"يبدو أن أصعب المعضلات التي تواجه عالم الاجتماع هي كيفية فهم وبناء المجتمع، وعقلنة أنماط السلوك، من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، لكن كلما ذكرت كلمة "الحداثة" يتبادر إلى الذهن صورة المجتمع الغربي". فهل تكون الحداثة مرحلة مطابقة للمجتمع الغربي ويكون وحده صورتها الممكنة؟ في الحقيقة للقول سياقاته الخاصة، فقد تميزت العصور القديمة والوسطى بغياب مفهوم الدولة بشكلها الحالي، حيث انتشرت مسميات مختلفة منها، الإمبراطورية، والسلطنة، والممالك، إلا أن أغلب الممالك التي حكمت في العصور الوسطى في أوروبا حكمت باسم الدين، كفرنسا على سبيل المثال، وكان لسلطة الكنيسة أثر سلبي في التحكم بالدولة وسياستها، وإمكانياتها في عزل الملوك والأمراء عن طريق سحب الثقة منهم وفصلهم من الكنيسة، مما يعني افتقادهم ثقة وطاعة الرب الذي تمثله الكنيسة، فانتشرت الحروب الدينية لمدة ثلاثين عاماً، وانتهت في عام 1648 بتوقيع اتفاقية "وستفاليا" في أوروبا، واضعة حداً للحرب الدينية وسلطة الكنيسة على الحكم بإنشاء نظام جديد للدول في أوروبا عرف فيما بعد باسم الدولة الحديثة. "وبهذا تكون الحداثة كحدث لها سياقات أوروبية زمنية ومكانية خاصة، لكن ألا يمكن لها أن تتحقق خارج هذا السياق؟". يمكن القول ببساطة، تحمل قدرا لا بأس به من البراءة، إن الحداثة هي التوافق على أُسس عيش مشتركة بين المجتمع الواحد، لكن هذا التوافق مبني على شروط موضوعية كشرط للحديث عن الحداثة، هذه الشروط التي ترسمها الخطابات السياسية باستمرار، وتعلن عنها الشعارات (نضج الفكر، الديموقراطية، والحرية، المساواة، العدالة، الممارسة السياسية، النضج والوعي السياسي...)، حمل السياسي هذه الشعارات وذهب من خلالها للبناء، لكنه لم يستطع بناء المجتمع، ولم يستطع تحقيق هذه الشروط ومقومات الحديث عن الحداثة، هذه المعضلة وقفت عائقا أمام كل السياسيين، والتيارات الحزبية في بناء مجتمع على هذه المقومات، وبدلاً من الاستمرار والمحاولة سعوا إلى بناء الدولة، وأصبحت الدول كبناء أخذت الشكل الحديث من الخارج، أما من الداخل فهي ما زالت بدائية، يعيش فيها المجتمع بعيدا كل البعد عن صورتها، حيث سلطة القبيلة تمثل السلطة الأعلى، وقوانين مشايخها العرفية هي الأقوى من قوانين الدولة، فتشكلت لنا سلطة نفوذها أقوى من سلطة الدولة. "وهي معضلة الحديث عن إمكانية تحقق الدولة الحديثة". لكي نفهم أكثر سبب المشكلة أستحضر ما ذكره عبد الله العروي في مؤلفه "مفهوم الدولة": "إن كل تفكير في الدولة هو تفكير بشكل من الأشكال في السلطة، كما أن التساؤل عن الدولة هو تساؤل في أبعاد ثلاثة: الهدف أو الغاية من الدولة، ثم وظيفة الدولة، وضرورة قياس مراحل نموها وتطورها في علاقتها بالمجتمع". كما أن التفكير في الدولة كظاهرة اجتماعية، يجب أن يكون تفكيرا رافضا لتصور الفرد خارج الدولة وتصور الدولة خارج المجتمع، وأي فصل بينهم يجب أن يكون على أساس تؤطره غاية الفهم من أجل الإدراك والعرض والتفسير فقط. وهو الشيء الذي لم يفهمه رجل السياسة بعد. كيف يمكننا أن نبني دولة حديثة دون أن نبني مجتمعا حديثا؟ إن المجتمع الحديث هو الذي يبني دولة حديثة، وليست الدولة الحديثة هي التي تبني المجتمع الحديث، فمعضلات التحديث التي واجهها السياسي جعلته يهرب من مسؤوليته الاجتماعية تجاه مجتمعه إلى مربع أكثر ضيقاً وذاتيةً، وهو مربع السلطة والبحث عن السيطرة من أعلى لا من أسفل، وهذا ما أفقد الخطابات السياسية مشروعيتها. "وهنا يكون سؤال بناء الحداثة في المجتمع سياق الحديث عن الدولة الحديثة" ماذا نقصد بالدولة الحديثة؟ وكيف تكون الحرية والديمقراطية وغيرهما من المفاهيم سياقا ممكنا للحديث عن الدولة الحديثة؟ الدولة الحديثة "إن الدولة الحديثة هي شكل الدولة أصلا" تعتبر الدولة منذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر "وستفاليا" إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيَّاً، حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن، وبالرغم من اعتبار الدولة مؤسسة عالمية ضرورية، فإن تعريفها واسع ومتنوع لا يكاد يجمع عليه اثنان، بل يمكن أن يُقال إنَّ إيجاد تعريف واحد لمفهوم الدولة هو صراع إيديولوجي بحد ذاته، كون التعاريف المختلفة ناتجة عن نظريات مختلفة لوظيفة الدولة، مما يولد استراتيجيات سياسية ونتائج مختلفة، فمصطلح "الدولة" يشير إلى مجموعة من النظريات المختلفة والمترابطة والمتداخلة في كثير من الأحيان حول مجموعة معينة من الظواهر السياسية. لكن يمكن أن يكون هناك حد أدنى للحديث باستحضار المفاهيم الممكنة: الدولة، الفرد، المجتمع. وأعود إلى نظرية العقد الاجتماعي لتحقيق هذا المفهم ربما استجابة للدعوة التي وجهها إلينا العروي. تنطلق نظرية العقد الاجتماعي في محاولتها لفهم أصل نشوء المجتمع المدني، ومن ثم نشوء الدولة، من الفرضية القائلة بأن نشوء المجتمع لم يكن طبيعياً، بل اصطناعياً، حيث كان الناس يعيشون في الحالة الطبيعية (ما قبل الدولة) من دون قوانين تنظم حياتهم، مما أدى إلى انتشار الفوضى، وانتهاك الحقوق الاجتماعية، مما دفع الأفراد إلى الاتفاق على ميثاق ينظم شؤونهم، وبموجبه يتخلون عن بعض حقوقهم الطبيعية مقابل نوع من التنظيم. يقول جون جاك روسو في كتابه "نظرية العقد الاجتماعي": "فحتى الأسرة وهي أقدم الجماعات البشرية تكون حاجتنا إليها اتفاقية لأجل محدد، ذلك أن الأبناء يرتبطون بأبيهم للمحافظة عليهم ورعايتهم، وما إن تزول هذه الحاجة حتى ينحل ذلك الرباط الطبيعي، ويعفى الأبناء من واجب الطاعة نحو آبائهم، كما يعفى الآباء من التزام الحماية والرعاية، فإذا بقيت مع ذلك الأسرة قائمة واستمرت فما هو إلا نتيجة اتفاق حر ورغبة مشتركة في الإبقاء عليها". وعلى ذلك لا يمكن تصور وجود الدولة السياسية خارج رغبة الأفراد وحاجتهم إليها، وتكون ذات مصداقية إذا اجتمعت إرادتهم على مشروعيتها وطريقة استعمالها وغايتها وهدفها، ولن تكون صالحة ما لم تحقق حياة اجتماعية أفضل من حياة العزلة السابقة. وليست حياة الفطرة، في نظر روسو، أسعد حالة للحياة البشرية، بل العكس لأن الجماعة وحدها هي التي ترتقي بالإنسان ومعنوياته، وترتقي بتفكيره ومشاعره فتحل العدالة والفضيلة مكان الغرائز والشهوات وتحكم العقل بالتصرفات. إن لحظة الانتقال من حالة اللادولة إلى حالة الدولة هي لحظة بناء المجتمع المدني، وهو وحده يجسد فكرة قيام الدولة، كما أن فكرة المجتمع المدني في نظرية العقد الاجتماعي فكرة سياسية بالأساس نحو وعي وإرادة حرة في خلق قانون سيادي يضمن الحق في ممارسة الحقوق الطبيعية على الأقل، وبالتالي فهي فكرة تجسد المشاركة الفعالة والحق المدني، وتطور هذا الوعي هو تطور في اتجاه بناء المجتمع. إن فكرة المجتمع المدني هي الكاشفة عن لحظة الانتقال. "ثم إن شرط الحديث عن الدولة لا بد أن يتم في سياق المفاهيم التي أشرنا لها سابقا". "فكيف يكون القانون، الديمقراطية، المجتمع المدني، البيروقراطية، السيادة... وغيرها من المفاهيم سياقا ممكنا للحديث عن الدولة الحديثة؟" الدولة/ المجتمع المدني/ الديموقراطية يعد المجتمع المدني أحد مظاهر الديمقراطية، ونتيجة من نتائجها، وعلامة من علاماتها، وإذا كانت مؤسسات المجتمع المدني ذات تأثير كبير في المحيط السياسي لدولة ما، دل ذلك على مقدار ما تؤمن به هذه الدولة من ديمقراطية، في حين إذا كانت هذه المؤسسات تفتقر إلى التأثير الواضح في مجريات الحياة، السياسية والاجتماعية، للدولة، دل ذلك على مقدار ما تؤمن به هذه الدولة من حظ قليل بالديمقراطية وأهلها، مادامت الديموقراطية تعني المشاركة الفعالة في الحقل السياسي وترشيد السياسيات العامة. إن ارتباط الديمقراطية بالمجتمع المدني ثم بالدولة، باعتبارها الضامن لوجوده، جاء في سياق ظهور حاجيات جديدة مثل: حماية الحريات والحقوق الجماعية