جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغة الضَّاد ومَدىَ تأثيرِهَا في اللّغة الإسبانيّة
نشر في هسبريس يوم 21 - 03 - 2019

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا** وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
إلى المُتخاصمين من الخلق الذين مازالوا حيَارىَ في استعمال لغاتِ دخيلةٍ بدلَ لغتهم في التعليم!.
مازالت تترى وتتوالى الدّراسات، وتتعدّد وتتنوّع النقاشات، وتُطرح التساؤلات والتخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة، والابتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة، وطاقاتها الكبرى، مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً. كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات، والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني العربيّة حقا من هذا النقص..؟ وهل تعيش نوعاً من العزلة إلى درجة أنّها في حاجة إلى حماية ودفاع ومناقشات من هذا القبيل..؟.
الواقع أنّ اللغة العربية في العمق ليست في حاجة إلى ارتداء درع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة المتخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل والقرائن قديماً وحديثاً أنّ هذه اللغة كانت ومازالت لغة حيّة نابضة، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المتشكّكين من نعوت، وعيوب، كانت أثارتها في الأصل زمرة من المستشرقين في منتصف القرن المنصرم، حيث اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، وما كانت لتعدّ مشاكل أو نواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض من ذلك إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة، وبثّ الشكوك في ما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين إحلال محلّها لغةَ المستعمِر الدخيل، والتاريخ شاهد على الشأو البعيد الذي أدركته هذه اللغة، حيث كانت لها الغلبة، وبالتالي تأثير كبير في إحدى اللغات العالمية الحية واسعة الانتشار التي تتباهى اليوم بهذا الإنجاز، وهي اللغة الإسبانية.
الضّاد وتأثيرها في لغة سيرفانتيس
كان للغة الضّاد بالفعل تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، مّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوّة وجزالة وفحولة وخصوبة هذه اللغة التي ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر، مطواعة مرنة سلسة متفتّحة متسامحة، ينبوع جنان تأخذ وتعطي بسخاء وكرم لا ينضب معينهما.
تعيش اللغة الإسبانية في الوقت الحاضر تألقاً، وازدهاراً، وقبولاً، وانتشاراً واسعاً في مختلف ربوع المعمور. ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من سموٍّ، ورفعةٍ، و"أوج"، حيث يحلو لهم عند الحديث عن انتشار هذه اللغة والإشعاع الذي أصبحت تعرفه ثقافتهم استعمال هذه الكلمة العربية بالذات، وهي "الأوج"، والتي تُنطق عندهم (Auge)"أَوْخيِ"، حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة في اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم "خِبْرَلْطَارْ"، وكلمة جَبَليّ تنطق "خبليّ"، وهو "الخنزير البرّي الذي يعيش في الجبل"، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى "أَلْخَامَا"، والجرّة غدت "خَارّا"، وهو الدنّ أو إناء الفخار، ونهر "وادي الحجارة"، الذي تحوّل إلى "غْوَادِيلاَخَارَا"...إلخ..إنهم يبذلون جهوداً مضنية، ويرصدون إمكانيات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كل ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها، وأصحابها، وأبنائها، وأحفادها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، أو نجله العاهل الإسباني الحالي فيليبي دي بوربون، حيث يحرصان على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية، أو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة عند انضمام عضو جديد إليها أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها. وتصرف الدولة الإسبانية أموالاً طائلة ومبالغَ باهظة في سبيل نشر لغة سيرفانتيس وثقافتها والتّعريف بتاريخها، وبآدابها، وفنونها، وتراثها.
الفراهيدي يعانق نيبريخا !
يهدف التنسيق بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة فيها إلى توحيدها ومحاربة الدّخيل لجعل حدّ "للغزو اللغوي" الأجنبي. وأعدّت أكاديمية اللغة الإسبانية بالتعاون مع جميع أكاديميات اللغة الإسبانية الأخرى الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، والتي يبلغ عددها 21 أكاديمية، لهذه الغاية معجماً إسبانياً فريداً في بابه وهو: "معجم الشكوك الموحّد"، بمعنى أنّ أيّ متحدّث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية، الذي قد يخامره شكّ أو ريبة حول أيّ استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة، سوف يجد ضالته في هذا المعجم.
