لم يكن النقد في أي مرحلة من مراحله دليلا على البغض والحقد والكراهية، ولن يكون، إلا إذا تجرد عن مهمته الحقيقية، وصار الهدف من ورائه جمع الدرهم والدولار، وإرضاء جهة معينة، ونيل الشهرة في الميادين. عندها؛ سيفقد الإبداع رونقه، ويذبل جماله، لأن النقد ضرب من الإبداع، بل هو الإبداع عينه، وتنتشر "البروباغندا النقدية"، ويصير النقد في المخيلات الثقافية مرادفا لكل المدلولات السلبية، وخصومات محتملة، وأحقاد دفينة. كثير من الذين لا يفهمونني، أو لا يريدون أن يفهموني، ولا يستظلون معي تحت مظلة فكرية واحدة، يسألونني لماذا تبغض العرب؟ فأبتسم معرضا عن الإجابة، وما ذاك إلا لأني أتناول الموضوعات المسكوت عنها في القضايا العربية وغيرها، وأحللها بطريقة معمقة غير مسبوقة، محاولا قدر الاستطاعة إعطاءها بعدا علميا حياديا. فإن كان هذا هو الحقد والكراهية في قاموسهم، فأطمئنهم بأني حقود حسود لجوج. فمن شاء فليقبلني، ومن شاء فليرفض، فليس لي إلا الكتابة، ولكم حرية التأويل. أقول هذا، لأن الموضوع الذي نحن بصدده: "الحراطين وأسئلة الانتماء العرقي" قراءة نقدية بمعناه العلمي المزعج، وليس أكثر إزعاجا من أن تدخل في أعماق شريحة كبيرة لم تكلف نفسها عناء البحث عن حقيقتها، فهي تكرر ما أملاه عليها الآخر من أجل خنق التاريخ، أو دفنه حيا. إن التزوير الثقافي خطر، وخطورته في كونه نسخا مبرمجا، حيث يستمر تأثيره دون شعور. وعندما ينبثق النقد للكشف عن هذا التزوير التاريخي، فإنه بذلك يحرك سكونا ذهنيا، وينفخ روحا في تماثيل مدبلجة منذ قرون. أقول هذا كله استباقا لردود الفعل التي سأرى، فأنا أحس بذلك وقد تعودت عليه حتى صرت لا أحس به أحيانا. هذا وقد اتسمت قضية الزنجية في الفكر المعاصر بطابع التوتر الذي يتدلى في التمزق بين الماضي والحاضر. فما يزال الإنسان الزنجي يتململ بين الحاضر بواقعه المتحضر، والماضي المتخلف في سياقه التاريخي والثقافي، وهذا التردد بكل أبعاده يعكس الوضعية السيكولوجية. وجدير بالذكر أن القضية الزنجية تمثلت في طرق متعددة، ولم تخل منها ثقافة من الثقافات، إلا أن التمثيل العربي حظي بنصيب الأسد، بحيث نجح في ترسيخ الصور النمطية عن حيوانيته وشهوانيته المفرطة، وبلادته، وتشويه خلقته... بإمكاننا أن نضع بصمتنا حتى على التوتر والقلق الزنجي في محاولة الانتماء إلى الزنجية، إذ يتحرج الكثير منهم نت إلصاق هذا الوصف بهم. وذلك أن مفهوم الزنجي في قاموس البيض قديما بل وحديثا يعني الجاهل أو العبد، أو البليد الذي لا يفهم، ولم يخلق إلا لخدمة البيض. وهذه الصورة النمطية ما تزال حية حتى في العقول المثقفة، فكثيرا ما يصفون الأسود بالزنجي عند الانفعال، قصد الوقوع فيه. فكلمة الأسود عند هؤلاء الفاهمين ترادف كل ما يستقذر ويستهجن، فذلك يقرن الزنجي بالحيوان، أو بالعلج، أو بالعبد الأسود، أو يا ابن السودان. وأكثر من ذلك، فالسود في المخيلة العربية يأكلون بعضهم بعضا؛ فقد أشار المسعودي إلى أن من السودان أجناسا محددة الأسنان يأكل بعضهم بعضا، وأكد ذلك القزويني، والدمشقي، ونقله ابن بطوطة في حكايته عن الملك منسى موسى. والحال أنّ هذا الأمر يدعو إلى إعادة النظر في تاريخ الزنوج بأقلام الصحوة العلمية المعاصرة، من حيث أنها مستقلة من حيث خصائصها الطبيعيّة والثّقافيّة. وهذا ما دفعني إلى الحث على إحداث علم "افريكمالوجيا"؛ إذ لم يعد ممكنا البحث في الطبيعة الوراثية لما شهدته القارة من التداخل بين مختلف الأعراق على امتداد