من عبد الله إبراهيم إلى عبد الرحمان اليوسفي قال كارل ماركس: "الفلاسفة اهتموا بتفسير العالم بأشكال مختلفة، رغم أن الأهم هو محاولة تغييره". قال أنطونيو غرامشي: "يجب الجمع بين تشاؤم الذكاء وتفاؤل الإرادة". غالبية التجارب الاشتراكية واليسارية في العالم كانت تصطدم بما يطلق عليه حائط الاقتصاد، نظرا لأن اليسار والاشتراكيين خصوصا لم يكن لديهم برنامج لحكامة اشتراكية مستقلة. وقد أثبتت التجارب أن الاشتراكية كانت دائما مرتبطة بالحكامة الليبرالية أو الحكامة الإدارية، كما أكد ذلك ميشيل فوكو. عدم توفر اليسار على حكامة اقتصادية كان يفقده القدرة على التحكم في الروافع الاقتصادية، وبالتالي كانت البرامج الطموحة لليسار تنكسر أمام الصعوبات المرتبطة بالتدبير الاقتصادي. ويتذكر الكل مقولة ونستون تشرشل الشهيرة: "إن كريستوف كولمب هو الاشتراكي الأول، فهو لم يكن يعرف أين يذهب، ولا كان يعرف أين يوجد.... ولكنه كان يفعل ذلك بأموال دافعي الضرائب". وحده المغرب يشكل استثناء في هذا المجال، حيث إن تجربة اليسار الحكومي في المغرب كانت إيجابية، على الرغم من أن اليسار في المغرب لم يأخذ حظه من الحكم، بحيث لم يكلف بالتدبير الحكومي إلا من خلال تجربتين (عبد الله إبراهيم- عبد الرحمان اليوسفي)، منذ الاستقلال إلى اليوم، أي ما يقارب ستة عقود ونصف العقد. كما أن اليسار لم يحكم فعليا إلا لمدة وجيزة، لا تتجاوز الثلاث سنوات، حيث تحملت حكومة السيد عبد الله إبراهيم الحكم في الفترة الممتدة بين 24 دجنبر 1958 إلى 21 مايو 1960، أي أقل من سنة ونصف السنة. أما حكومة عبد الرحمان اليوسفي فتم تعيينها في 14 مارس 1998 وانتهت مهامها في 7 نونبر 2002، ولكن وجبت الإشارة إلى أن هذه المدة يجب تقسيمها إلى فترتين: الفترة الأولى تمتد من تاريخ التعيين إلى وفاة الملك الحسن الثاني أي 23 يوليوز1999، أي زمن سياسي استمر لأكثر من سنة. في هذه المرحلة كانت حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي في وضع مريح أتاح لها ممارسة الحكم بكل ما يتطلبه ذلك من القيام بالتدبير الاستثنائي والتدبير العادي لشؤون الدولة، وكانت هذه المرحلة مؤطرة بالاتفاق غير المعلن بين الملك الراحل وبين الوزير الأول. أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة بداية عهد الملك محمد السادس؛ فقد كانت مرحلة لم يحكم فيها اليسار بل عمل اليسار على تدبير الشؤون العادية من خلال التدبير العادي للدولة، وتكلفت الملكية بالتدبير الاستثنائي. تبني المخزن لإستراتيجية الزمن السياسي القصير لحكومات اليسار لم يكن خيارا بريئا؛ بل كان خيارا يستهدف من ورائه المخزن عدم منح الزمن السياسي الكافي لحكومات اليسار من أجل الانتقال من الوجود في الحكم إلى الإصلاحات المؤسساتية، ومن ثم الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي عدم منح اليسار المهل الزمنية الكفيلة بإنجاح شروط صياغة وتطبيق اتفاق للتحديث -اتفاق إنتاجي- اتفاق اقتصادي- اتفاق اجتماعي- اتفاق ميزانياتي، وهي شروط ضرورية للنجاح في التجارب السياسية المطلوب منها استدراك الزمن الضائع أولا ثم التغيير. المفارقة الثانية في التجربة الحكومية لليسار بالمغرب تتمثل في كون اليسار تحمل المسؤولية السياسية في زمن الأزمات الاقتصادية، وهكذا فإن اليسار فرض عليه تحمل المسؤولية الحكومية في السنوات العجاف (تكليف اليسار بتشكيل الحكومة في السنوات العجاف استهدف من ورائه المخزن فصل اليسار عن بؤس الكادحين- عبارة أطلقها بيير بورديو سنة 1993-، وبالتالي كان الهدف غير المعلن هو إعدام اليسار سياسيا) وهكذا.. وفي سنة 1958، كانت هناك أزمة عجز وموسم فلاحي سيئ، واحتياطات من العملة الصعبة شبه منعدمة (مما اضطر معها وزير المالية آنذاك عبد الرحيم بوعبيد، والذي كان وزيرا للاقتصاد والمالية في حكومة البكاي الثانية، إلى تبني إجراءات تقشفية). وفي سنة 1998، كان المغرب مهددا بالسكة القلبية؛ وهو ما يثبت أن حكومات اليسار في المغرب لم يكن مطلوب منها فقط تطبيق برنامج سياسي جديد، بل كان المطلوب من اليسار فعليا إعداد الظروف الضرورية لاستمرارية الدولة. حكومات اليسار كان مطلوب منها استدراك الزمن الضائع، من طرف الحكومات السابقة في الشق الاقتصادي والشق المالي والشق الاجتماعي. مسؤولية استدراك الزمن الضائع الموضوع على عاتق اليسار الحكومي (gouvernement de rattrapage) كانت تضعه أمام حتمية الاشتغال من خلال التركيز على الابتكار والإبداع بهدف تحقيق النمو، والاجتهاد كذلك من أجل جعل فعل الدولة متطابق مع المصلحة العامة؛ لأن وحده النمو والتطور من يمنحا فرصا للحركية المجتمعية، وهذه الأخيرة تشجع على التسامح وتنمي السلوك المواطن، (وكل هذا يسهم في توسيع القاعدة الاجتماعية لليسار وهو الأمر الذي لا يقبله خصومه). كما أن غياب النمو يعرض المجتمعات لانكسارات اجتماعية، تتزامن مع صعود الفقر وكذلك خسائر سياسية تضع العيش المشترك والمؤسسات الديمقراطية على المحك. 