(بيت الطرب)..قطعة ثمينة من الحسن والرقي. تحفة فنية فريدة تتباهى بها مدينة طنجة العالية.. مسرح أسطوري حافل بأصداء الحياة، مُترع بنشوة الوجود. تتردد في جنباته ألحان الذاكرة، وتتصاعد في أحضانه أنفاس الماضي، وتنطق فيه صور الجمال . فضاء حميمي مفعم بالأصالة، مكتظ بعبق التاريخ، مليء بروح الزمن الغابر. يحتضن زائره بحنو ورفق ودعة .. يجرده من قيود حاضره المثقل بالمساحيق والأقنعة وينقله على بساط الحلم المرفرف في رحلة وجدانية جمالية نحو ضفاف الماضي الخالد حيث يكمُن السموّ، ويستوطن العشق، ويتناسل الخلق والإبداع. يمدّك بطاقة جديدة خارقة فتكسر كل الحواجز الفيزيائية لتستعيد زمان الوصل بالأندلس. تصلك من فسيفسائه أنغام الحجر والشجر والقمر والنهر والوتر وقطرات الندى العاشقة، فتنبعث أرواح وأجساد وأحلام وألحان وذكريات. يتداعى إليك صوت زرياب في أبهى مقاماته، وتنتهي إلى مسامعك رنات مجالس الأنس الساحرة وألحان خالدة سافرت عبر طبقات السماء ودغدغت آذان الأرض وحركت وجدان الإنسان منذ قرون وأزمان. كل جزء في (بيت الطرب) ينشد.. ينطق.. يترنم.. يتلو آيات الجمال، ويصدح بتراتيل الخلود. وفي كل زاوية منه ألف حكاية وحكاية. هنا مجلس المعتمد، وبجانبه مرقد ولاّدة، وحولهما يطوف ولدان بشراب الشعر وبأكواب النغم وبرحيق المتعة. يستقبلك (بيت الطرب) بمعماره الأندلسي الأصيل، ويحتضنك ببساطته الجميلة، ويحتويك بعبقه الباذخ، ويسحرك برقيه النادر. تنتشر في أرجائه السكينة الرحيمة لتمنحك الحق في تأمل تفاصيل الحياة، ولتهبك الفرصة في مناجاة دفاتر التاريخ، ولتلقي بك في رحاب اللذة والمتعة والجمال. يلفك برداء الأصالة لتستشعر دفء الجذور التي تنتسب إليها، ولتحس بعظمة التاريخ الذي تجره خلفك. مكان استثنائي لا كسائر الأمكنة.. تتقاسم فيه الهواء مع الأموات والأحياء.. تلتحم فيه الأجساد والأرواح.. يتواصل فيه الخلف والسلف. تلتقي فيه أطياف من مضى بعيون من يستشرف الحياة. تتداخل فيه صور شتى وأنغام حبلى بالتفرّد وترانيم لا تعترف بالحدود. يقصده ملوك الفن وسلاطين العشق ومروضو الوتر ومبدعو النغم ومداعبو الكتاب والقلم. تتغذى بنسائمه الروح والفكر والخيال. وتستحم في حياضه النفوس بأنوار الألحان العذبة ورذاذ الكلمات الناعمة. ينتشي فيه الجالسون بخمر الحب ورحيق الصفاء وبشلالات الحلم الجميل. يفتح قلبه النابض لكل قصّاده ورواده، ويشرع بابه البشوش في وجه كل من ينتقي المراتع ويختار المجامع ويصطفي الأصحاب والخلان. فلا مكان فيه لذباب المجالس المبتذلة ولا لضفادع المستنقعات الآسنة. فهناك سيحاصرهم الرقي وتخنقهم السكينة وتربكهم رهبة الذوق الرفيع. فالذباب يعاف الزهر لأنه اعتاد رحيق المطارح. فإذا كانت كل جوهرة ثمينة تُصان وتُحفظ وتحرس فإن (بيت الطرب) تحفة فريدة جاد بها الزمان لآهل طنجة وللمغاربة جميعا. عليهم صيانتها وحمايتها حتى يستمر نسيمها في التدفق والعطاء ليغذي خلايا الإبداع و يستفز ملكة الخلق ويدغدغ حساسية المثقفين والفنانين. وتحية عطرة صادقة لمؤسس هذه التحفة البهية، سليل الحضارة الأندلسية الندية وأحد أحفاد رجالات المدينة الأوفياء؛ الحاج البقالي الذي لم يغره العدد والكم بقدر ما غرّته الجودة والنوع، ففضل إضافة لبنة إلى صرح الثقافة والفن على الارتماء في أحضان الجاه والثراء، وآثر خدمة الفكر والذوق على عبادة تمثال المال والابتذال.. وحريّ بأهل طنجة وبالفعاليات الثقافية والجمعوية والاقتصادية والمؤسسات المنتخبة والرسمية أن يعترفوا بفضل هذا الرجل الراقي وبأن يدعموه ويكرموه ويجعلوا منه رمزا من رموز مدينتهم، في زمن تكرّم فيه الحثالة وتلتفت فيه الأضواء والأبواق إلى صناع التفاهة والميوعة ورواد المستنقعات والمطارح.