والإسبان واعون بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في مختلف البلدان، وهم يعلمون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر اللغات الحيّة تأثيراً وانتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن وما بعده. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها – حسب التوقعات المستقبلية – ما ينيف عن 100 مليون خلال العقدين القادمين.
وتعرف اللغة الإسبانية تقدّماً مهمّا في البلدان العربية، وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والباحثين، وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية. وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة للجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً، نظراً لعوامل تاريخية وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان بحكم الجيرة والجغرافية والتاريخ.
ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الإسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّدفة، بل يرجع إلى عدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أنّ "الأوج" الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم حقق للثقافة الإسبانية انتشاراً في مختلف أنحاء المعمور وحضوراً مهمّاً في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر، والتأليف، والمسرح، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والأدب وأخيراً في السّينما.
وتتعاون إسبانيا مع شقيقاتها ببلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة في هذا الاتجاه لتقوية وتعزيز الهويّة الثقافية في ما بين هذه البلدان، باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر وتعاون أوثق في ما بينها، في مختلف المجالات. وقد قامت هذه البلدان بالإضافة إلى معجم الشكوك اللغوية الموحّد بإصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو الإسباني كذلك. والإسبان، وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية على وعي تامّ بأنّ هذه الجهود لا بدّ أن تؤتي أكلها، إذ لا بد أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم، وبالتالي تقدّم اقتصادي وازدهار سياحي، خاصّة أنّ إسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحية في العالم، إذ تعرف هذه الصناعة عندهم تقدّماً هائلاً وتطوّراً مذهلاً. وتعتبر المآثر والمعالم الحضارية الإسلامية في الأندلس عنصراً هامّاً في جذب السّياح من مختلف أنحاء العالم، مثل قصر الحمراء بغرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب)، بالإضافة إلى العديد من القصور والحصون والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الإسبانية، كصومعة لاخيرالدا، بمدينة إشبيلية (توأم أختيْها صومعة "حسّان" في الرباط، و"صومعة الكتبية" بمراكش)؛ فضلاً عن برج الذهب في إشبيلية كذلك، ومسجد الجامع الأعظم في قرطبة الفيحاء، وقصر الجعفرية بمدينة سرقسطة، وسواها من المآثر العمرانية والمعمارية الأخرى.
"نيبريخا"، وهو أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية، أي إنه يعتبر بمثابة الفراهيدي ومعجمه "العيْن" في لغة الضّاد، يقول في مقدّمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إزابيلا: "اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية". يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى إنّ "اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، والجذور، والحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق"، ( يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الإسباني في ذلك الإبّان).
يستحيل فهم تاريخ إسبانيا دون معرفة اللغة العربية
يؤكّد الدارسون أنه لا يمكن الحديث عن "أوج" اللغة الإسبانية وتراثها وغناها وانتشارها دون التطرّق إلى الينابيع التي تستمدّ منها أصولها هذه اللغة، فرغم جذرها وأثلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته لغة الضّاد في هذه اللغة على إمتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس، وهي غرناطة، 1492م، بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم عشرات الآلاف عام 1609. وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحقّ وللتاريخ وحفظاً للأمانة العلمية.