1 الظرفية التاريخية لإنشاء حكومة عبد الله إبراهيم تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم بعد سنتين ونصف السنة من الاستقلال كان يمنحها إيجابية خاصة تتمثل في كون معارك التحرير والاستقلال مثلها مثل الحروب تعمل على تقليص الفارق بين المالكين والآخرين وبالتالي ما بين الأجيال، وتعمل الحروب ومعارك التحرير والاستقلال كذلك على تدمير الرأسمال المالي والرأسمال العقاري والرأسمال الاجتماعي من خلال التغييرات التي تحدثها في شبكة السلطة والتراتبية بشكل أكثر فعالية من الثورات السياسية. حكومة عبد الله إبراهيم جاءت كذلك في مرحلة انتقالية عاشها المغرب ما بين 1956-1960، تميزت هذه المرحلة بجنوح السلطة والمعارضة إلى التهدئة في انتظار تغير الظروف لصالح طرف معين. الإدارة المغربية في تلك الفترة كانت ما زالت تعج ببعض النخب الفرنسية الكفؤة، هذه النخب الفرنسية ساهمت بشكل فعال في مساعدة حكومة عبد الله إبراهيم (عبد الرحيم بوعبيد أساسا) على صياغة وتصور البرنامج الاقتصادي التحرري للمغرب، من خلال وجودها في بعض القطاعات خصوصا المالية. المرحلة التي تحملت فيها حكومة عبد الله إبراهيم المسؤولية تزامنت كذلك مع تغييرات كبرى في فرنسا تمثلت في المصادقة على دستور الجمهورية الخامسة من جهة، ومن جهة أخرى المصادقة على الدستور المالي من خلال القانون التنظيمي للمالية الفرنسي لسنة1959؛ وهو ما جعل الظرفية مناسبة لوزير الاقتصاد والمالية لربط المغرب بالمستجدات المرتبطة أساسا بالمصادقة على القانون التنظيمي للمالية بفرنسا. استفادت حكومة عبد الله إبراهيم إبان تحملها للمسؤولية الحكومية، مع ظرفيه سياسية واقتصادية ومجتمعية، غاب عنها ما يطلق عليه بتحالف جدار المال، كما تميزت هذه المرحلة التاريخية بضعف لوبي المال، ولوبي الإدارة، إن لم نقل غيابهما؛ وهو ما جنب التجربة مواجهة عدوان شرسان (على الرغم من وجود خصوم سياسيين). 2 حكومة عبد الله إبراهيم والاعتماد على ثنائية (رئيس الحكومة- وزير الاقتصاد والمالية) على المستوى السياسي، كان اليسار يحتاط دائما من المالية، على اعتبار أن المالية تستعمل المديونية العمومية لتوجيه الفعل العمومي، بهدف إسقاط الحكومات التي لا تتوافق مع التوجهات العامة لأصحاب المال والأعمال. هذا التحفظ عمل على ترسيخ رفض متبادل ما بين اليسار والمالية، وهو ما جعل اليسار يعتبر أن ألد خصومه أثناء التدبير الحكومي هو ما يطلق عليه بحائط المال؛ وهي العبارة التي أطلقها ايدوارد هوريوط، زعيم كارتيل اليساريين الفرنسيين الذين فازوا في انتخابات سنة 1924، حيث وقف بنك فرنسا ضد الإجراءات الاقتصادية والمالية التي كان الكارتيل يود القيام بها من أجل إنجاح برنامجه الاقتصادي ولكن جدار المال بزعامة بنك فرنسا أسقط البرنامج وأسقط حكم كارتيل اليسار في فرنسا. هذه التجارب التاريخية جعلت اليسار في المغرب يتسلح بإستراتيجية مضادة، تعتمد على ثنائية رئيس الحكومة وزارة المالية.. وهكذا، أشهر اليسار الحاكم في المغرب سلاحه المتمثل في تعزيز دور وزارة الاقتصاد والمالية في قيادة التجربة جنبا إلى جنب مع مؤسسة رئاسة المجلس أو الوزارة الأولى. وقد لعبت هذه الإستراتيجية دورا مهما في إنجاح تجربة اليسار الحكومية بالمغرب (سواء تجربة عبد الله إبراهيم وثنائية (عبد الله إبراهيم-عبد الرحيم بوعبيد) أو تجربة عبد الرحمان اليوسفي وثنائية (عبد الرحمان اليوسفي-فتح الله ولعلو). حكومة اليسار الأولى، استفادت كذلك من إستراتيجية شارل ديغول، والذي كان يعتقد بأن السياسة والاقتصاد مرتبطان كما هي الحياة مرتبطة بالحركة، هذا الارتباط كان يعني أن البلد من المفروض أن يجند الوسائل المعتمدة على الموارد والعمل (وزارة الاقتصاد والمالية) من أجل تمويل استمرارية وتقدم الدولة (رئيس الحكومة أو رئيس الدولة). التركيز على أهمية ودور الاقتصاد والمالية في إنجاح التجارب الحكومية كان يروم إلى عدم الاعتماد على الفن السياسي والسياسة السياسوية عند تحمل المسؤولية الحكومية، وبالتالي العمل على تصور السياسية من خلال الاقتصاد والقانون والشأن الاجتماعي فقط. وإجمالا، كان القادة اليساريون في المغرب مقتنعين بأن نجاح التجارب الحكومية بالمغرب مرهون أولا وأخيرا بالثنائي (رئيس الحكومة-وزير الاقتصاد والمالية )، إنه الخيار التنموي لمواجهة الخيار السلطوي القمعي(رئيس الحكومة-وزير الداخلية). 