عشنا في بيت دافئ متدثر بأغطية الحب، باذخ بصور الجمال، متضوّع بنسائم الألفة والأنس. تنمو فيه خلايانا بشكل متوازن متغذية بروح الجماعة، مكللة برحيق البساطة. نصوغ فيه نسيجا بديعا لأحلامنا الطفولية البسيطة، وننقش فيه بكل أصابعنا الصغيرة تمثالا لذكرياتنا الجميلة، ونرسم آمالنا الكبيرة بأسئلتنا المشتركة المتشابهة، وبانتظاراتنا الحالمة البريئة، وبتوقعاتنا المحتملة للآتي المتواري وراء ستار الغيب. كان بيتنا حيّا ضاجّا بأهله، مزدانا بشغب صبيانه، مكتظّا بالمتعة واللذة والحلم المتواصل. تجتمع فيه القلوب قبل الأجساد، وتلتحم فيه الأنفاس والأرواح والنظرات والآمال من دون حواجز. نتقاسم الألم والفرح والأحلام. نقرأ آيات الوجوه ونسمع نبضات القلوب ونصغي إلى همسات النفوس. كان كل واحد منا زجاجا شفافا كشّافا لدفاتر الأسرار التي يغلفها جدار الجسد. ينشر السطور التي تضمرها ثنايا الصدور، ويفرغ كل ما تراكم في جراب قلبه بأفئدة أهله وذويه. كان كل واحد منا جدارا سميكا صلبا يستند إليه كل تائه أو حائر، ويحتمي به كل محتاج أو ضال. كنا جميعا أيادي رحيمة بيضاء ممتدة في السراء والضراء، تمسح الدمعة وترسم البسمة وتشحذ الهمة. كانت أمتع اللحظات التي لا تنسى هي تلك اللحظات الجميلة التي تلتئم فيها أجسادنا الصغيرة تحت سقف واحد بين أحضان الأسرة ووسط مناهل الرحمة ومراجع الحكمة. نرتشف منها أحلى الحكايات وأغرب المرويّات، ونتعرف بفضلها على شخصيات واقعية قديمة أو خيالية أليفة، نتضامن معها ونعيش تجاربها ونتقاسم معها الحب والحلم وقيم الوجود الإنساني المشترك. كانت جدتنا ذلك اللسان الرشيق المبدع بإسهاب آسر غير ممل، وذلك النهر الرقراق الذي لا تنتهي سيول المتعة من معينه الخصب الفوّار المتدفق. تقص علينا أحسن القصص، وتروي مخيلتنا بمياه الصور الذهنية والحكايات العجيبة المثيرة التي تخلق فينا فضيلة السؤال وتحثنا على البحث في خبايا هذا الوجود الواسع الذي يحتوينا. نستغرق ساعات طوالا ونحن نستحمّ في حوض ذلك الخيال الملهم، ونتراشق برذاذ المتعة، ونزرع في أعماقنا بذور الجمال، ونغرس في نفوسنا شجرة الرغبة في الحياة. في جوف الليل نخاصم شبح النوم ونرفض الاستسلام لنداءاته الملحة وطرقاته المتكررة التي تود اقتلاعنا قسرا من تربة الحكاية المؤنسة، وتتعمّد حرماننا من مسلسل الخيال الأخاذ. نقاوم مغناطيسه بشراسة، نتردد كثيرا في الاستجابة لتحرشه المُستمر المُصر، ثم سرعان ما تضعف مناعتنا وتخذلنا حواسنا، فنغمض عيوننا الصغيرة للانتقال إلى شاطئ النوم الرحيم. تظل جدتنا تطلّ على براءتنا الناعمة بعينيها الناعستين ونحن نودع عالم الحضور الواعي. تتابع عن كثب طقوس ذلك الصراع المحتدم في ثنايا عقولنا المستسلمة للغياب. تغشانا سكينة الروح، ولكن رنين تلك الحكايات يظل يتردد في باطن الآذان، يشاغب في دواخلنا لينسج أحلاما لذيذة تبيت معنا الليل كله، وتحملنا عاليا في سماوات الخيال وفي عوالم مبهرة مدهشة نأبى مفارقتها أو الانفصال عنها. ولكن ماذا حدث اليوم؟ وما اللعنة التي حلت بنا؟ صار بيتنا اليوم حزينا، يحن لماضيه المجيد، ويئن أسفا وأسى وحسرة. يشكو جحود أبنائه، ويرثي تاريخا حافلا بالجمال والحب والعطاء. جدران باردة بلا روح. عمران بديع بلا حياة. هندسة مثيرة ولكنها لا تغري نفسا ولا تحرك شعورا. أثاث وثير مستورد لم يعد له ذاك البهاء. انشغلت عنه العيون وانصرفت عنه الأذهان وغفلت عنه الأفئدة. صار ذلك الفضاء الواسع الحميمي سجنا ضيقا لا يُطاق، فضاء تُحبس فيه الأنفاس طواعية، ويُثرثر فيه الناس خفية. انفرط عقده وتلاشت لحمته وتحول إلى أرخبيل بشري زائف غارق في الصمت الموحش، تعشش فيه الكآبة وتجثم في زواياه سكينة اللحود. تمارَس فيه الأشباح