يؤكّد جميع الباحثين والمؤرّخين والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف، بما لا يترك مجالاً للشكّ. وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك، حيث أكّد الرّوائيان الإسبانيان خوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وسواهم، أنّه "يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين دون معرفة اللغة العربية". وهكذا يؤكّد "غالا" بالحرف في هذا السياق أن "اللغة بالنسبة له أساسية، بل إنها هوَسه وقدَره، وهو يعمل محاطاً بالعديد من القواميس لأنّ اللغة الإسبانية في نظره لغتان أو فرعان اثنان، فرع ينحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية، إلى درجة تبعث القشعريرة في الجسم". ويورد غويتيسولو في نفس الاتجاه: "إنه يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها دون معرفة اللغة العربية، إذ كلّ ما يتداول حول هذا التاريخ وصلنا مُترجَماً، والترجمة هي نوع من الخيانة كما يقول المثل الفرنسي". الحاجة إذن ماسّة إلى ضرورة القيام بدراسة علمية، تاريخية، تحليلية معمّقة لهذه البديهية في الجامعات، والأكاديميات، والمعاهد العليا التي لها صلة بهذا الموضوع؛ فضلاً عن مختلف المؤتمرات، والندوات، والتظاهرات التي تُنظّم بين الوقت والآخر حول اللغة العربية، وحول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك.
الكاتب الإسباني الراحل "كاميلو خوسّيه سِيلا"، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، فاتته - ذات مرّة- وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الإسبانية، الإشارة صراحة إلى هذه الحقيقة البديهية، وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية، وهو الذي كان يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته ورواياته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنواناً عربياً واضحاً، وهي روايته المعروفة "رحلة إلى القارية"، والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية. إلاّ أنّ هذا الكاتب سرعان ما عاد واعترف خلال ندوة دولية أخرى بأنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهمية وانتشاراً، حيث قال بالحرف الواحد: "نحن الإسبان وسكان أمريكا اللاتينية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية".
الضّاد ولغة سيرفانتيس..تعايشٌ متناغم
وحسبنا أن نشير في هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين اللغة العربية واللغة الإسبانية خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبشكل خاص في الأندلس، حيث تعايشت هاتان اللغتان جنباً إلى جنب. للغتنا الجميلة تأثير بليغ في لغة سيرفانتيس كما هو معروف، وبحكم هذه المعايشة يقول المستشرق الإسباني القرطبي الدكتور "أنطونيو مانويل رودريغيس رامُوس" في إحدى تخريجاته الباهرة حول موضوع الكلمات الإسبانية ذوات الأصول العربية: "إن اللسان الإسباني مطبوع بالتأثير العربي بشكل مُبهر"، ويسوق بعض الكلمات والمصطلحات العربية التي استقرّت في لغة سيرفانتيس، والتي مازالت تستعمل إلى اليوم في مختلف المجالات، مثل: كلمات Jaram التي لا يقول المعجم الإسباني عنها أيّ شيء، وإنها من جذر مجهول، وهي في الواقع من أصل عربي وهو "حرام"، و"فرَح لِبْس" أوFarahlibs ، وهو اللباس الذي ترتديه عادة راقصات الفلامينكو. ويقول المستشرق الإسباني إنّ Feria تنحدر من الفرح، وMarfario هو الفرح غير المكتمل، ويضيف: "هذه الكلمات كلها يتيمة في المعجم الإسباني، وكلمة "الفلامينكو" هي الأكثر يتماً في هذا المعجم، وهي تنحدر من كلمة (الفلاح المنكوب)، وهي من العربية الموريسكية. ويضيف الباحث الإسباني أن بني طينته أصبحوا كمن أصيب بمرض الزهايمر اللعين، فهم ينظرون إلى المرآة ولكنهم لا يعرفون أنفسَهم.."إنهم حتى ولو حاولوا بتر أطراف منا فلن يكون في مقدورهم محو تاريخنا وذاكرتنا وحضارتنا، بل لقد بلغ بهم الأمر أن رحّلوا وهجّروا عنوة ًوقسراً وقهراً العديد من الموريسكيين، كما أنهم أضرموا النيران في كتبنا وحادثة (باب الرملة) بغرناطة أشهر من نار على علم، إذ أضرم الكاردينال سيسنيرون النيران في الآلاف المؤلفة من الكتب والمخطوطات العربية في هذه الساحة التي مازالت موجودة إلى يومنا هذا، وهي جريمة لا تغتفر وأمر يُؤسف له حقّاً.