3 حكومة عبد الله إبراهيم والبرنامج الاقتصادي للمجلس الوطني للمقاومة الفرنسية حكومة السيد عبد الله إبراهيم اعتمدت على البرنامج (وخصوصا في شقه الاقتصادي والاجتماعي) الذي سطره المجلس الوطني للمقاومة الفرنسية، والذي ضم الجنرال ديغول والمقاومين الفرنسيين والحزب الشيوعي الفرنسي ونخب الجمهورية الثالثة الفرنسية. البرنامج الوطني للمقاومة، الذي طبقته فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية والذي مهد لما يطلق عليها ببداية الثلاثين السنة المجيدة في بناء دولة الرفاه (1950-1980)، اعتمد على الفعل من خلال التوزيع والتنمية والمصعد الاجتماعي والطلب الداخلي، هذا النموذج الاقتصادي كان يعتمد على النمو والاستثمار. حكومة اليسار الأولى في المغرب عملت على بناء العقد الاجتماعي المعتمد على النموذج التنموي المسمى إحلال الواردات الذي كان يركز على تنمية الطلب الداخلي وتحسين مستوى عيش المواطنين. كما ساهمت الحكومة في وضع أسس الإصلاح الزراعي وتغيير الملكية العقارية والتوجه نحو التصنيع الذي تم ترسيخهما في المخطط الممتد من (1960-1964). هذا المخطط الاقتصادي كان إعلانا من طرف حكومة اليسار الأولى عن انطلاقها نحو التغيير الحقيقي داخل بنية المجتمع، وبالتالي استهداف طبقة كبار ملاكي الأراضي؛ وهو ما يعني المس بالتحالف الطبقي السائد وبركيزته التقليدية. كما أن العمل على فتح الطريق نحو التصنيع كان يعني خلق طبقة المقاولين ورجال الصناعة بكل ما يعني ذلك من تشغيل وتحديث وانفتاح على المستقبل، هذا المخطط كان يستهدف النظام في تحالف وبالتالي كان سلاح النظام المتمثل في الزمن القصير جاهزا وبالتالي إعفاء الحكومة في 21 ماي 1960. 4 السيد عبد الله إبراهيم وإستراتيجية الإغارة على السلطة والإصلاحات البرق حكومة السيد عبد الله إبراهيم كانت تعي بأن مقامها في السلطة قصير وعابر، خصوصا أنها كانت الحكومة الرابعة التي تشكل في زمن وجيز بعد حكومة البكاي الأولى وحكومة بلافريج وحكومة البكاي الثانية (استقل المغرب بتاريخ 2 مارس 1956، وفي الفترة الممتدة من مارس 1956 إلى غاية دجنبر 1958، جرب ثلاث حكومات)؛ وهو ما يوضح أن معدل استقرار الحكومات السابقة كان أقل من سنة. الزمن السياسي القصير المفروض على حكومات ما بعد الاستقلال بشكل عام وحكومة اليسار بشكل خاص كانت تخصصه الحكومات العادية للأعمال الإعدادية، التي تسبق تنفيذ البرنامج، وخصوصا الأعمال المتعلقة بالاتفاق على البرنامج وتحديد الاختصاصات وترتيب وتحديد تفويض السلطة وتفويض التوقيع. كما أن الزمن السياسي الأقل من السنة لا يمكن الحكومات من إعداد وتنفيذ القانون المالي والذي يتطلب زمن سياسي يتجاوز السنة. الإكراهات المتعلقة بالزمن القصير كانت تتطلب من اليسار الموجود في الحكم إستراتيجية للعمل استثنائية تمكن الحكومة من استغلال اللحظات العابرة والاستثنائية، واستغلال الزمن السياسي القصير لتحقيق المنجزات السياسية الكبرى، من خلال البرامج الواضحة والإرادة الفولاذية والسرعة في الإنجاز، وتخبرنا التجارب الدولية بأن أحسن إستراتيجية لمواجهة الزمن القصير هي إستراتيجية الإغارة على السلطة والإصلاحات البرق. إستراتيجية الإغارة على السلطة هي إستراتيجية طبقتها بعض الحكومات اليسارية في فرنسا، وخصوصا تجربة تحالف اليسار الذي حكم في فرنسا لمدة عام واحد من (ماي 1924-أبريل 1925) أو من خلال تجربة الجبهة الشعبية والوزير ليون بلوم والذي تحمل المسؤولية في الفترة الممتدة من (يونيو 1936- يونيو 1937)، وتعتمد إستراتيجية الإغارة على السلطة على القيام بهجوم على السلطة في هذه المدة المحددة من أجل القيام بالإصلاحات الضرورية لصالح الشعب وضد تكتل المال والاقتصاد، وبالتالي من المفروض استغلال كل دقيقة في هذه السلطة من اجل تنزيل الإصلاحات النوعية (لأنك لا تملك السلطة الفعلية، وكل ما تملكه هو مقام عابر في هذه السلطة فتصرف كأنك تغيير عليها فقط، لصالح الطبقات الاجتماعية التواقة للتغيير والمحرومة من الاستفادة من خيرات البلاد ومن أموال دافعي الضرائب). إستراتيجية الإغارة على السلطة تتطلب من الفريق السياسي الذي يوجد في الحكم التوفر على برنامج واضح ومرتب وفق أولويات (ترتيب الأهم ثم المهم) زمنية وتتطلب السرعة في إنجاز هذه الإصلاحات (لأن السرعة وحدها هي التي تسمح للتشكيلات السياسية التي لا تتحكم في الزمن ولا تعرف متى تنتهي مهامها، من تحقيق نتائج إيجابية في الزمن القصير)، من خلال ما يطلق عليه بالقيام بالإصلاحات بسرعة البرق (حكومة مانديس فرانس في فرنسا والتي حكمت لمدة لم تتجاوز السبعة أشهر، (18/06/1954الى05/02/1955) كان هدفها الأساسي وضع حد لمشاركة فرنسا في الحرب بالهند الصينية، واعتبرت تحقيق هذا الهدف نجاحا باهرا