إن إصلاح منظومة التربية والتعليم أصبح أولية الأولويات لبناء الإنسان المغربي، وبالتالي بناء مجتمع مغربي حديث وراق، يساير ركب التقدم الاقتصادي والتكنولوجي العالمي، ففي قلب هذا الوعي الجماعي بأن إصلاح التربية والتعليم هو أساس كل تقدم ورقي، فتح النقاش حول الإصلاح، الذي تم التركيز فيه بشكل كبير على لغة التدريس، رغم أن الإصلاح لا يقتصر على لغة التدريس فقط بقدر ما يتطلب إصلاح منظومة بأكملها من أطر ومناهج تربوية وتعليمية، وإغناءها بكل ألوان الفنون، إلى جانب اللغة التي يجب أن يتم بها التلقين والتدريس بها. نقاش فتح منذ سنين خلت واستمر طويلا وطعمت به الأحزاب السياسية حملاتها الانتخابية دون وجود إرادة سياسية حقيقية وشجاعة أدبية للخروج بقرار نهائي لكي ينزل على سكة التطبيق. في خضم هذا النقاش برزت ثلاثة اتجاهات حول اللغة التي يجب أن تدرس بها الأجيال القادمة، فهناك من ذهب في اتجاه العودة إلى التدريس باللغة الفرنسية في المواد العلمية، مع الاحتفاظ باللغة العربية في باقي المواد الأدبية، واتجاه تشبث باللغة العربية كأساس للتعليم والتلقين في كل المواد، واتجاه آخر اتجه نحو اللغة الأولى في العالم وهي اللغة الإنجليزية. إذا ما حاولنا أخذ هذه الاتجاهات الثلاثة كل واحد على حدة، فاللغة الفرنسية تم التدريس بها أيام الاستعمار الفرنسي بالمغرب، الذي استمر إلى ما بعد الاستقلال بضع سنوات قبل أن يتم تعريب المناهج التعليمية، التي فتحت لنا الأبواب إلى مدارس وجامعات فرنسا، والتي استفادت منها فقط النخبة والقليلون من أبناء الشعب المغربي المحظوظون، حيث لزمتنا عقدة خريجي مدارس وجامعات فرنسا على اعتبار أنهم أكفأ ممن تعلموا في الجامعات المغربية، وسقطنا في ميز تعليمي، إن أمكننا أن نسميه كذلك، وتراكمت لدينا البطالة التي يعاني منها خريجو المعاهد والجامعات المغربية، فبعد تعريب التعليم لم يتم تعريب الإدارة المغربية، وتراجعت المدرسة العمومية، وبرزت لنا مدارس خصوصية تتبنى التدريس باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ولم يتمكن من ولوجها إلا أبناء العائلات الميسورة في بادئ الأمر، إلى أن صار التعليم هاجس كل الأسر المغربية، التي أصبحت تنفق كل أموالها على التعليم الخصوصي لأبنائها، فأصبح لديها هو الاستثمار الوحيد الذي تقوم به، وتحاول إقناع نفسها بأن الأموال الباهظة التي تنفق على أبنائها استثمار للمستقبل، غير أن خريجي هذه المدارس، الذين لم يكونوا سوى مهندسين تقنيين حاملي شهادات لا توازي الشواهد الجامعية، لم يسلموا أيضا من البطالة. تكوينات قطعت مع علوم أخرى كالفلسفة والأدب، بالإضافة إلى أن اختصاصات أخرى لا يمكن أن تتناولها المدارس الخاصة كالطب والصيدلة والفيزياء والبيولوجيا، هكذا برز لنا تعليم مزدوج أعرج، فما نعيشه اليوم من تخبط هو نتيجة كل ما سلف. أما التوجه الثاني الذي يدعو إلى اتخاذ اللغة العربية كأساس للتدريس لأنها لغة رسمية ينص عليها الدستور إلى جانب الأمازيغية، يدفعنا إلى إعادة تجربة أثبتت فشلها الذريع. نعم اللغة العربية لغتنا الرسمية، وهي ترتبط بهويتنا العربية والإسلامية مثلها مثل الأمازيغية كذلك، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكننا أن ننفتح على العالم اليوم وغدا، عالم لغته الإنجليزية؟ كيف يمكننا أن نواكب عالما يتحول كل يوم، وتكنولوجيا تتقدم في كل ساعة؟ كيف يمكننا الاطلاع على الأبحاث العلمية للدول المتقدمة والاستفادة منها؟ من هنا ندرك أن اللغة الفرنسية ليست اللغة التي يمكن أن ننفتح بها على العالم، فهذه اللغة لا يتحدثها إلا الفرنسيون وباقي مستعمراتهم في أفريقيا سابقا، أما باقي العالم فينفتح كله على اللغة الإنجليزية في تعليمه وحياته اليومية بعد لغته الأم. والمغاربة أيضا جزء من هذا العالم، فمجمل الشباب يفضلون اللغة الإنجليزية بدلا عن الفرنسية. إن الاستمرار بالتشبث باللغة الفرنسية لن يفضي إلا إلى الاستمرار في الحالة التي نحن عليها اليوم، فاللغة الإنجليزية ليست بلغة صعبة، والتكوين فيها رغبة أغلب المغاربة. أما أن نقوم بالعودة إلى التدريس باللغة الفرنسية أو العودة إلى تعريب التعليم، فهذا هو التخبط بعينه. لا يمكننا الرجوع إلى الوراء لارتكاب أخطاء الماضي نفسها. هناك بعض الأشياء التي لا يمكن أن نتعامل معها بهوادة، ولكن بالحزم والفصل والاستئصال، وما دمنا لا نملك القوة والجرأة لاستئصال بقايا الاستعمار الفرنسي، فهذا لن يفضي بنا إلا إلى التعايش مع مرض مميت بعدما أصبنا بالشلل، وبقيت أعيننا عالقة بفرنسا، التي هي بدورها لم تسلم من أزمات عديدة تشل حركتها. إصلاح التربية والتعليم رهان يجب إنجاحه ولا نريده تجربة أخرى تحتمل فشلا آخر بدل إنجاحها. أغلب المغاربة أصبحوا يفضلون الإنجليزية للانفتاح على العالم لأنه لا خيار لنا عنها، مع الإبقاء على اللغة العربية لتدريس الأدب والفلسفة والتاريخ حفاظا على لغة تزخر جمالية وأدبا رفيعا، وعلى حضارة عربية إسلامية زاخرة، دون إقصاء اللغة الأمازيغية. والتشبث بالفرنسية هو تراجع وحنين إلى عهد ولى لن يعود، وتعميم اللغة العربية أيضا أثبت فشله، فلا يمكننا التشبث بالماضي لإعادة تجارب فاشلة. إذا أردنا الإصلاح يجب منذ الآن فتح نقاش حول إمكانية تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية، وهذا سيفتح أيضا مجالا لإدماج كل الطاقات التي تلقت تكوينها في اللغة الإنجليزية في بلادنا أو خارجها، وبالتالي خلق توازن في مجتمع عربي أمازيغي حديث يجمع التراث العربي الإسلامي وعلوم حديثة تواكب العصر الحديث. *موثقة