ذاكرة الموريسكييّن والدكتور رامُوس
تجدر الإشارة إلى أن المستشرق الإسباني القرطبي الدكتور "أنطونيو مانويل رودريغيس رامُوس"، الذي تربطني به صداقة متينة، كان قد شارك معنا منذ سنتين في المؤتمر الدولي حول الموريسكيين الذي نظمته بالرباط، وأشرفتْ عليه "مؤسّسة ذاكرة الموريسكيين" التي يرأسها ويشرف عليها الصديق الدكتور محمد نجيب لوباريس. ومنذ ذلك المؤتمر الدولي حول الموريسكيين أصبحتُ عضواً في هذه المؤسّسة الرصينة، وتعرّفت على هذا الباحث الإسباني الهائم والمتيّم بالحضارة الأندلسية وتاريخها التليد؛ وقد تطرّق خلال الملتقى المذكور إلى العديد من المعاني والمصطلحات والمسمّيات والأسماء التي تنحدر من أصول عربية، والتي استعملت معظمها مرارا في العديد من مقالاتي ودراساتي وأبحاثي عن الأندلس.
ولقد عملت لسنوات عديدة (عشر سنوات) قبل التحاقي بالسلك الدبلوماسي المغربي خبيرا بمكتب تنسيق التعريب في العالم العربي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالرباط (أليكسو أو يونيسكو العرب)، وكنت أشرف على تحرير المجلّة المتخصصة الكبرى الرصينة التي كانت تصدر عن هذا المكتب الدولي، والتي مازالت تصدر إلى يومنا هذا وهي "اللسان العربي"، كما كنت مشرفاً على أقسام ثابتة فيها ونشرتُ بها الكثير من المقالات حول الأندلس وتاريخها الزاخر. وكنا في المكتب كثيراً ما نتوصّل باستفسارات من الطلاب وبعض المستشرقين والمستعربين والدارسين الإسبان، يسألوننا عن أصل وأثل العديد من المصطلحات الإسبانية التي تنحدر من اللغة العربية واستقرّت في لغة سيرفانتيس.. وإن العديد من التعابير والمصطلحات والمسمّيات التي وردت في هذا العرض القيّم استقرّت ومازالت مبثوثة في اللغة الإسبانية وهي من أصل عربي أندلسي. ومن الكلمات التي لصقت ولزمت ذاكرتي كلمة كنت أقرؤها عندما أمرّ بجانب مدينة Jaen... نسبة إلى القاضي جيّان..وكان مكتوباً على اللوحة كلمة IZNALOZ. لم أستطع فكّ لغز هذه الكلمة إلاّ عندما قرأت كتاب السفير المغربي ابن عثمان المكناسي "الإكسير في فكاك الأسير"، حيث شرح لي أن هذه الكلمة تعني "حِصْن اللوز"، وبعد ذلك أصبح يُكتب في المعاجم الإسبانية ما يلي: Iznalloz del árabe hisn al-lauz o 'castillo de almendra وكانت مفاجأتي أكبر عندما اكتشفت أنه في هذا المكان تكثر فعلاً أشجار اللوز..!
كلمات إسبانيّة من أصول عربيّة
يشير عدلي طاهر نور في مقدمة كتابه "كلمات عربية في اللغة الاسبانية" إلى أنه "لا جدال في أنّ اللغة العربية ظلت لعدّة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السّائدة في العالم، ولا عجب أن نسمع "ألبارُو القرطبي" في القرن التاسع الميلادي يستنكر انصراف الإسبان في شبه الجزيرة الإيبيرية عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم بعلوم العرب وباللغة العربية وآدابها، وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبها، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاّتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له".