لها). العمل في ظل الزمن القصير كان يفرض على حكومة عبد الله إبراهيم تبني إستراتيجية الإغارة على السلطة، مع العمل على تنزيل الإصلاحات بسرعة البرق. وكنموذج للإصلاحات التي تمت بسرعة البرق الإصلاح المتعلق بحماية المال العام، بحيث تم تنزيل ثلاثة إصلاحات أساسية ومهمة في يوم واحد، هو يوم 14أبريل 1960، ويتعلق الأمر بثلاثة ظهائر تهم المفتشية العامة للمالية ومراقبة المؤسسات العمومية والهيأة الوطنية للحسابات (وذلك قبل شهر من إقالتها)، تم ذلك على الرغم من أن الرأي الغالب في دهاليز السلطة آنذاك كان هو ترك الحرية للمتصرفين في المال العام من أجل الصرف بحرية ودون رقيب؛ لأن البلد كان حديث العهد بالاستقلال وكان في حاجة إلى السرعة والحرية، من أجل إعادة البناء ولكن حكومة اليسار الأولى كانت تتبنى مقولة لينين الشهيرة، والتي وجهها إلى الآمرين بالصرف –أثق فيكم ولكن أراقبكم . إستراتيجية الإغارة على السلطة كانت تعتمد على تنزيل الإصلاحات التي تحسن ظروف عيش الطبقات الدنيا والطبقة المتوسطة والشباب والعاطلين، بكل ما يتطلب ذلك من إغارة على ميزانية الدولة، كانت البداية هي الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي، مع العمل على إنشاء بنك المغرب وصندوق الإيداع والتدبير والبنك المغربي للتجارة الخارجية وصندوق الضمان الاجتماعي ومرسوم منح التعويضات العائلية وتنزيل جزء من المراسيم الخاصة بالظهير المتعلق بالوظيفة العمومية ووو(وبالتالي يتضح مدى إغارة حكومة عبد الله إبراهيم على ميزانية الدولة ومدى السرعة في القيام بالإصلاحات البرق). السرعة في تنزيل الشق الاقتصادي والاجتماعي لبرنامج المقاومة الفرنسي لا يمكن أن يحجب حقيقة أساسية وهي أن حكومة عبد الله إبراهيم غيبت بالمطلق من برنامجها الإصلاحات المرتبطة بالدستور والمؤسسات المنتخبة، وتركت المنجزات التي حققتها دون حماية من طرف مؤسسات منتخبة قوية قادرة على حماية هذه المنجزات. كما أن حكومة السيد عبد الله إبراهيم لم تواكب المنجزات التي قامت بها بحملة إعلامية توضيحية تجعل تلك المنجزات ضمن محاسبتها السياسية. وقد يكون ذلك راجع إلى أن حكومة اليسار الأولى في المغرب كانت منشغلة بالإنجاز والسرعة في الإنجاز، ولم تكن تملك الوقت الكافي للممارسة هواية الكلام (على الرغم من أن التجارب السياسية تحتاج إلى الكلام للتوضيح والتبرير والدفاع)؛ ولكن عبد الله إبراهيم كان مقتنعا بمقولة الرئيس الأمريكي السابق ترومان عندما قال- لا أملك هواية الكلام، ولكنني صادق ونزيه وعادل وهذه خصال تمنح الطمأنينة والهدوء للشعب. 5 الظروف السياسية والتاريخية والاقتصادية المحيطة بتعيين حكومة عبد الرحمان اليوسفي تحمل السيد عبد الرحمان اليوسفي المسؤولية الحكومة في ظرف كان المغرب يتهيأ فيه لمرحلة انتقالية بين ملكين، وكذلك في ظرف كان فيه المغرب مهدد بالسكتة القلبية. أما على المستوى الدولي فقد تزامن تحمل حكومة اليسار الثانية للمسؤولية، بانتهاء ما أطلق عليه بالثلاثين سنة المجيدة والتي امتدت من (1950-1980)، وبداية عهد النيوليبرالية أو ما أطلق عليها بالثلاثين سنة البغيضة والتي بدأت في سنة 1980، مع تحمل تاتشر وريغن المسؤولية في بريطانيا وأمريكا، ومن المعروف أن الثورة النيوليبرالية التي حملها هؤلاء كانت تعني بالواضح نهاية عصر الموظفين ومجيء عصر الرأسمال بكل ما يتطلبه الرأسمال من حرية ومكافأة مرتفعة. تحمل اليوسفي المسؤولية الحكومية في المغرب تزامن كذلك مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، ويجب التأكيد على أن هذا الانهيار نزع الخوف الذي كان يجتاح الرأسمال العالمي؛ فالرأسمال العالمي، في ظل وجود المعسكر الشرقي، كان يحسب ألف حساب لغاراته الوحشية على العمل وعلى الحماية الاجتماعية، لأن هذه الغارات كانت ترفع من شعبية الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وتمنحها ثقة الناخبين بكل ما يعنيه ذلك من العودة إلى التأميم وإصدار التشريعات التي تضيق الخناق على الرأسمال، وبالملموس شكل انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي (في جانب منه)، دافعا قويا لانطلاقة سريعة وكاسحة للرأسمال الدولي. اليوسفي تحمل المسؤولية كذلك في مرحلة كان النظام وتحالفه الطبقي في موقع سياسي واقتصادي مريح؛ وهو ما وضعه أمام خيارات صعبة، تتمثل أساسا في صعوبة المس بالمصالح القائمة أو تخفيض النفقات والتي كانت تعني عمليا المس بالأوضاع والحقوق المكتسبة. كما أن تحمل السيد اليوسفي للمسؤولية قد تزامن محليا مع تقرير المؤسسات الدولية التي كانت تتنبأ للمغرب بمرحلة السكتة القلبية، وهو ما جعل المؤسسات الدولية تشجع على تبني خيار السوق والقليل من الدولة. تحمل