إن حضارة المملكة المغربية منذ نشأتها قامت على الحرية والتسامح المفضي إلى التعايش الديني، فدستورها عبر التاريخ كان يستلهم من "ميثاق المدينة" الذي أنشأ مجتمعاً مدنياً عالمياً قائماً على الولاء التعاقدي بين أفراده وجماعاته، متنوعا في انتمائه الديني والعرقي واللغوي، من خلال الالتزام بمجموعة من المبادئ الأخلاقية الكلية التي شكلت الميثاق المدني، وأخضعت ولاء العضوية للجماعات السكانية المختلفة (من مسلمين ويهود ومشركين) إلى الولاء التعاقدي. فنحن المسلمين المغاربة نستلهم الفهم الصحيح لمبادئ الدين، كما نستلهم تراثنا الحضاري وتاريخ هذه المملكة العريقة في التعامل النبيل بين المسلمين وبين غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، من مرجعين أساسين هما القرآن والسنة. فالمرجع الأول للمبادئ التي نلتزم بها هو القرآن الكريم الذي أعلن تكريم الله للإنسان من حيث هو إنسان؛ كما أن المشيئة الإلهية اقتضت أن يخلق الناس مختلفين في أديانهم على نحو ما هم مختلفون في ألوانهم ولغاتهم وأعراقهم؛ وذلك ما وطَّن في نفوس المسلمين قبول التعددية. وأوجب القرآن على المسلمين الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، وتعظيم مقاماتهم، ودعا إلى عدم استفزاز أهل الكتاب، وألا يجادلهم المسلمون إلا بالتي هي أحسن، وأمر بالعدل معهم في كل المواقف ونبذ الكراهية المؤثرة في التعامل معهم. يذكر عماد الدين خليل نقلا عن «لويس يونغ» قوله: "…إن التسامح الديني الذي مارسه الإسلام في القرون الوسطى يفوق التسامح الديني الذي مارسته المسيحية في القرون الوسطى، إذ كاد ألا يكون هناك أي تساهل ديني مع اليهود أو المسلمين والآخرين الذين خضعوا لسلطان المسيحية"(1)… وببزوغ شمس الإسلام أعلن وبكل صراحة ووضوح عداوته للتطرف والغلو، سواء في الدين أو في التعامل الأخلاقي البشري، متوخيا في دعوته أسلوبا حضاريا راقيا يقوم على مبدأ التسامح، ويندد بالتعصب الديني والإرهاب الفكري؛ وقد أعلن القرآن ذلك بصراحة ووضوح في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ…﴾ (البقرة:256). أما المرجع الثاني لمبادئنا فهو سنة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي جاءت تطبيقاتها العملية شارحة للقرآن، وفيها أوصى خيرا باليهود والنصارى، ودعا إلى حقن دماء الرهبان والعباد والمنقطعين في الصوامع في حالات المواجهة، وأقام معاملات مع اليهود، وأسس أحكام المعاهدات وحماية الكنائس، وعدم مضايقة أهلها، وأقر الزواج بالكتابيات. وكانت لمختلف أوضاع تعايش الإسلام والمسلمين، تعايشا سلميا مع أهل الديانات الأخرى، آثار نافعة على كل ميادين الحياة، بما فيها المعاملات والتجارات والصناعات وتبادل الأفكار. وهكذا تكون حالة السلم والأمان في نظر الإسلام هي الأصل في تعامل الأديان. وعلى أساس أحكام الإسلام العادلة تمتع أتباع الديانات السماوية في ظل الدولة الإسلامية عبر التاريخ بالحقوق وحماية الأنفس والأعراض والأموال، وخاصة بحق ممارسة الدين وما يتبع ذلك من ممارسة طقوسه، والعمل بمقتضى شرائعه؛ وذلك تفعيلا لما يقرره الإسلام من المساواة بين المسلم وغير المسلم في صيانة حرمات الأنفس والأموال وحرية ممارسة الشعائر التعبدية. وتعدى الأمر مجال الحقوق إلى العواطف والمشاعر الاجتماعية المعبر عنها في التعامل اللائق مع أهل الكتاب في حال المرض والجنائز، ومواساة ذوي الحاجة بالصدقة والوقف. فبلدنا الحبيب (المملكة المغربية) كان – ولازال – قيادة وشعبا نموذجا مُلهما في رعاية الحقوق الدينية لكل مكونات المجتمع، وراعيا لرصيده التاريخي الغني بالتسامح والتعايش والتمازج بين المسلين وغيرهم ممن اشتركوا معهم في الانتماء إلى الوطن، أو ممن لجؤوا إليه خوفا من اضطهاد ديني أو جور سياسي أو ظرف اجتماعي. وعرف بلدنا نماذج حضارية متميزة في مجال تساكن وتفاعل المسلمين مع أهل الديانات السماوية الأخرى، ولاسيما اليهود والنصارى. ومن العهود المشرقة في تاريخ هذا التساكن ما أسفر عنه الالتقاء على صعيد بناء الحضارة المغربية الأندلسية، إذ ازدهرت بين مختلف الطوائف التجارات والصناعات والفنون وتبادل ثمرات الحكمة والفلسفة والعلوم، ولاسيما عندما انتقل عدد كبير من المسلمين مهجَّرين من الأندلس إلى المغرب في ظروف عصيبة، وانتقل معهم يهود انضافوا إلى اليهود الموجودين في المملكة، فارين من بطش نصارى الأندلس وإرهابهم. ولم يعتبر المسلمون المغاربة حينذاك اليهود أقلية على مستوى المعاملة، بل كانوا كالمسلمين موجودين في كل الأنشطة والمجالات، منتمين إلى كل الطبقات الاجتماعية، مُسْهمين في بناء المجتمع، ومتميزين بثقافتهم؛ ولولا جو الاطمئنان الذي