يعرف الغش الاستحواذي عبر ذلك التصرف القسري الذي يهيمن على الفرد ويأخذ بمجامعه للمغامرة اعتمادا على التضليل والتمويه على ضحاياه والتدليس عليهم، معتمدا كافة أساليب التحايل على القانون وأجهزة الرقابة. فصاحب التصرف الغشاش عبد طيع لرغبة دفينة يهمين عليه سحر خيالي خاص من طبيعة أحلام اليقظة يضخم له بؤسه وما يطاله من تهديديات فيصور له المستقبل واقعا جميلا وهميا. فيعتبر الغش والتمويه والتحايل على القانون وإرشاء أجهزة الرقابة عملا أو منطلقا لعمل خطط له بحكمة، فليس المال الذي يتوقع ربحه إلا لتمويل مشاريع كبرى. وهو يعلم أن الغش مجازفة خطرة، لكنه ينفي الخطر ويندفع نحو الغش، دون اكتراثه بذاته أو سمعته ودون إشفاق أو رحمة بضحاياه. إننا أمام حالة يصعب تصنيفها في إطار التخلف العقلي أو العصاب أو الذهان، لكن ما يعانيه صاحب التصرف الغشاش من اضطراب في نمو الوجدان يدفعه إلى ممارسة التصرفات المستهجنة والملحقة للأذى بالأخرين. وهو اضطراب يطال النمو الوجداني لدى الفرد ويحول دون ارتقائه إلى الإحساس بالخرين والشعور بالذنب جراء المآسي التي يلحقها بهم، بل يتلدد بهم. وقد يصعب حصر من تهيمن عليهم هذه الصعوبة في المجتمع، والتي تعتبر تصرف انحرافيا من الزاوية الاجتماعية، وفعلا إجراميا من الناحية القانونية، عندما تكتمل أركانه المادية والمعنوية والثانوية. فتصرف الغش قد يظهر بشكل واضح لدى التاجر، وقد يبدو في الانتهازية لدى السياسي، والتحايل لدى المحامي والارتشاء لدى القيم على الشأن العام إداريا أو قضائيا، والاختلاس لدى المؤتمن على المال العام، والغش في الامتحانات لدى التلميذ أو الطالب الذي يعاني من خصومة مع التعلم... وكل هؤلاء يستطيعون التملص من السوق إلى مستشفى الاضطرابات النفسية، ولا تقع سوى لنسبة ضئيلة لا تصل إلى نسبة واحد بالمائة من مجموعهم. وبهذا يمكن القول بتحول الغش إلى قاعدة وصدق إلى مجرد استثناء، ويبقى المتابعون قضائيا أو إداريا أو ماليا بسبب الغش، مجرد أكباش فداء في حين تبقى غالبية الغشاشين طليقة تسمم مناخات الحياة العامة وتحتكر الهواء الذي يتنفسه الناس عبر هيمنتها على قوتهم اليومي وتحكمها فيه، يستلهمونه غذائيا ودوائيا وسكنيا وتنقلا ولباسا وإعلاميا وثقافيا وفنيا ورياضيا، وهذه الصعوبة تنتشر على مستوى النوع لدى الذكور أكثر من الإناث. وتتميز البنية الشخصية لصاحب التصرف الغشاش بعدد من الأعراض قد تكون مجتمعة أو متفردة. وتتشكل على مستوى مجموعات مختلفة في ترتيبات متناقضة مع تركيبات من يتقاسمون معه نفس التصرف. فحسب العديد من الاجتهادات العلمية والميدانية يتبن أن التصرف الغشاش كثيرا ما تهيمن على صاحبه عدة أعراض نذكر منها: 1. ضعف بليغ في النمو الوجداني؛ ويبدو في عجز صاحبه عن إدراك الأخر والتفكير والعمل بمساعدته. فقد نجده يقول بالقيم النبيلة لفضيا ويتنكر لها في الممارسات العملية في حياته اليومية، وهو حال قد يسهم في توسيع الهوة بين النمو الذهني والنمو الوجداني مما يمكنه من خداع الآخرين بدفاعه اللفظي عن القيم السامية وتمسكه بها. 2. الخلو التام من القلق ومشاعر الذنب؛ فصاحب التصرف الغشاش يفرغ كافة نزواته في الفعل مباشرة ولا يكترث بالتفكير فيها، وهو يتلذذ بالتملك المادي والاستحواذ المعنوي على الآخرين، وهو تلذذ مما يعانونه من صعوبات مادية ومعاناة من أجل الحصول على القوة اليومي أو على مادة غذائية أو حاجة إدارية أو معرفية أو تربوية، والغش في رمضان الذي يتمثل في غلاء بعض السلع، و تقديم سلع فاسدة تضر بالمصالح والسلامة المادية للمستهلكين لا يختلف عن الابتزاز الذي تمارسه الجهات المقرضة إبان اقتراب عيد الضحى، أي المضاربين الذين يمارسون الغش على الكساب والمستهلك، وهو نفس الفعل الذي يوجه من يريد تأمين رصيد معرفي وتربوي من لدن المتاجرين بالتربية والتعليم داخل ما يسمى بالمدارس الخاصة والدروس الخصوصية. 