حكومة اليسار الثانية للمسؤولية الحكومية تزامن كذلك مع تبني خيار السوق بالمغرب، من خلال التعديل الدستوري لسنة 1996، حيث إن هذا التعديل تبنى إصلاحا ليبراليا يتغافله مجموعة من الباحثين وهو تشجيع المبادرة الخاصة والتي كانت تعني تدشين مرحلة التوجه من الدولة في اتجاه السوق، بقوة المقتضيات الدستورية. هذه الظروف مجتمعة جعلت السيد عبد الرحمان اليوسفي مقتنعا بمقولة ألبير كامي التي مفادها- إذا كان كل جيل يحمل فكرة أن بإمكانه تغيير العالم، فإن جيلي يعرف أنه غير قادر على إعادة صنع العالم، ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة ومهمة وتتمثل في الوقوف بحزم أمام محاولات تفسخ العالم، (من خطاب ألبير كميس عند حصوله على جائزة نوبل للآداب، سنة 1957). حكومة اليسار الثانية كانت مقتنعة كذلك بأن مستقبل المجتمعات لا يتم بناؤه من خلال الحلول البسيطة والواضحة المعتمدة على المواجهة الثنائية (الدولة-السوق)، والحلين الراديكاليين –كل شيء أو لا شيء. وفي هذا السياق، كان المفروض من اليسار تطبيق الخيار الوحيد والمتمثل في المزيد من الدولة، واليمين يطبق المزيد من السوق؛ لأن أصحاب هذه الحلول كانوا يغيبون عن قصد دور المواطن، وفي الخلاصة يتجاهلون الثلاثية الذهبية المرتكزة على (الدولة –السوق-المواطن). هذه الصعوبات المحبطة كانت تحتم على حكومة اليسار الثانية العمل من خلال الإبداع في التصور، لمواجهة المد النيولبيرالي، الذي كان يستند على إصلاح دستوري ركز على تشجيع المبادرة الخاصة، وتجاوز السكتة القلبية وما كان يهيئه خبراء البنك الدولي من مشاريع تستهدف تفكيك برنامج مرحلة المقاومة والتحرير، وكل البرامج المتعلقة ببناء الدولة الاجتماعية في المغرب . 6 حكومة عبد الرحمان اليوسفي والإدارة ووزارة المالية كانت حكومة عبد الرحمان اليوسفي تعي بأن الإدارة وخصوصا نخبها ليست محايدة، وبالتالي كانت الإدارة تمثل دائما عائقا أمام التغيير، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمس بحقوقها وامتيازاتها. حكومة التناوب كانت تركز بالأساس على وزارة الاقتصاد والمالية، وكان السيد عبد الرحمان اليوسفي معجبا جدا بالإنجازات التي حققتها حكومة عبد الله إبراهيم في مدة وجيزة من خلال الثنائي (عبد الله إبراهيم-عبد الرحيم بوعبيد) وبالتالي اعتمد هو كذلك على ثنائية (عبد الرحمان اليوسفي –فتح الله ولعلو). لعبت وزارة الاقتصاد والمالية وأطرها ونخبها دورا مهما في نجاح حكومة التناوب التوافقي في مهامها، وتجب الإشارة في هذا السياق إلى أن النخب والأطر العليا والمتوسطة والتي كانت منظمة في إطار جمعيات المديريات والجمعيات العابرة للمديريات (جمعية المفتشين...) وكذلك النقابات قد شكلت قوة اقتراحية، خصوصا بعد أن تجاوب ولعلو مع جزء من مطالبها المتعلقة بالعدالة والمنافسة الشريفة على المناصب داخل الوزارة؛ وهو ما جعل جزءا من الوظيفة العليا الوظيفة داخل الإدارة يسترجع لسانه وحسه النقدي. محاولة استمالة جزء من الوظيفة العليا من طرف حكومة اليسار الثانية كان الهدف منه استرجاع ما سماه ميشيل دوبري خزائن القيادة الموجود لدى الوظيفة العليا والتقنقراط، هذه الإجراءات لعبت دورا مهما في فرملة مقاومة المناصب العليا داخل وزارة المالية وداخل الإدارة، ولو بشكل جزئي. 7 اليوسفي وإستراتيجية حماية مقومات الدولة الاجتماعية تحمل اليوسفي للمسؤولية جاء في سياق مغاير وتحديث نظري جديد، فأمام شعار الأمس الذي كان يركز على الاشتراكية ضد السوق، فإن التحديث النظري الجديد صار يركز على أن ما بين الاشتراكية والسوق هناك شيئا آخر أهم وهو الوطن، واعتمد التحديث النظري كذلك على ترسيخ فكرة أن الاجتماعي والاقتصادي يجب أن يتقدما بشكل متواز ومنسق؛ وهو ما دفع حكومة اليسار الثانية إلى تبني شعار المجتمع الوطن السوق. أغلبية التجارب الديمقراطية في العالم كانت تركز على العقد الاجتماعي لجون جاك روسو(1762). ومن هذا المنطلق، عملت على تأسيس الشرط الاجتماعي على العقد، وهو ما عمل على ربط المجتمع الجيد بالمشروع الديمقراطي، لكن آدم سميت (1776) جعل من السوق المؤسسة الخفية التي تعمل على تنظيم العالم الاجتماعي، وبالتالي ركز سميت على مجتمع السوق، أطروحة المفكرين (جون جاك روسو-آدم سميت، والتي كانت تقريبا متزامنة) عملت على تجميع الثنائيتين (الدولة-السوق). حكومة التناوب الديمقراطي كانت مقتنعة، كذلك، بنظرية الاقتصادي أدولف وانر (1872)، الذي سبق له أن نبّه الماركسيين، الذين كانوا يطورون نظرية صراع الطبقات ما بين البرجوازية والبروليتارية، إلى أن الصراع السياسي والمجتمعي المقبل هو صراع ما بين دافعي الضرائب والبيروقراطيين، لأنه بالنسبة إلى وانر فان دافع