جلس صاحبي بجانبي وعلامات الحزن والأسى بادية على وجهه وهو يردد بيت أبي العلاء المعري: تعب كلها الحياةُ فما أع ** جبُ إلا من راغبٍ في ازدياد ثم خاطبني متسائلا: الحياة نعمة أم نقمة؟ فاجأني صاحبي بهذا السؤال نظرت إليه نظرة استغراب واستعجاب. فصاحبي هذا ذو طبيعة مرحة، حلو النادرة، صاحب دعابة ونكتة. لا يأخذ الحياة مأخذ جد ولا يترك صغيرة أو كبيرة إلا وجعل منها مادة خصبة للسخرية والضحك. فسألته بدوري: ما أمرك يا أخي؟ ما عهدتك هكذا متشائما. أَ صِرْتَ كفيلسوف المعرة، أبي العلاء المعري، الشاعر الأعمى الذي شك في كل شيء، رغب عن الحياة وزهد في الدنيا وكل ما فيها، لا يأكل لحم الحيوانات ويلبس أخشن اللباس لازم بيته واعتزل الناس حتى سمي برهين المحبسين. فأجابني صاحبي: لا لست متشائما ولا ساخطا. فقلما ضقت بالحياة رغم قساوتها إنما متدبر أمورها مبتسم لحلوها ومرها راضي عن خيرها وشرها. فالتشاؤم يقود إلى العزلة وتشاؤم المعري مصدره- كما قال طه حسين-العجز عن تذوق الحياة والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من بهجة وجمال ومن نعيم ولذة. لكني اليوم أنا حزين أشد ما يكون الحزن، كسير الجناح، مكلوم القلب. صديق عزيز لي رحل عن هذه الدنيا وهو في ريعان الشباب، موفور الصحة. نام ثم لم يستيقظ. ومصيبة تليها مصيبة أخرى. صديق آخر لي كان يعيش في سعة وغنى وبذخ، كان يملك شركة تجارية كبيرة، ثم شيئا فشيئا فقد كل شيء. شركته أصابها الإفلاس، فارقته زوجته وفقد أبناءه. اليوم يعيش شريدا متسكعا في الطرقات ينام الأرض ويتغطى السماء. وتوقفت مهلة من الزمن ثم خاطبت صديقي: ألا تتذكر سيرة المعتمد بن عباد آخر ملوك الطوائف بالأندلس. إن قصة حياته لشاهدة على تقلبات الزمن وغدره ومكره. إن مأساته عبرة وعظة لمن يريد أن يعتبر. ابتسمت الحياة له برهة من الدهر وتجهمت له دهرا. أعطته الدنيا كل شيء. كان ملكا محاربا شجاعا وأديبا شاعرا، صاحب سيف وقلم، ذو سلطة وجاه ونفوذ. كان سخيا ذو جود وأريحية حتى قيل عنه أنه كان مسرفا في التبذير و اللهوو المجون. ثم تبدلت حاله، انتزعت الإمارة منه في غمضة عين وآل به المآل إلى الأسر والفقر والذل والهوان. استمع إلى هذا البيت الجميل الذي يخاطب فيه نفسه ويلخص سيرته قد كان دَهْرُكَ إَنْ تَأْمُرُهُ مُمْتَثِلا فَرَ دَّكَ الدهرُ مَنْهِياً ومِأْمُوراً فقاطعني صاحبي وصاح: ملعون أبو الدنيا. لكني استطردت في الحديث قائلا: المعتمد بن عباد هذا الملك الأسير الذي أدبرت عليه الدنيا رأى بأم عينيه بناته في الأطمار جائعات يلبسن لباسا رثة وأمارات العوز والخصاصة بادية على وجوههن، ثم جاءه خبر ابنته بثينة بعد أن اشتراها بعد سبيها تاجر من إشبيلية. فتمنى الموت لو أنقذه من هوان السجن والفقر وخلصه من ذل الفقر والحاجة. وهو القائل: أليس الموتُ أرْوِحَ من حياةٍ يطول على الشقيِّ بِها الشقاءُ حقا، الموت، في بعض الحالات، هو خلاص للإنسان من مصائب وويلات الدنيا. إنه راحة من كل شر. ثم قلت: الحياة لغز. نأتي إلى الدنيا مرغمين ونغادرها مرغمين رغم أنوفنا. إن الموت قدرنا لا مفر منه يصيب الإنسان أينما حل وارتحل، حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا. فما الفائدة إذن من محاولة التمسك بالعيش في هذه الحياة الملعونة الزائلة الفانية؟ فأجبت: الدنيا ملعونة زائلة حقا لكن لا يجب اليأس منها أو السخط عليها، ولا ان نضيع وقتنا في التساؤل عن معنى الحياة وهل هي نعمة أو نقمة، بل الأهم في حياتنا هو أن نخلق معنى لحياتنا ونعمل ما في وسعنا لتحقيقه. وساد صمت قصير بيننا ثم ردد صاحبي أبياتا من قصيدة رباعيات الخيام لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآت العيش قبل الأوان واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان فقد تساوى في الثرى راحل غدا وماض من ألوف السنين ثم نهض وانصرف وهو يصيح ملعون أبو الدنيا.