3. يعاني صاحب التصرف الغشاش من هيمنة الهو على بنائه العاطفي ومن خصومة مع ذاته والهروب من مسائلتها. فهو لا يستطيع كبح شهواته أو تدبيرها فيقع باستمرار في تحقيقها من خلال تدمير الآخرين، وذلك باستعماله لكافة وسائل الاحتيال والنصب والمراوغة التي يمارسها على زبونه ( ضحيته) الذي يرمي المسؤولة عليه دون أن يعبئ به وبحاجاته ولحقوقه عبر ممارسة الغش عليه وسلب ما لديه طوعا أو كرها لأنه هو من يحتكر المادة الاستهلاكية داخل السوق الذي لا يفكر بالمستهلك. 4. زمن صاحب التصرف الغشاش هو الحاضر؛ أي ما سيحصل عليه من غنائم أنيا دون تأجيل لوقت أخر، فهو لا يهتم بالماضي أو المستقبل لأنه سجين دوامة لذته الراهنة مستعملا كل ما حوله لإرضاء داخله. 5. يعيش صاحب التصرف الغشاش غربة اجتماعية تتسم بالشك والجفاف العاطفي وعدم الاعتراف بالجميل، كما تتسم بالقسوة في معاملة الأخرين. فليس لصاحب التصرف الغشاش أهل أو أصدقاء ولا يشعر بالانتماء لأية جمعية، كما يعاني من عجز مطبق في مبادلة الآخرين الحب والاحترام ويستغلهم لإرضاء نزواته التي لا ترتوي إلا عبر الاستمرار في استغلالهم والاتجار بهم. 6. لا يقبل صاحب التصرف الغشاش بالنظام والقوانين ويحتقر القيم وحقوق الانسان والمعرفة والنظم الاجتماعية والتقاليد والعراف المتحضرة، ويكره الإدارة والمؤسسات المؤتمنة على الشأن العام أمنيا وقضائيا وضريبيا واقتصاديا ويعمل باستمرار على الإساءة إليها لأنها تشكل عائقا أمام تحقيق نزواته. 7. إن لسان صاحب التصرف الغشاش آسر لمن يستمع إليه ومثير للإعجاب بجرأته مما ييسر وقوع الضحايا في شباك قدراته بإرادتهم. فهو على قدر من التفاؤل ويتميز بروح النكتة المخادعة التي توهم المتعامل معه على أنه صديق لمرء صادق، لكن سرعان ما تأتي اللحظة الحرجة ليقع هذا البريء المخدوع في براثن صاحب التصرف الغشاش. 8. يرد صاحب هذا التصرف على احتجاجات الآخرين على معاملاته التدليسية بمبررات كما لو كانت جاهزة أو معدة من قبل. فهو يتمتع بسرعة خارقة في تبرير أفعاله وإزاحة اللوم عن نفسه والإلقاء به على ضحاياه، ويكذب ويراوغ ويطمس الحقائق مهما كان وضوحها وجلاءها. 9. يعاني صاحب التصرف الغشاش من انعدام البصيرة؛ فهو لا يدرك ما يقدم عليه من أفعال، لذلك يسارع إلى تحييد المسؤولة عن تصرفاته خارج ذاته، لكن اندفاعيته كثيرا ما تنسيه القيام بإلقاء أضواءه الإدراكية على ذاته وعلى ما يقرفه من أفعال فيقع سجينا في زنزانة أكاذيبه ولا يتعلم من أخطائه. 10. يعتبر صاحب التصرف الغشاش ذاته بأنه أعلى وأرفع ذكاء من الأخرين؛ فهو يتحدث عن القيم لكنه يرزح تحت العيش بواسطة الأقنعة، فكل ما تمزق قناع أو سقط إلا وسارع إلى ارتداء قناع أخر ليواجه ضحايا أخرين دون التفكير في التحرر من وضعه الفاسد. وعليه، يعتبر صاحب التصرف الغشاش كيان لا اجتماعي لم يستطع الانتقال إلى رحاب الشخص الإنساني جراء تنشئة لا اجتماعية قوامها التربية والتثقيف على الفساد المتسم بفجاجة الضمير والافتقار للقدرة على التحكم