الضرائب من المفروض أنه يؤدي للدولة الحامية من أجل تعزيز الحماية الاجتماعية، لكن التجربة أثبتت أن البيروقراطية حولت الدولة الحامية إلى دولة مبذرة، مما يعني أن هناك معطى آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو المواطن دافع الضرائب ومن هذا المنطلق تبلورت وترسخت الثلاثية الذهبية(الدولة-السوق-المواطن). حكومة اليسار الثانية كانت متأكدة أنه لا وجود لمساء ثوري قادم ولا وجود كذلك لإجراءات تقنية تشكل معجزة، وبالتالي فإن سياسة حماية الدولة الاجتماعية (welfare state) لا يمكن الحفاظ عليها وحمايتها دون ترسيخ وتشجيع سياسة الاعتماد على العمل (workfare state). كما أن الحفاظ على سياسة الحماية الاجتماعية كان يتطلب القبول براديكالية قوانين السوق مع القيام في الوقت نفسه بالموازنة المجتمعية، وبالتالي لم تكن الظروف تسمح لحكومة اليسار الثانية بتبني إستراتيجية الإصلاحات البرق والسرعة، وأقصى ما كان متاح لها هو تبني إستراتيجية الخطوات الصغيرة المتتالية والمنسقة وكذلك القيام بالإصلاحات من خلال الصوت المنخفض و ثنائية الإصلاح والراحة من أجل استرجاع الأنفاس وهي الاستراتيجية التي دافع عنها جاك دولور عندما تحمل الحزب الاشتراكي الفرنسي الحكم في فرنسا سنة 1981،(ولكن السلبية الخطيرة لإستراتيجية الخطوات الصغيرة، إنك تتيقن من سلامة الخطوة ولكن قد تضيع الهدف وتضل الطريق). التركيز على الإصلاحات التي تهم تحسين عيش الموظفين والأجراء والعاطلين وكذلك تحسين تكلفة استثمار الرأسمال كان يعني أن حكومة اليسار الثانية تستهدف الاعتماد على برنامج يركز على محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مرتكزات الدولة الحامية والقطاع العام التقليدي والأساسي. حكومة اليسار الثانية، ومن أجل مواجهة شعار الخصخصة الشاملة الذي كان يرفع من طرف الرأسمال العالمي وحليفه الرأسمال المحلي(خصوصا بعد تقرير الجواهري عن المؤسسات العمومية –وسياسة التقويم الهيكلي والتعديل الدستوري لسنة 1996، والوصفة الجاهزة من طرف المؤسسات الدولية)، عملت على التشبث بالخصخصة الجزئية وبالتالي رفعت شعار إذا لم يكن من الممكن الدفاع عن الدولة الاجتماعية (أمام العجز والمديونية وخطر السكتة القلبية)، من الممكن الدفاع عن الدولة النصف اجتماعية (تجربة بيل كلينتون، القيام بخصخصة الثانوي من أجل توفير الاعتمادات الضرورية لإنقاذ برنامج التغطية الصحية، وهي من التجارب الناجحة لليسار الأمريكي) وبالتالي خصخصة الثانوي من أجل الدفاع والحفاظ على الأساسي. هذه الإستراتيجية كان يطلق عليها كذلك إستراتيجية اليسار الأمريكي، وهي الإستراتيجية التي دشنها الرئيس الأمريكي جون كينيدي والتي تعتمد على الانتقال من دولة الرفاه (welfare state)إلى الدولة الاجتماعية(social state). وهكذا، عملت حكومة عبد الرحمان اليوسفي إلى التعامل مع الخصخصة، ليس بالمنظور التقليدي المحض قانوني الذي يرى في الخصخصة فقط، انتقال من القطاع العام إلى القطاع الخاص، بل وكذلك إلى كون الدولة لا تملك احتكارا للعمل العمومي بل تملك احتكارا للمسؤولية عن النتائج. إن التفريق بين أنشطة الدولة الضبطية والتجارية وغير التجارية، وبالتالي الخصخصة يمكن أن يستهدف تطوير طرق التدبير والرفع من نوعية الخدمة المقدمة، وفي حالة تفويت السلطة والسيادة فان من المفروض قيام حوار عام –خاص، وبالتالي تطوير نوع جديد من تدخل الدولة (الباحثة بياتريس هيبو حول تحديث دور الدولة). الخصخصة الجزئية التي دشنتها حكومة اليسار الثانية كانت بالنسبة إليها ضرورية، لحماية أسس الدولة الحامية في ظل بلد مهدد بالسكتة القلبية، وفي إطار هذه الإستراتيجية تمكنت الدولة من القيام بمجهودات جبارة، همت بالأساس تقليص المديونية الخارجية من 19.1 مليار دولار إلى 14.1 مليار دولار، تعميم الترقية الاستثنائية على جميع الموظفين، وكلفت خزينة الدولة ما يقارب السبعة مليار درهم، واستفاد منها أكثر من مئة ألف موظف وبتكلفة مالية كبيرة تطلبت إغارة فعلية على ميزانية الدولة من خلال تطبيق ما يطلق عليه، take the money and run- ولكن هذا الشعار طبقه اليسار لصالح الأجراء والموظفين والشباب والعاطلين والطبقات المسحوقة (حكومة الشعبgouvernement du peuple) وليس لصالح الرأسمال المحلي والأجنبي (حكومة الأغنياء،gouvernement des riches)، فك العزلة عن العالم القروي-إيصال الماء الصالح للشرب للقرى النائية-ربط القرى النائية بالكهرباء، إحداث السلم الحادي عشر بالنسبة لرجال التعليم. من خلال هذه الإجراءات، كانت حكومة اليسار الثانية تتبنى فعليا ما سبق أن قاله الفيلسوف والقانوني جون بودان في القرن السادس عشر،-ليس هناك من ثروة إلا الإنسان. كما أن