ويؤكد الباحث المكسيكي "أنطونيو ألاتورّي" في كتابه "ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الإسبانية" إلى أنه "عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الإسبانية، وصار ينقّب في الوثائق والمراجع تيقّن أنّ شيئا غير عادي كان يحدث له، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة"، ويضيف: "لقد بهرني العهد المتعلق بوجود المسلمين في إسبانيا، بل إنني شعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وأبرز ما استرعى انتباهي، وسيطر على مجامعي في هذا العهد الزاهر هو التسامح، فالعرب والأمازيغ بعد أن استقرّوا في إسبانيا لم يكونوا ذوي عصبيّة، بل جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم، فساد هذا المبدأ في إسبانيا إبّان وجودهم بها. كان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش، إلى درجة أنّ كثيرا من سكان إسبانيا القدامى أصبحوا منسجمين معهم بطريقة عفوية وتلقائيّة.. لقد وجدوا طريقة الحياة عندهم مريحة وجميلة، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة". ويضيف ألاتورّي: "إنّ هناك شهادة الفيض الهائل من الكلمات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الإسبانية ليس قهراً ولا قسراً، بل لقد تقبّلها الناس طواعيةً واختياراً. لقد كان المسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحقّ أساتذة الغرب".
أمريكو كاسترُو وتأثير لغة الضّاد في الإسبانيّة
خلال التواجد العربي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبشكل خاص في الأندلس، تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب، بل لقد كان لهما تأثير بليغ في لغة سيرفانتيس. وبحكم هذه المعايشة هناك العديد من الكلمات العربيّة والأمازيغيّة التي استقرّت فيها. يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، والبناء، كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصر Alcázar، القبّة Alcoba، السّطح Azotea أو السقف، "وهي بالتوالي تُنطقُ في الإسبانية: ألكَاسَرْ، ألْكُوبَا، أسُوطييّا". وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe، وألبِرْكَة Alberca "وهي تُنطق في الإسبانية: أسِيكْيَا، ألْخِيبِي، ألبيركَا". وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّر Azúcar، الأرز Arroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa، التّرمُس Altramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas، "وهي تُنطق في الإسبانية بالتوالي: أسوُكار، أرّوث، نارانخا، الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس". وبماذا تزدان بساتيننا، أو تُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين،Jazmín والزّهر Azahar، والحبَق Albahaca، "وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا"، بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها، كلّها دخلت واستقرّت في هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها، والكتب والتآليف والمجلدات، والأسفار، والمخطوطات، والوثائق، والمظانّ تحفل بها بدون انقطاع إلى اليوم سواء في إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات في مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد.
وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي استقرّت بدورها في اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير)، واستعملها كولومبوس في يومياته، بصيغة الجمع Azagayas (الزغايات)، وهي موجودة، ومُدرجة في معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية، وغير موجودة في المعاجم العربية، لا "لسان العرب" ولا "مقاييس اللغة" ولا "الصّحّاح في اللغة" ولا "القاموس المحيط" ولا "العُباب الزّاخر"، لا في صيغة المفرد، ولا في صيغة الجمع، مِا يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المُستشرق الهولندي المعروف (رَيِنْهَارْت دُوزِي Reinhart Dozy)، وكلمة (آشْ) تُجمع ب"أشّاون" وتعني القرون، ومنها اسم مدينة المغربية (الشّاون). ويؤكّد صاحب "الإحاطة في أخبار غرناطة" لسان الدين ابنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد في شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسماً أمازيغياً هو نهر "وادي آش"، أيّ وادي القرن، وهو في الإسبانية "Guadix "، أو "río de Acci"، "Wadi Ash"، "río Ash"، بالقرب من مدينة غرناطة، وهناك "مدينة آش". إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من مدينة سرقسطة) المقتبسة من اسم مدينة "تروال" المغربية بالقرب من مدينة وزّان (وسط المغرب) (وهي من قبائل بربر صنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية. ويرجع اسم هذه المدينة إلى القبيلة البربرية "بني رزين" التي عاشت بها واستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدر من "بني رزين"، وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة في الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة شمال المغرب..ومنها كلمات مثل Gomera من "غمارة". وهي عند الإسبان اسم جزيرة في الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélez . وهذه الكلمة من اسم "بادس" وهو (اسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ "قوس قزح" وبني بوفراح ونواحيها بإقليم مدينة الحسيمة)، وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي، الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته بكل تبجيل، كما تحمل اسمَه الكريم أعرقُ ثانوية في جوهرة البحر الأبيض المتوسّط مدينة الحسيمة. واسم بادس مُستعمَل بكثرة في إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ، ناهيك عن أسماء المنتجات، والصنائع التي أدخلها المسلمون إلى أوربا في مختلف الحقول والمجالات وما أكثرها.
