منذ بدء تسرب أصداء اشتداد النقاش حول القانون الإطار رقم 17.51؛ المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي؛ بين أعضاء الفرق النيابية من خلف أسوار لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب؛ وردود فعل الملاحظين والمهتمين والصحافة والإعلام والرأي العام الوطني والدولي، في تزايد وتصاعد مستمرين دون فتور؛ حيث لا يمرّ يوم دون نشر تغطيات ومقالات واستجوابات وحوارات حول الموضوع/ القضية؛ ناهيك عن حلقات مكثفة من البرامج الإذاعية والتلفزية وعلى القنوات الفضائية...لاسيما حول المادة 31 -بشكل خاص- المتعلقة بالهندسة اللغوية؛ والتي نالت حصة الأسد من السجالات بعد المادة 48؛ المتعلقة بمسألة إلغاء المجانية؛ عبر مساهمة الأسر الميسورة في أداء رسوم التسجيل في القطاع العام في مؤسسات التعليم العالي كمرحلة أولى، وفي التعليم الثانوي التأهيلي في مرحلة ثانية. ولعل اللافت للانتباه أيضا؛ هو خوض عدد لا يستهان به من أفراد المجتمع؛ باختلاف فئاتهم ومشاربهم وانتماءاتهم واهتماماتهم، في إبداء الرأي عبر شبكات التواصل الاجتماعي -الفايس بوك خاصة- حول القانون الإطار؛ لاسيما المادة 31 المتعلقة بالهندسة اللغوية، والمادة الثانية المحددة لماهية التناوب اللغوي. وقد سعى المدونون (ات) والمغردون (ات)؛ إلى كشف خلفيات مواد القانون الإطار وغاياته وأبعاده كل من زاوية/ زوايا نظره، وانطلاقا مما تسمح به قراءته وتأويله للنص، وسياقه، وأسباب نزوله، وكيفية تفاعل الفاعل الحزبي والسياسي معه. وهذا التفاعل والتجاوب والتجاذب بلاشك؛ لا يمكن للباحث والمتأمل إلا اعتباره سلوكا طبيعيا في بلادنا؛ مادامت اللغة عامة، ولغات التدريس خاصة؛ ليست أداة لاكتساب الكفايات وتحصيل المعارف والقدرات والمهارات فقط؛ بل هي وسيلة مُعبِّرة وعاكسة لهوِّية المواطنين والمواطنات؛ ودالّة على مراحل مهمّة للغاية من تاريخهم، وفترات مشرقة من حضارتهم وثقافتهم في امتدادها الجغرافي والزماني... ولا يجب أن يغيب عن بالنا أيضًا؛ أنّه لأول مرة في تاريخنا المعاصر، ومنذ الاستقلال (1956)، تسعى الدولة لإرساء قانون إطار؛ ينظم هذا المجال الحيوي والاستراتيجي، ويخطط لمستقبل منظومتنا التربوية بعيدا عن الاستمرار في تجريب البيداغوجيات والقوانين إثر كل تعاقب للأوصياء على تدبير القطاع. من هنا؛ قد يكون لنبرة الحدّة في النقاش؛ ما يسوِّغها لدى بعضهم؛ لاسيما والقانون ستمتدُّ رافعاته إلى غاية الموسم الدراسي 2030. لكن ما أثار الانتباه وسط كل هذا السجال اللغوي، والتدافع الفكري، هو زيغ النقاش/التدوينات أحيانا؛ عن المنهج الموضوعي، ونأيه عن المنطق العقلي، وقفزه على الحقائق المتعارف عليها، والمعتبرة في حكم المسلمات والبديهيات؛ من قبيل علاقة اللغة بالهوِّية، وحدود اللغوي والسياسي، والخطاب العلمي والخطاب السياسي؛ والخيارات اللغوية والسيادة؛ مما يدفع المتخصص المتأني إلى عدم التردد في أطلاق وصف المغلوط على هذا النقاش/ النقاشات... فما مظاهر الغلط في سجالنا اللغوي، وكيف فقدت حواراتنا البوصلة؟ لقد انحرف النقاش منذ البدء؛ وذلك حين تحوّل من حَلْبة الحجاج المنطقي المبني على قواعد العقل والعلم، إلى مضمار التنافس السياسي، والانجرار نحو الانتماء الحزبي والحضن المذهبي. فانتقلنا -ربما دون وعي بمخاطر هذا الانزياح- من السؤال المحوري الجاد: أي لغة/لغات أجدر وأنفع لمنظومتنا التعلمية-التعليمية، ولإدراك تلاميذنا وأفهامهم؛ إلى السؤال الايديولوجي الغامض الملتبس: من يقف وراء الدعوة لتدريس العلوم بهاته اللغة أو تلك؟ ولماذا لا تدرس العلوم بلغة أخرى؛ غير اللغتين العربية والفرنسية؟ وقد انبثقت عن السؤال الأخير؛ أسئلة فرعية أخرى؛ من قبيل: هل دعاة هاته اللغة أو تلك؛ يخدمون أجندة هذا الحزب السياسي أو من يعارضه؟ ألا يقدم مناصرو اللغات الأجنبية – الفرنسية خاصة- سندا لخصوم الحزب القائد للأغلبية؟ ألا يهمش الصراع حول العربية والفرنسية الأمازيغية؟ هل أغفل النقاش حول لغتين فقط؛ التأخر في صدور القانونين التنظيميين لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية؟ هل هو نقاش/ صراع مفتعل؟ لماذا لا يدرس دعاة التعريب أبناءهم في المدارس العمومية، ويفضلون عليها البعثات الأجنبية والمدارس الخاصة؛ سعيا لتأمين مستقبل زاهر لهم؟ هل اختياراتنا اللغوية يجب أن ترهن بمنافذ الشغل والمستقبل المهني لمخرجات التربية والتكوين فقط؟ هل لاتزال الفرنسية صالحة لتدريس العلوم في المغرب، وتحقيق النموذج التنموي؛ علما أنها ليست لغة البحث العلمي المتطور كما هو الشأن بالنسبة للإنجليزية؛ فضلا عن تواضع ترتيبها في سلم اللغات العالمية الأكثر انتشارا وتداولا في العالم، وفي الفضاء الالكتروني والمجتمع الشبكي؟ ألا يمس خيار الفرنسية في تعلم العلوم وتعليمها بمبدإ الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي؟ لا أحسب أن هذه الهموم والهواجس الثاوية خلف أسئلتنا الكثيرة والملتبسة؛ قادرة -على الرغم من صدق كثير من نوايا المتسائلين- على إنتاج حجاج مقنع وبناء يفيد مستقبل منظومتنا التعليمية- التعلمية؛ ويرسم للرأي العام والأسر والمتتبعين، خارطة الطريق الصحيح التي يجب أن نسلكها جميعا. لماذا؟ لأن كل فرد منّا يحاول مقاربة موضوع لغات التدريس انطلاقا من مرجعياته الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والذاتية أيضا؛ ولم نبذل الجهد الضروري من أجل الإنصات للرأي العلمي الرصين، والتقويم الاستشرافي المستقبلي المؤسس على فرضيات العلم واستدلالاته وبراهينه حول مآلات منظومتنا التربوية والتعليمية بعد تبني هذا الخيار أو ذاك. هل هناك دراسة علمية موثوقة ومجربة بشأن مستقبل سوق الشغل على الأقل مع نهاية 2030؛ التاريخ الذي رسمته الرؤية الاستراتيجية أفقا لتحقق رافعاتها؟ أتوجد اليوم بين أيدينا دراسات وأبحاث محايدة ونزيهة مضمونة الخلاصات حول اللغة/ اللغات التي ستتحكم في اقتصادات العالم مستقبلا؟ هل هناك ضمانات حقيقية في حال تبنيا الفرنسية خيارا لتدريس العلوم؛ بعدم تهديد البطال الحاصلين على الشهادات العليا؟ هل جميع مخرجات الجامعات اليوم؛ لاسيما من الشعب العلمية والتقنية، من الأطر التي تلقت تكوينها العالي الجامعي باللغة الفرنسية، قادرة على ولوج عالم الشغل والمهن حديثة الظهور؟ لماذا استطاع طلبتنا في الشعب العلمية، والذين تلقوا تعليمهم باللغة العربية من الإندماج بسهولة وتفوق في مباريات المدارس العليا للمهندسين بالخارج؟ هل صحيح أن طلبة المدارس الخاصة والبعثات الأجنبية، هم الناجحون فقط في مباريات المدارس العليا؟ هل نجاح كثير من طلبنا المغاربة في تعليمهم وتكوينهم بالدول الغربية والشرقية؛ بعد تعلم اللغات الأجنبية لتلك الدول في بضع شهور (الروسية/ الألمانية...)؛ دليل على أن اللغة ليست عائقا أمام النجاح كما يزعم بعضهم؟ هل القول بتفشي الهدر بالتعليم العالي الجامعي بكليات العلوم والحقوق والاقتصاد؛ (67 في المائة من حاملي شهادات الباكالوريا علمي يغادرون الجامعات...بينهم 22 في المائة يغادرون في السنة الأولى، قبل حلول موعد الامتحانات، و45 في المائة خلال سنتين منقول جريدة وطنية)؛ سببه العجز عن مسايرة التكوين بالفرنسية، أو عدم القدرة على مواكبة المضامين العلمية والتقنية بسبب سوء التوجيه التربوي؟ ماذا عن آلاف الطلبة الذين تخرجوا من كليات الطب ومدار س الهندسة منذ إقرار التعرب بالثانوي والإعدادي، لماذا لم يصادفوا مصاعب في الانتقال من التعليم بالعربية إلى التكوين بالفرنسية؟؟ إن الانطلاق عند الحجاج حول هذه القضية، من اللغتين الوطنيتين الرسميتين، لن يكون أبدا ذا طابع ايديولوجي كما يروج بعض من يخلط بين الهوية الايديولوجية؛ كما أن الترويج بأن المنافحة عن اللغة العربية يخدم مصلحة لون سياسي بعينه، أو توجه فكري محدد، ينم عن تجاهل لتاريخ الوشائج التي ربطت، وتربط المغاربة بلغاتهم وتعبيراتهم الراسخة منذ قرون. كما وجب أن نؤكد بأن الخيارات اللغوية للدول والأمم؛ لا تبنى على الأساس المادي الاقتصادي البراغماتي فقط، بل لا مناص من البعد الهُوِّياتي؛ باعتباره لبنة أساس لتحصين الذات المشتركة من التشظي وفقدان البوصلة لاسيما أمام موجة العولمة الجارفة. وفي الختام؛ يترسخ اقتناعنا؛ بأن السجال لم، ولن، يتوقف اليوم أو غدا أو في المستقبل القريب على الأقل؛ ليس لأن الجميع يرفض الإنصات والاقتناع بالحلول والبدائل، ولكن لأن هذا الموضوع مفتوح على عوالم ومستجدات ومعطيات لا تساهم دول الجنوب دائما في صياغتها وإملائها؛ من يعرف اللغة التي ستسيطر على حياتنا في عشرين سنة المقبلة؟ * رئيس المركز المغربي مآلات للأبحاث والدراسات