حكومة اليسار الثانية كانت تقوم بتنفيذ قناعة إيديولوجية وضحها الباحث لويس w.a.lewis))، والذي أكد انه لا يجب تصور النمو من خلال الاعتماد بشكل كبير على الاستثمار في الأشياء المادية المكلفة ماليا واقتصاديا وبالمقابل مردودها الاقتصادي والاجتماعي لا يوازي تكلفتها المرتفعة - الفيلة البيضاء - éléphants blancs) les)، وتخصيص هامش صغير للاستثمار في الأشخاص، خصوصا أن هذه الإستراتيجية هي السائدة في المغرب منذ الاستقلال(1956-1998)، ونتج عنها تراكم نقص كبير فيما يخص الاستثمار في البشر، مما كان يتطلب مجهودات جبارة تتجاوز استطاعة حكومة حكمت فعليا سنة ونصف السنة ودستوريا وقانونيا أربع سنوات وبالتالي كانت عاجزة عن تصفية إرث ثقيل دام أزيد من أربعين سنة، مما وضع حكومة التناوب أمام ما وضحه جيدا الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول عندما قال-عند وصولي إلى السلطة، كان أمامي خياران إما الإفلاس أو المعجزة-، وعلى الرغم من أن عصر المعجزات قد ولى، فإنه وجب الاعتراف بأن حكومة اليسار الثانية قد قامت بشبه معجزة (تجاوز السكتة القلبية- إنجاز انتقال السلطة –تقليص المديونية الخارجية-تحقيق مجموعة من الانفراجات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية). 8 من مرحلة التدبير الاستثنائي والعادي إلى مرحلة التدبير العادي كان برنامج حكومة عبد الرحمان اليوسفي يعتمد على محاولة تحسين شروط عيش الطبقات المسحوقة، ومحاولة إدماج المنتظرين والمقصيين من النموذج التنموي المعتمد على تشجيع الصادرات والانفتاح على الرأسمال العالمي، أو بعبارة السياسي الفرنسي ليون بلوم –دمج الموجودون على الباب داخل الدولة-(تسوية ملفات المعتقلين والمطرودين لأسباب سياسية ونقابية بكل ما تعنيه من كلفة مالية،إحداث 4000منصب شغل في الميزانية خاصة بترسيم المؤقتين). لقد كان المطلوب من حكومة اليسار الثانية البحث عن الإدماج وتحسين ظروف المعيشة والتخطيط والبحث عن المعنى الفعلي لتحسين مستوى معيشة المواطنين دون عجز ودون مديونية (تحويل المديونية إلى استثمارات، واستعملت حكومة عبد الرحمان اليوسفي، علاقاتها الدولية الحزبية والشخصية وبالتالي استعملت ما يطلق عليه، كناش عناوين الأصدقاء في الخارج). مجموعة من الخبراء الدوليين كانوا ينتقدون نمط الاستهلاك الباهظ للبيروقراطية الإدارية في المغرب، وبالتالي عملت حكومة اليسار الثانية على مواجهة الدولة المبذرة من خلال العمل على التقليص من حظيرة سيارات الدولة، كما عملت حكومة اليوسفي على سن القانون المتعلق باسترجاع الأموال العمومية، وعملت كذلك على عقلنة عمل الإدارة من خلال اقتراح قانون تعليل القرارات الإدارية، هذا القانون صاحبه كذلك مطالبة الإدارة بحسن الاستقبال والانفتاح، وتقديم المعطيات حول نشاطها. حكومة اليسار الثانية عملت كذلك على محاربة الفساد داخل الإدارة، من خلال العمل على تحيين النص المتعلق بالصفقات العمومية الذي ظل جامدا منذ سنة 1976، العمل على تحديث الإطار القانوني للصفقات العمومية وإن لم يتضمن تغييرا جوهريا، ولم يعمل كذلك على تفعيل العقوبات في حالة الخروقات أو وجود فساد، إلا أنه ساهم في تحريك المياه الراكدة. كما أن حكومة اليسار الثانية عملت، ولأول مرة في المغرب، على إصدار ميثاق حسن التدبير، وإن كان هذا الميثاق لم يعرف تنزيلا فعليا. تفكيك العلبة السرية للإدارة ليس بالأمر السهل؛ ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن حكومة اليسار الثانية حاولت، من خلال تدشين الخطوة الأولى، العمل على فتح الطريق أمام رحلة الألف ميل. وهكذا عملت مديرية التوقعات الاقتصادية على نشر وثيقة تتعلق بالرواتب التي يستفيد منها موظفو الدولة (لأول مرة في تاريخها)، ومن خلال العمل على تقديم المعلومة للجمهور والمواطن وتعليل قراراتها السلبية، ساهمت حكومة التناوب في تجسيد مقولة ألفريد سوفي الذي أكد-أنه فقط من خلال الإخبار الجيد، يتحول سكان بلد معين إلى مواطنين. حكومة اليسار الثانية عملت كذلك على سن قانون يمنع الجمع بين راتب التقاعد والراتب (هذه الوضعية كان يستفيد منها مجموعة من كبار رجال الدولة المعينين بظهير والذين تجاوزوا حد السن القانوني). كما أن حكومة عبد الرحمان اليوسفي هي الحكومة الأولى بعد الاستقلال التي احترمت أحكام القضاء وعملت على تنفيذ أحكامه النهائية الحائزة على قوة الشيء المقضي، (وبالتالي دشنت سنة محمودة ما زال معمول بها إلى اليوم)، على الرغم من أن هذا التنفيذ عمل على تخصيص مجموعة من الاعتمادات المفتوحة إلى اعتمادات لتنفيذ الأحكام القضائية (منشور الوزير الأول رقم 37/98بتاريخ31غشت 1998)، وبالتالي حرمت الحكومة نفسها من موارد مهمة لتطبيق