العصور. أجل، أعلم بأنه لا يوجد شعب واحد خالص في العالم عرقيا، فجميع الشعوب مختلطة عرقيا، فالقارة السمراء، أو الزنوج من أكثر شعوب العالم تختلط فيهم الأعراق من جميع الأجناس. والحق أن الإسلام فتح آفاقا جديدا أمام الزنوج، وأتاح لهم فرصة الاندماج في المجتمعات العربية في العهد النبوي، ورفع من كان عبدا بالأمس إلى رتبة الوزارة، غير أن هذا الشرف لم يدم طويلا أمام غليان لهب القومية العربية، فقد اختفى جميع الزنوج المسلمين عن الحياة العامة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم، وقُدِّم عليهم حديثو العهد بالإسلام لأنهم كانوا شرفاء من ذوي النسب العتيق. قبول الأسود في المجتمعات العربية كإنسان لم يكن أمرا هينا، فثمة مواقف لم تنس تماما، بل بقيت راسخة مكبوتة في اللاوعي، وكثيرا ما تزهر كلما سنحت الفرصة للظهور. ولا نستغرب كثيرا إذا وجدنا بعض أرباب العمائم وقعوا فريسة للمتخيل المكبوت عن الزنوج. ألم يستغرب الصحابة رضوان الله عليهم صلاة النبي صلى الله عليهم على النجاشي لما نعاه جبريل إليه فقالوا "يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة"، كما نقله القرطبي. أضف إلى ذلك قصة أبي ذر مع بلال، وقصة أسماء مع عمر في قضية الهجرة إلى الحبشة، وقصة وحشي. والأمثلة كثيرة جدا، وليس هذا محط الرحال. بناء على كل ما سبق، يجدر الرجوع إلى المصادر التاريخية للبحث عن مدلول كلمة الحرطاني، لأن الذين يقولون بعروبة الحراطين لا يجنحون إلى المنهج العلمي المتعارف عليه في علم الأنساب، فلا أهمية لذلك عند من يسعى إلى حصد الأصوات الانتخابية، فليس هناك توجه عام نحو نفي زنجية الحراطين، أو تأكيد-ولو برواية ضعيفة-عروبتهم. فالحراطين أو الحراثين كما ورد في كتاب المؤرخ المغربي علال الفاسي "منهج الاستقلالية"، حيث يري أن طاء الحراطين وثاء الحراثين إنما هما قراءتان للصوت نفسه،" هم سود ينحدرون من السكان الأصليين للمنطقة سواء كانوا شعب البافور أو الزنوج. وقيل كلمة تطلق على الأحرار من السود، وذهب بعضهم إلى أنها كلمة أمازيغية محرفة عن كلمة أحرطن وتعني الخلاسي. ويقال إن أصل الكلمة أحرار طارئين أي الذين حصلوا على حريتهم حديثا. والبعض يرى أن أصل الكلمة من الحراثين، وهو لقبٌ لقّب به السود القادمون من دول أفريقيا الوسطى إلى شمال أفريقيا حيث كانوا مزارعين عند ملاك الحقول والبساتين من ذوي البشرة البيضاء". وذهب المؤرخ المغربي الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" إلى أن: "لفظ الحرطاني، الذي معناه العتيق، وأصله الحر الثاني، كأن الحر الأصلي حر أول، وهذا العتيق حرثان، ومع كثرة استعماله أصبح الحرطاني على ضرب من التخفيف". ومن المفيد أن نستأنس بالأنشودة الشعبية الموريتانية التي تقول إن الحراطين "أولاد عم الشياطين". ومن المعلوم تاريخيا أن الزنوج هم الشعب الوحيد الذي صورته المخيلة العربية بالحيوان، وخلعت عنه الطبيعة الإنسانية. فقد أفتى الكثير من العلماء السلطان ملاي إسماعيل جواز تجنيد الحراطين لأنهم سود، والسود عبيد، ورفض البعض مثل العلامة جسوس باعتبارهم أحرارا، فسجن، ولم يتراجع حتى أعدم. وعلى الرغم من كل التفاسير التي انصبت على كلمة الحراطين إلا أن الموضوع يبقى بجاجة إلى بحث أعمق، أما مجرد إطلاق صفة "العرب السود" أو انتسابهم إلى العرق العربي جزافا، فإنّه لا يكفي في إثبات العرق عقليا أو واقعيا أو علميا كمحدد أساسي للانتماء، وإلا فيستطيع كل فرد أن ينتمي إلى أي عرق