عاشوه من خلال الحرية والحقوق التي تمتعوا بها، لما كان لهم الإسهام المشهود إلى اليوم في العلوم الدينية والاجتهادات الشرعية المتميزة داخل التراث اليهودي في العالم. وحرصا على إظهار ما درج عليه أسلافنا الأماجد من التسامح والتعايش، نشير إلى ما قام به السلطان المولى الحسن الأول من إهداء أرض تقوم عليها- وإلى اليوم - الكنيسة الأنكليكانية في طنجة، كما نذكر ما قام به المرحوم محمد الخامس بحماية رعاياه من اليهود المغاربة من بطش حكم فيشي المتحالف مع النازية. هذه الوقفة المبدئية لازال يذكرها اليهود عبر العالم، ولاسيما اليهود المغاربة. كما نذكر ما بادر به المرحوم الحسن الثاني من استقبال البابا بولس الثاني في أول زيارة له لبلد مسلم سنة 1985م. لقد جاءت زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب ليس لإبراز الدور الفاعل الذي يقوم به المغرب على الصعيد الإقليمي والدولي، فتاريخه وحضارته شاهدة عبر الزمن على هذا الدور المحوري الذي كان ومازال يتولاه كحلقة وصل حضارية بين المشرق والمغرب، وبين الشمال والجنوب. بل زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب جاءت للتأكيد على الدور الرائد في الاعتدال العقائدي والتسامح الديني والتعايش السلمي بين جميع الأديان الذي يمثله المغرب، والمكانة التي أصبح يمثلها البلد ضمن الدول الصاعدة، والدور الفعال الذي يلعبه في إطار إحلال السلم والأمن في العالم، من خلال محاربة الإرهاب والتطرف. الإستراتيجية الهادئة والمتدرجة التي وضعها ملك المغرب، والمُتَّبعة من قبل الدبلوماسية المغربية برجالها ونسائها، أثمرت بالزيارات المتعددة والمتكررة لدول إفريقيا الفرنكفونية والأنجلوساكسونية على السواء، ودول العالم كروسيا والهند والصين وغيرها، وتنويع العلاقات التجارية مع دول العالم، وفتح المجال للاستثمارات الأجنبية المتنوعة في مجالات الطيران والسيارات والتكنولوجيا المتقدمة داخل المغرب، وتنويع البنى التحتية التي يحتاجها الاقتصاد الوطني من طرق ومطارات وموانئ ومعامل... دون أن ننسى الاستثمارات الكبيرة التي وقعها المغرب مع دول إفريقيا لمساعدتها على النهوض بالمجال الفلاحي والصيد البحري والصناعي، وتحسين المجال الاجتماعي والبيئي؛ كما ساهم في نشر الفكر المعتدل في إفريقيا وأوروبا والعالم من خلال تدشين مؤسسة محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات. وأثمرت هذه الإستراتيجية الهادئة للسياسة الخارجية للمغرب بالرجوع المظفر إلى حاضرة منظمة الاتحاد الإفريقي، رافع الهامة بطلب من عديد من الدول الإفريقية، ليسترجع مكانته اللائقة به لريادة القارة كما كان عبر تاريخه المجيد. وأصبحت المملكة المغربية محط اهتمام العالم، وذلك بعقد المؤتمرات الدولية في مختلف مدنها، كالمؤتمر العالمي للبيئة (كوب 22)، والمؤتمر العالمي للهجرة، ومؤتمرات أخرى. ونختم ببعض المقتطفات من الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في مؤتمر حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي الذي انعقد في مراكش شهر يناير2016م: "....وكلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعا بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته، وهو التعاون على كلمة سواء، قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام، بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد...والتحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء. إن عالمنا اليوم في حاجة إلى قيم الدين، لأنها تتضمن الفضائل التي نلتزم بها أمام خالقنا رب العالمين، والتي تقوي فينا قيم التسامح والمحبة والتعاون الإنساني على البر والتقوى، لا في سماحتها وحسب، بل في استمداد طاقتها من أجل البناء المتجدد للإنسان، وقدرتها على التعبئة من أجل حياة خالية من الحروب والجشع، ومن نزعات التطرف والحقد، إذ تتضاءل فيها آلام البشرية وأزماتها، تمهيدا للقضاء على مخاوف الصراع بين الأديان". قال تعالى: - { ولو شاء ربُّكَ لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين.} ( يونس- 99) . - { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفواٌ، إن أكرمكم عند الله أتقاكمْ، إن الله عليم خبير} (الحجرات 13) . - { إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغيٌ، يعظكم لعلكم تذكرون(). وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتمُ الله عليكم كفيلاٌ. إن الله يعلم ما تفعلون.()} ( النحل- 90-91 ) والحمد لله رب العالمين. (1) قالوا عن الإسلام، ص 362. *عضو مؤسس لحركة المجاهدين بالمغرب. باحث وكاتب في الفكر والحركات الإسلام