تميل إلى الاستهلاك المفرط بالمفهوم المغربي "التهلية" و"التبراع" و"التفياك" . إذن، فانطلاقا من ثنائية الفردية والبنية يمكن قراءة بعض العادات الجديدة للمغاربة، من قبيل الإفطار في مقاه أو فنادق، لا كمؤشر على تغيرات اجتماعية واقتصادية، بل كمنطق جديد "للترحال القيمي"؛ إذ إن نفس القيم سالفة الذكر: "التفاخر التسويقي" و"التهلية" و"التبراع" و"التفياك" سيتم تثبيتها بهذه المواقع الجديدة للاستهلاك. هذا المنطق تحكمه جدلية أن العرض الاستهلاكي لا يحدده المكان، بل تتحكم فيه أساسا طقوس أكل الزبون الذي تتطلب تلبيتها مسايرة سلوكه الاستهلاكي؛ فتظل العادات الاستهلاكية في شهر رمضان هي هي، مع فارق الانتقال من فضاء مغلق حميمي (البيت العائلي) إلى فضاء مفتوح عام (المقهى أو الفندق أو المطعم).