يشاء. فقد شهدت القارة ثورة الانتماء إلى العترة البنوية لدواعي سياسية، كما سعى الكثير من ذوي البشرة البيضاء إلى ادعاء العروبة، وحجتهم الدامغة بضعة أبيات، وبعض الأساطير التي ظلت تستمد شرعيتها من مداد كهنة المساجد لكي يكفل لهم السيطرة والتغلب على الضعفاء تحت ظلال الدين. وهكذا يمكنك أن ترى أن كلمة الحرطاني لا تمت بأدنى صلة للعروبة، فهي في فحواها، لا تدل-وفق الاستعمال المتعارف عليه-على أكثر من عبيد في السابق. وعليه، فهم مجموعات زنجية تتميّز باستعمال اللهجة الحسانية، وبالتالي، فلا معنى للقول بعروبتهم في الانتماء العرقي سوى إرادة كسب الأصوات الانتخابية، والتلاعب بالتاريخ. ولو صح جدلا أن الحراطين من العرب، فثمة تساؤلات تطرح نفسها: أولها: إلى أي القبائل العربية ينتمي الحراطين؟ وثانيها لماذا نامت أعين المؤرخين عن الكشف عن أصول الحراطين العربية؟ فالمصادر الموريتانية التي ترجمت للبيضان، وذكرت نتاجاتهم الشعرية والثقافية، لم تكد تخطئ قبيلة بيضانية واحدة. وثالثها: لماذا بعض الحراطين يحملون الألقاب نفسها التي يحملها الكثير من الزنوج، فمثلا هناك حراطين يلقون ب"جاكيتي" ودمبويا"، وغيرها، وهذه ألقاب زنجية بحتة. رابعها: اتفق جميع المؤرخين على أن الحراطين كانوا عبيدا في السابق، فكيف يمكن لمن كانوا بالأمس القريب عبيدا أن يصبحوا عربا سودا؟ وأخيرا، يبقى هناك شيء محرج جدا خلف استعراب الحراطين أو عرب سود، إنه إشارة إلى ذلك الماضي المؤلم، وهي إشارة طالما أفزعت حركة التعريب. والحق الذي لا مناص منه هو أن الحراطين ما يزالون مستعبدين، خاصة في المناطق البدوية والأماكن البعيدة عن العاصمة. فالعبودية ما زالت مستمرة وبقوة، حتى القلة التي رحلت إلى العاصمة ما تزال أنشطة معظمهم منحصرة في المهن الصغرى التي تجعلهم في تبعية مستمرة، مما يكرّس تواصل النظرة الدونية إليهم، مثل الحراسة، والخدمة في البيوت، والسياقة والزراعة. وإن أخطر التبريرات التي يرددها بعض إخواننا البيضان هي القول بأن الرق موجود عند جميع الشرائح الموجودة في موريتانيا، وليس خاصا بالمجتمع البيضاني، فهذا تبرير يشبه تبرير مريض يرفض الذهاب إلى المستشفى، لأن داءه منتشر أصيب به الآلاف من البشر، فليس فيه وحده، ولا شك أن هذا جهل غير مبرر. لا أنكر أن العبودية ممارسة قديمة في أغلب مجتمعات غرب أفريقيا، حيث كانت تجارة الرقيق في أوج ازدهارها حتى وقت ليس بالبعيد، إلا أنه لم يبق منها إلا آثارها، التي لا تظهر غالبا إلا في الأحوال الشخصية، مثل فلان ليس كفؤا لنا، لا يؤم الناس إلا القبيلة الفلانية، جد الفلان كان عبدا لتلك القبيلة. وما تزال بعض القبائل الزنجية في موريتانيا تفرق بين مقابر العبيد والأحرار، ولكن لا يوجد لدى الزنوج من يخدم مجانا كما هو حال الحراطين في القرى البدوية، والأماكن النائية حيث يعملون بلا مقابل. والأدهى أن بعض المثقفين من الحراطين ينكرون هذه الظاهرة التي لا تخفى حتى على الأعمى، استبدلوا الحرية بالمناصب الزهيدة. يجب على الحكومة التدخل لإنهاء العبودية، ولكن كيف إذا كان كبار الموظفين وأصحاب العمائم يملكون الآلاف من الحراطين في قراهم ورثوهم عن الآباء والأجداد؟ ليس ثمة طريقة أفضل للقضاء على العبودية إلا التعلم. بالعلم فقط يرفض الإنسان العبودية، ويطالب بحق الحرية. فالحرية حق للجميع. *شهير ب"ضيف الله الغيني"-شاعر وكاتب وروائي باحث متخصص في المالية الإسلامية وفي إدارة الأعمال-بوسطن–الولاياتالمتحدة [email protected]