برنامجها المصادق عليه من الأغلبية البرلمانية. كانت حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي تعي بأن كل نشاط اقتصادي يحمل في طياته خطرا، سواء تعلق الأمر بالاستغلال التجاري أو تعلق الأمر بالاختراع أو تعلق الأمر بأجرة الاستثمار الأولي أو تعلق الأمر بالعمل، وكل طبقة اجتماعية تناضل ليس فقط من أجل الرفع من نسبة أرباحها سواء تعلق الأمر بالعمل أو بالرأسمال، بل وتبحث كذلك عن إلقاء تبعات المخاطر على الطرف الآخر. وبالتالي من المفروض الاجتهاد والبحث والإبداع في صنع نموذج للتنمية محلي صديق للطبيعة ومقتصد ويستوعب كافة المواطنين؛ وهو ما يؤكد أن الهم الأساسي للحكومة هو محاولة الخروج بالمغرب من المرحلة الانتقالية والخروج به كذلك اقتصاديا من مرحلة السكتة القلبية إلى مرحلة التعافي والخروج به كذلك من مغرب المحظوظين إلى مغرب المواطنين. تدشين الانتقال من مرحلة التدبير الاستثنائي والعادي في مرحلة الملك الراحل الحسن الثاني إلى مرحلة التدبير العادي في عهد محمد السادس تجسد في البداية من خلال الرد الذي كتبته جريدة الاتحاد الدستوري على استجواب أجرته جريد الاتحاد الاشتراكي مع السيد محمد الساسي حول العهد الجديد، الرد حمل عنوان "ما بين الله يرحم والله ينصر بعض بنادم كيظسر"، هذا العنوان كان فعليا بمثابة نهاية مرحلة وبداية مرحلة في العلاقة التي تربط بين رئيس الدولة والوزير الأول وبالتالي حكومة اليسار الثانية. الخلافات توالت بعد ذلك حول السرعة والأولوية والإستراتيجية. هذه التطورات جسدت فعليا انتقال حكومة اليسار الثانية من التدبير الاستثنائي والحكم إلى التدبير العادي والروتيني؛ وهو ما كان يؤسس عمليا لدخول حكومة التناوب في مرحلة الجمود والسكون والارتباك. مرحلة التدبير العادي كانت تكلفتها باهظة بالنسبة إلى اليسار ككل واليسار الحكومي بشكل خاص، لأن التاريخ عودنا أن نجاح اليسار مرتبط بالنجاح في التدبير وتحقيق النمو مع تمكين فئات المجتمع كافة وأساسا الشباب والعاطلين والأجراء والفئات المسحوقة من تراكمات هذا النمو (حكومة الفقراء والطبقة المتوسطة في مواجهة حكومة الأغنياء). وحده السيد عبد الرحمان اليوسفي لم يعِ جيدا بأنه فقط وزير أول معين، وبالتالي حتى وإن فاز حزبه في الانتخابات بعد ذلك، فإن المرتبة الأولى في ظل دستور 1996، لم تكن تخول له التعيين في منصب الوزير الأول، وانتهى بالتالي زمن الحكومة الثانية لليسار، وفي الأخير وجب الاعتراف بأن حكومة اليسار الثانية قدمت مجموعة من الإنجازات ولكن هذه الانجازات لا تحجب أن هذه الأخيرة تنازلت عن إستراتيجية الإغارة على السلطة والإصلاحات بسرعة البرق، وأن السيد اليوسفي قاد الحكومة ورجله على الحصارات، وأن وزيره في المالية لم يستطع طرح برنامجه (المستلهم من تجربة اليسار الأمريكي ) للنقاش الوطني والدفاع عنه أمام الرأي العام. الخاتمة تعتبر المؤسسات الدولية، وخصوصا خبراء البنك الدولي، أن عدم فعالية الدول هي نتيجة لعدم فعالية النظام ككل. كما أن عدم الفعالية هو نتيجة كذلك للاختيارات السياسية لصالح نظام معين لتنظيم الدولة (تقرير غير موجه للعموم صدر سنة 2009)، وبالتالي ترفض الأنظمة السائدة تغيير اختياراتها السياسية وشكل تنظيمها، وحتى إن عمدت إلى فتح القوس أمام تيارات معارضة، فإن هذا الانفتاح يكون قصير المدى وبالتالي يغلق القوس قبل أن ينفذ التغيير إلى عمق السياسات أو جوهر تنظيم الدولة. بالنسبة إلى الباحثين بياتريس هيبو ومحمد الطوزي، فيعتبران أن مسألة وجود رأسين للفعل السياسي في المغرب (المؤسسة الملكية-مؤسسة رئيس الحكومة) أنتج تعاقب مراحل تتميز بالتعاون بين الرأسين ومراحل تتميز بالتنافس، مراحل التنافس هذه تتميز بالصراع من أجل التوقع والتموقع، خصوصا عندما يتعلق الأمر بنسب المنجزات ضمن المحاسبة السياسية لطرف معين. مراحل الصراع والتمايز هاته تم تسجيلها خصوصا في مرحلة حكومة السيد عبد الله إبراهيم (المقاومة من خلال عدم التوقيع على الظهائر) ومرحلة حكومة التناوب التوافقي مع الاشتراكيين المغاربة (خصوصا بعد موت الملك الراحل الحسن الثاني). وقد سبق للباحث جفريJOFFRE-G، في بحثه الذي يحمل عنوان: "الملكية والشرعية"، أن أكد أن الملكية في المغرب تبقى وفية دائما لإستراتيجيتها الأساسية المعتمدة على تعزيز التحالف الطبقي القائم وتوسيعه من خلال الزبونية والأبوية والريع، وبالتالي لا تقبل السياسات التي تمكن من تأطير المجتمع بكل فئاته (مما يثبت تعارض إستراتيجية المخزن مع إستراتيجية اليسار التي تفضل خدمة المجتمع بمختلف فئاته)، كما أنها ما زالت غير مستعدة للتحول بالمطلق من الشكل التقليدي وغير العقلاني إلى الشكل التعاقدي والشكل المؤسساتي.