والفردية، فتوسعت منظومة المشاركة الاجتماعية والسياسية، وتصاعدت المطالب المنادية بتغيير قواعد ممارسة السلطة. كما أفضت إلى تبلور تعبيرات مدنية متنوعة، فتغيرت العلاقة بالسلطة، وبكيفية إدارة الشأن العام، والتعاطي مع الروابط الاجتماعية الجديدة، يضاف إلى ذلك تنامي الاحتجاجات المواطنة خارج الأطر السياسية التقليدية للديمقراطية، التي اتخذت من الشارع والساحات العامة ووسائل الإعلام التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة فضاء لها. كل هذه المؤشرات تستدعي إعادة النظر في جغرافية الأدوار والوظائف التي يؤمنها المجتمع المدني عموما، بين تدعيم تماسك الفئات الاجتماعية أو إذكاء التوترات بينها، والتفاوض بصيغ مختلفة حول توفير الشروط الضرورية لتأسيس الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها وتجديد ممارستها، وذلك في مراحل الانتقال الديمقراطي بشكل خاص، حينها فقط يمكن الحديث عن الدولة الحديثة، لأن ظهور هذه المفاهيم في سياق الدولة الحديثة كان تمهيدا وتجسيدا لفكرة النهضة والإصلاح الديني والتنوير وسيادة روح القانون، من خلال إرساء قواعد المجتمع المدني، الذي يكون فاعلا في ممارسة هذه المفاهيم ونقلها من التنظير إلى التجسيد. إن النقطة الأساسية الأخرى هي أن بناء مفهوم المجتمع المدني هو في الوقت نفسه إعادة بناء المجال السياسي، على أسس غير دينية ترتبط بالمجتمع نفسه بشكل وضعي، وليس بتكليف إلهي، وهي لحظة انتقال من نظرية الحق الإلهي إلى نظرية السيادة الشعبية، وهو تطور للفكر الاجتماعي في سياق الفكر السياسي الحديث والحداثة السياسية، التي أعطت دولة الحداثة التي نتحدث عنها أصلا. وهذه الأفكار تتجسد في فكر هوبس أيضا، فكل سلطة مدنية يجب أن تكون انعكاسا لأصل مجتمعي دنيوي وليس إلهي أو ديني، دفاعا عن المادية والتاريخ. الدولة والبيروقراطية يقول ماكس فيبر حول البيروقراطية والإدارة في الدولة الحديثة: "إن الخصائص نظام إداري وقانوني قابل للتغيير بواسطة التشريع الذي تتوجه إليه أنشطة الهيئة الإدارية الناظمة أيضا بلوائح منظمة، ويفترض هذا النظام امتلاكه سلطة ملزمة، ليس على أفراد الدولة، أي مواطنين فحسب، ولكن أيضا وبدرجة كبيرة على كل ما يقع ضمن إقليم سيادته". وبالتالي تكون البيروقراطية مدخلا لتنظيم الدولة ككل. لعل أحد أهم سمات البيروقراطية في الدولة الحديثة هو العقلانية التي وصفها بها فيبر، والتي تعضد من سمة الاستمرارية والاطراد، بل تؤكد على قوتها التشعبية، فهي تنظم حياة المجتمع المدني من الميلاد وحتى الوفاة، وكل ما يتعلق بتفاصيل حياته. وبالتالي فإن فكرة البيروقراطية تجسد فكرة الدولة الحديثة. هل يتحقق شرط السيادة أمام الدولة الحديثة؟ نسائل اللحظة سؤال الحق أمام الدولة في استخدام العنف المبني على فكرة السيادة المطلقة، فإذا كان من حق الدولة أن تحتكر العنف لتحمي الأفراد من الأفراد فمن يحمي الأفراد من عنف الدولة؟ تكون العقلانية والنضج السياسي، الذي تحدث عنه الراحل جسوس، السبيل لحل هذه المعضلة. ماهي مظاهر سيادة الدولة إذن؟ الأول: المظهر الخارجي: ويكون بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شؤونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول وحريتها بالتعاقد معها، وحقها في إعلان الحرب أو التزام الحياد. والسيادة الخارجية مرادفة للاستقلال السياسي، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة لأي دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول صاحبة السيادة، فتنظيم العلاقات الخارجية يكون على أساس من الاستقلال. تساؤلات مشروعة هل تتحقق سيادة الدولة الحديثة في ظل التحولات العالمية اليوم؟ هل تكون الدولة الحديثة مطابقة لدولة التعاقد؟ هل يتحقق المطلب الديموقراطي في الدولة الحديثة اليوم؟ هل يستمر فينا مطلب الحداثة والتحديث؟ متى يفهم السياسي أن بناء الدولة يتم من خلال بناء المجتمع؟