داخل زنزانة صغيرة في صبيحة آخر يوم قبل أن ينفذ الحكم بإعدام الفيلسوف سقراط سُمًّا، صاح سقراط في وجوه أصدقائه وتلامذته: تذكروا دائما أن الفيلسوف لا يهاب الموت لكنه يرفض العبودية، الفيلسوف يرفض التزوير، لذلك كنت ضد الديمقراطية الأتينية لأنها ديمقراطية مزيفة وسياستها مزيفة وعدالتها مزيفة، تجعل الذئب راعيا والثعلب قاضيا والصنم إلها والمومياء رئيسا. تعلمون جيدا أنتم الذين صاحبتموني طيلة حياتي أن التهم التي لفّقها قضاة أتينا لإعدامي تهم مزيفة. أنا لم أبتدع آلهة جديدة، فقط دعوت الأتينيين إلى تحطيم أصنامهم. ولم أقم بإفساد جماهير جزيرة الوقواق، بل كرست حياتي لتنويرهم. وحين احتجت الجماهير ضد تنصيب المومياء رئيسا، رفعت الذئاب رؤوسها إلى السماء تعوي مُطالبة باقتلاع رأسي بمكر ودهاء. لحين أسمع اليوم النقاشات العمياء والشقشقات الجوفاء حول أعطاب الديمقراطية العربية، وعوائق الحداثة الأعرابية، أضحك ضحكا كالبكاء، لأن المسافة بين العرب والديمقراطية أشبه بالفرق بين الحضارة والبيداء. العالم العربي يعيش إفلاسا شاملا، بكل نزاهة وموضوعية وحياد، ودون تخاذل أو تحامل، ولفهم إشكال السلطة في العالم العربي بشكل دقيق، يمكن الرجوع إلى كتاب "مفهوم الدولة" للمفكر المغربي عبد الله العروي، لنقف على حقيقة ساطعة مفادها أن الدولة العربية هي دولة فاقدة للشرعية والإجماع، لأنها تقوم على القهر والبطش والاستغلال. وهذا ما يجعل الشعوب ترفض سلطتها. حتى وقت قريب كانت الدولة العربية تنبني على المقدس الديني، تمتح منه شرعيتها ومشروعيتها، وتوظفه بطريقة مكيافيلية، مادامت قطعان الذئاب المتصارعة حول السلطة ترتدي جميعها جلباب التدين والتقوى، وتدعي أنها خليفة الله في أرضه لرعاية خرافه الضالة إلى الصراط المستقيم. ومتى كان الذئب راعيا؟؟ اليوم انسحبت عباءة اللاهوت من الممارسة السياسية العربية حتى في أرض الحرمين بعدما تدفقت أفواجا من ذئاب الإسلام السياسي تزاحم الذئاب الحاكمة بأمر الله. لذلك، اشتد الصراع بين الذئاب، ذئاب استحلت لذائذ السلطة وهي لن تفرط في خرافها الوديعة، وذئاب جديدة تتلحف بالدين كي تعيد الحكاية نفسها. أمام هذا المشهد، ومع فقدان الشعوب الثقة في كل مؤسسات وأجهزة وأحزاب الدولة، خرجت الجماهير تطالب برحيل الذئاب بطريقة سلمية في ربيع عربي أذهل العالم. غضبت الذئاب وشرعت في الانقضاض مجسدة "الطاغوت السياسي" في أبشع تجليات، وبدأت عملية خشقجة المعارضين والمحتجين في كل المراعي العربية، حوّل السيسي مصر أرض الكنانة إلى معتقل كبير، وامتدت مخالب وأنياب الأسد في سوريا تهصر المحتجين، وخرطوم البشير النذير في السودان يقذف المتظاهرين، وانتشر خوف الشعوب من المحيط إلى الخليج، والويل لمن انتقد أو امتعض أو احتج أو تثاءب أو تعثر أو تبعثر.