إن لم ترها رأي العين أو لم تقرأ "أحدب نوتردام"، فاعذر من يرثي "عذراء باريس". فهي أسطورة جمال تزيد فتنة مع الأزمان والحقب، وأكسبها الأدباء مقاماً، صنع منها رمزية استثنائية. لكن كما قال أحد الأدباء القدامى جداً والفرسان "ليس الكريم على القنا بمحرم"، فلئن مسها الضر، فقد أتت ألسنة اللهب على قبة النبي الأكرم، والمسجد الأقصى من قبل. ما يهوّن الأمر في هذه الحادثة أنها حتى الآن ليست بفعل فاعل، وإن كنا ندري أن الكثيرين من أشرار العالم يتمنون لو كان الحريق على أيديهم، نظير فعل سلفهم السابقين في دور عبادة خالدة أخرى للديانات كافة. وهذه مناسبة لفكرة، ما إذا كانت القداسة الروحية لمثل الكعبة المشرفة والقدس ودور العبادة جميعاً، تحتاج إلى إبهار فني لتبلغ مقامها السامق في الأنفس؟ نعرف بالنسبة إلى المسلمين التعاليم في هذا الشأن، وأيضاً جنوح بقية أديان السماء للتركيز على المعنى عوضاً عن الجمال الحسي. لكن السلوك الإنساني نحو هذه المقدسات يكشف أن الكثير من مقامها الوجداني متصل بنظيره الحسي، كأنهم يفترضون في الجميل معنىً أن يكون كذلك حساً، أليس الله الذي تستلهم المقدسات روحه على الأرض، تعالى عن كل نظير، هو الآخر كان الجمال واحداً من معاني تعلق المؤمنين به، وبالسماء التي بناها وحرض على تأمل بديع عالمها، وزينتها وكواكبها، وأخيراً "ثقوبها" وأسرارها الفنية التي لا تنقضي؟ بينما النظرية التصوفية والمثالية تقلل من شأن الحس، وأن الروح السامية هي التي تحلق عالياً في الملكوت فوق عالمها الصغير إلى جنات المعنى الخالدة، التي لا يحدها حد سوى حجم الوقود الذي تتزود به نفس السالك. هذا الأمر دفع إلى إبقاء دور العبادة الإسلامية، ابتداء بالكعبة المشرفة، تخلو بادئ الأمر من أي بهجة حسية، على الرغم من ازدهار وغنى الدولة الاسلامية في قرون خلت. بينما لو رآها السابقون بحلتها الجديدة، وهي بحريرها وزينتها وحليها، لربما بلغت منهم مقاماً أسمى، وحسناً في نفوسهم فوق حسناها، كما هو الحال كذلك في لؤلؤة "قبة الصخرة" البهية. ولذلك كثيرون لا يخفون ولعهم الشديد بفن العمارة الإسلامية الخالد في شرق آسيا، وفي إيران، وتركيا، والأندلس، لدرجة أن عدداً منهم يعتقد أن ذلك الفن هو الحارس الوحيد في بعض الحقب لبقاء الهوية الإسلامية وأحياناً العربية حية في تلك الأمصار، في مثل الحالة الأندلسية وبعض دول الاتحاد السوفيتي السابقة على نحو أوزباكستان. في هذا الصدد يذكر للدولة السعودية إبقاءها على المسجد النبوي القديم بفنه كما تركه الأتراك، من دون أن يمسه سوء، على الرغم من اعتراض السلفيين الشديد، ممن كانوا يرون يومئذ أن زخرفة أي مسجد، ناهيك عن مقام النبي ومنبره، ضرب من المنكر الذي لا يغتفر، لكنهم فيما بعد أحدثوا عمارة لا تضاهى في وسعها للمسجدين على مر التاريخ. كانوا أقل اعتناء بالزخارف و"الفن المسجدي العريق" في منطقة المشرق العربي والشرق الإسلامي، لكن وجدوا الحل في الأندلسي، فكان الجانب السعودي من المسجد النبوي، خصوصاً مع وقاره، لا يقل جمالاً عن أي مسجد آخر في دمشق أو بخارى أو الهند، ولكن بالنسبة إلى غير عشاق النفس الأندلسي، لا تغني اللمسات الموضوعة شيئاً يذكر. أما التحفة المسجدية الأحدث في عالمنا الإسلامي، فهي مسجد الحسن الثاني، الذي جمع كل معاني البهاء، فناً وموقعاً وعمارة وهيبة، قيل إنها ألهمت مشاريع إسلامية فنية عدة، كان بينها مسجد الشيخ زايد في أبوظبي، الفريد من نوعه. الطريف الذي لا ينسى في مناسبة حريق هذه الجوهرة، أن أحدهم لتواضع ثقافته الباريسية لم يكن يبالي بنوتردام، بل ذهب فوراً إلى "السوربون" ليس للوقوف على جامعة طه حسين وكبار المؤثرين وصناع النهضة من قومه، ولكن ليقف على أطلال "دارسة" مرت هنالك، كان يفترض أن يحضر حفل تخرجها لولا سوء الطالع، الذي يبدو أن شؤمه حل أيضاً على كاتدرائية نوتردام، فاحترقت حداداً بأثر رجعي تضامناً مع الدارسة وزائرها المنحوس، ذلك أن نوتردام وأحدبها كانا العزاء بعد خلو ساحة "السوربون" من فرسانها الأكابر. وهكذا فلنعذر باريس أن تحترق من قوس نصرها وشانزليزيها، ولم لا قلبها الأجل "فاتنة نوتردام". *كاتب صحافي