البشرية طقوسا غريبة لعبادة وجودية جديدة؛ عبادة حداثية تقدّس إلهاً آلياً، ولا تعترف بالآخر إلا حينما يكون ظلا مرئيا أو كائنا رقميا. لا تتواصل فيه الأنفس الغارقة في مسبح الخيال إلا مع جزر مجهولة مبثوثة في محيط افتراضي شاسع ممتد ليس له هوية محددة أو وجود حقيقي، ولا يكشف عن امتداداته المتناسلة إلا بتكريس أوهام الانتماء لعالم جديد كليا، أو بادعاء مشاركة الهموم والقيم الإنسانية مع الجميع بعيدا عن الحدود الجغرافية واللغوية والعرقية والعقدية. وجدت نفسي في مفترق الطرق، فعشت تمزقا حقيقيا وصراعا حادا وأنا أحاول تأمل واقعي الجديد وتحليل ما يجري على مرأى من عيني. أردت أن أكون أبا منفتحا يدعي انتماءه لهذا العصر المنفتح على كل الرياح القادمة والزوابع الممكنة. اقتنيت كل لوازم هذا الانتماء حتى لا يتهمني أبنائي بانتهاء مدة صلاحيتي أو بالانتساب لنموذج بشري متجاوز عفت عنه يد الدهر وانمحت آثاره واندثرت رسومه وحان أوانُ نهايته. حاولت أن أنظر بعين الانتماء إلى الماضي الممتد في أعماقي، وبعين الانفتاح على واقعي الجديد الذي يحاصرني من كل جانب. أردت أن أقف في موقع التأمل حتى لا أنساق مع أية جاذبية. حافظت على وسطيتي واعتدالي حتى لا أسقط في مستنقع الصراع المألوف مع الأجيال والأذواق والقيم الناشئة التي تتم عولمتها أمام أعيننا بكل الوسائل. وبالرغم من كل محاولات التوفيق والانفتاح، أحسست أن تيار الضغط العالي الحالي لا يناسب طاقة التحمل في مُولّدات الصبر في كياني. صرت ضائعا في متاهة لا مخرج منها. صرت زورقا منهكا مترنحا وسط خضم أهوج تتلاعب به الأمواج العاتية وتتقاذفه الرياح الحمقاء. أرى كل حبال العيش المشترك اليوم زائفة هشة وتكاد تنفلت من كل مرساة. يمزّقني الشعور المدمر بالعجز وأنا أرى أبنائي وقد زهدوا في كل شيء، وانفصلوا عن محيطهم المادي وتعلقوا بفضاء افتراضي مدهش جذاب متحكم في إرادتهم. يتلقون منه دروس الحياة الجديدة. يفرغون فيه شحناتهم العاطفية. يشكلون به عالمهم الموهوم. يمارسون في محرابه طقوس صلاة خاشعة تمتد لساعات متواصلة دونما انقطاع. يؤسسون لتجمع عائلي افتراضي غريب في قيمه شاذ في قواعده ومفاهيمه. تحولوا إلى عقول غارقة في مناجاة كائنات رقمية، وإلى قلوب خاشعة في بناء صداقات عابرة متحولة لا تدوم على حال، ولا يُنتظر منها استمدادٌ للسند أو المدد. كواكب حائرة متناثرة في فضاء الوهم والخيال. كلٌّ في فلك يسبحون، وكلٌّ يتجمل للآخر بمساحيق القيم، ويلبس رداء البراءة، ويضع الأقنعة التي تخفي التجاعيد الخلقية والعيوب النفسية والانحرافات العقدية والسلوكية. تنصهر جوارحي بسوائل الحسرة الحارقة وأنا أرى أبنائي وقد انفلتوا من عقال الرشد، وصمّوا آذانهم عن صوت الحكمة، وتمردوا على قيم الحياة الجماعية وقواعد العيش المشترك. تجدهم في اتصال مستديم بالبعيد الغريب، ولكنهم في انفصال دائم عن كل قريب. هم في تواصل جميل مؤنس مع أشباح العالم الرقمي مقابل انعزال تام في وسطهم الطبيعي. قلوبهم حية مرفرفة بغرف مغلقة للدردشات الساخنة، لكن حضورهم صوري بارد باهت قاتل وسط مجتمع الأهل والأقارب. تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. أشكال وهياكل آدمية هائمة شاردة ينظرون إليك وهم لا يبصرون، تكلمهم وأنّى يسمعون. مجتمعهم الافتراضي يجتاحهم ويجتاحنا معهم. يكبر بلا ضوابط تكبح غلوه وعتوه، يسير بنا جميعا بإيقاع متسارع نحو المجهول، بينما عالمنا الطبيعي ينحسر، يتقلص، ينكمش. قيمهم المستعارة الوافدة مع رياح العولمة العاتية تكتسح الأرض والسماء، وتلوث الماء والهواء، لا تُبقِي ولا تذَرُ من خير إلا شكّكت فيه، ولا من فضيلة أصيلة إلا زهّدت فيها، وأصابت أهلها بالاغتراب والاختناق والحيرة المدمرة...