كولومبوس والعربية
ومن أطرف ما يمكن أن يحكىَ في مجال التأثير (اللغوي) العربي في المجتمع الإسباني هو أنّه حتى كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل كلمات عربية وأمازيغية في يومياته، ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه، أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار، بل في المسمّيات اليومية العادية. ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يومياته بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر1492 حيث يقول: "وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثمّ قدموا في اتّجاه المركب بواسطة (المعدّيات).. في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس (ألميدياس)، (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه آنف الذكر، وهي زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة مدينتي سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، ثم يقول: "واستقدموا معهم لفائف من (القطن)"، (وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس "ألغُودُون"، كما تنطق اليوم في الإسبانية)، وكانوا يحملون (الزغّايات)، وجاءت هذه الكلمة في يوميات كولومبوس باسم "أزاغاياس"، (وهي كلمة أمازيغية سبقت الإشارة إليها أعلاه تعني اليوم عند الإسبان الحرْبة القاطعة التي تثبت في الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني)، ويضيف: "كما استقدموا معهم طيور( الباباغايوس)".. "جمع الببّغاء وهو طائر يُطلق على الذّكر والأنثى، من خصائصه أنّه يُحاكي كلامَ الناس". وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّاً من هذه اليوميات الكلمات العربية والأمازيغية التالية: (المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء)، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقباً عربياً وهو "أمير البحر"، وينطق في الإسبانية مُحرّفاً بعض الشيء (ألميرانتي). ومازال هذا اللقب يُستعمل في الإسبانية إلى اليوم.
المُستشرقون ولغة الضّاد
العالم يركض ويجري من حولنا، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يومياً. والاختراعات تلو الاختراعات تترى في حياتنا المعاصرة..ونحن مازلنا نناقش ونجادل في أمور كان ينبغي تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود. ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد انصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها وزخمها وعنفوانها حبّة خردل..؟ إنها مازالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعصِ عليها دينٌ ولا عِلمٌ ولا أدبٌ ولا منطق، إنّها مازالت مشعّة، نابضة، خلاّقة، مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من الدّارسين والمستشرقين، واعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على امتداد الدّهور والعصور في هذا القبيل. يقول المستشرق الفرنسي "لوي ماسّنيون" في كتابه (فلسفة اللغة العربية): "لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغة علم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التي طبعتها على امتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والاختصار..إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة".. إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول: "للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى، والأُوّام، والهُيام، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان "هائمٌ" هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات". ويضيف ماسّينيون: "نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً، وهو "إنه يكاد أن يموت من العطش"، ولقد أصبح "الهيام"( آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والجوى، والوله، والصّبابة.
ويقول ارنست رينان: "من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحّل.. فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحُسن نظام مبانيها". ويرى "بروكلمان" أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع انتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى "إدوارد فان ديك" أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها واستيعاب آدابها. المستشرق الهولاندي "رينهارت دوزي" (صاحب معجم الملابس الشهير) يقول: "إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا اهتماما يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها". "يوهان فك" يؤكّد أن "التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة في التاريخ". جان بيريك: "العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل". "جورج سارتون": "أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين". وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابها بلغة الضاد يضيق المجال لسردها في هذا المقال.
*كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.