في الهوى وامتلاك الأنا الاعلى كدستور شخصي ييسر له الانخراط في صياغة الدستور المجتمعي القائم على الحب الجماعي وصنع الحياة المشتركة وبناء الرقي الحضاري للإنسانية. وإننا أمام حالة إنسانية يحكمها الإفك الذي هيمن على العديد من القطاعات والمعاملات الرسمية وغير الرسمية، فقد نجد صاحب التصرف الغشاش على رأس بعض المراكز ذات الأهمية القصوى والمستوى الرفيع ليختلس الأموال، و ليستولي على الممتلكات وليتلاعب بالبضائع، ويطمس الحقائق، ويتلذذ بالمشي على أنقاض الناس أو يتلذذ بتعذيبهم، باسم القانون مرة وتحت يافطة حقوق الإنسان مرات أخرى، وقد نراه يحول السكر إلى عسل ويتلاعب بالزيوت ويخلط الحليب بالماء ويضيف المواد الحافظة في الدقيق، وأيضا يضيف مواد لصنع الكثير من الخبز بقليل من الدقيق.... ولعل من أهم العوامل المنتجة لهذا النوع من الناس هي عوامل بنيوية تسمى بالتصور البنيوي النفسي، والتي تظهر في الغالب من خلال اعتلال التوازن أو انعدامه بين عوامل الإثارة والكف على مستوى الجهاز العصبي، أو ما يسمى لدى السيكولوجي الإنجليزية " أيزنيك"1 "تعثر اكتساب الاستجابات الشرطية الضرورية للحياة الاجتماعية" مما يبقيه ضعيف الوجدان، لكن هذا التفسير غير مقنع بشكل قاطع رغم لمعانه، إلا أن الافتراض الذي يحتاج إلى التمحيص في هذا الصدد هو أن صاحب التصرف الغشاش هو تعبير عن فقدان المناعة القيمية داخل الحياة المعاصرة التي تفتك بهذا الفرد وتجعله عاجزا عن تمييز هويته الذاتية، والرمي به في براثين الفساد السالب للمرء كرامته، ويعدم كينونته ويحوله إلى مجرد أداة يستعمله تحت وهم التملك والحصول على الوجاهة، وذلك بتوظيفه في الغش بعد تربيته عليه. إن معالجة التصرف الغشاش تتطلب تحليل الغش في إطار دينامية الاضطراب الذي يطال المجتمع. وهذا أمر أساسي لصياغة مناهج وبرامج علاجية وتأهيلية وتكيفية توجه بصيرة عميقة مكثفة وفق مبادئ تحليل النفس الفردية والجمعية، وتنتقل بالفرد من خانة الفرد ككيان بيولوجي إلى رحاب الشخص ككيان سوسيوثقافي قادر على امتلاك ما يسميه السوسيولوجي الفرنسي "ألان تورين" "الذات الفاعلة"3 المتطلعة إلى الكينونة بدل الانحصار بالتملك. إن الانسان عامة، وصاحب التصرف الغشاش بالخصوص، في حاجة إلى سياسة للتمكين الإنساني عبر إطارات معرفية وعلمية وتقنية ممتثلة لمستجدات البحث العلمي، وبالتركيز على توسيع الفرص وفتح الأفاق المتعددة نحو التعلم الذاتي والانتاج على قواعد الجدل كما يقول الشاعر3: جادل فإنك قد خلقت مجادلا ******* ومن لم يجادل يستوي بالبغل. وإعادة المصداقية لمؤسسات المجتمع وأجهزتها لكي يستطيع صاحب التصرف الغشاش خاصة، وكافة الناس من الثقة فيها واحترامها، والاستعداد للدفاع عن وجودها والاعتزاز بعطاءاتها، بدل القول بهيبتها والخوف منها الذي يدفع إلى التمرد عليها، ولو عبر الآليات التحايل على العيش. إن الأمر يحتاج إلى تمكين الأفراد والجماعات من التبصر الشخصي والمعنوي المؤمن للانتقال من قاعات الانتظار إلى ساحات الانخراط الفعال في قيادة المركب الإنساني نحو الحضارة. 1. Eysenck, H. J. (1998). Intelligence: A new look. Piscataway, NJ, US: Transaction Publishers. 2. Touraine, A. (1993) . Critique de la modernité. Revue française de science politique . 3. علي الهويريني،شاعر سعودي، قصيدة "قال الحكيم"، 2017. * باحث في علم النفس الجنائي -المعهد الملكي لتكوين الأطر.الرباط