يعتقد كثير من الناس أن العملية التعليمية تنتهي بانتهاء الحصص الدراسية وعودة التلاميذ إلى منازلهم. غير أن الحقيقة غير ذلك، وكل عارف بأسرار هذا المجال يدرك أن الأنشطة الموازية التي يمارسها التلاميذ خارج الحصص المقررة، تعطيهم شحنات قوية للإقبال على التحصيل الدراسي، وتجعلهم يفرغون طاقاتهم الزائدة في ما ينفع ويجدي، ويقوي وعيهم وإدراكهم لخطورة مطبات الحياة. إيمانا بهذا المبدأ، ينطلق العديد من المربيات والمربين لإعطاء الحياة المدرسية نكهة أخرى تسمها اللذة والحب عوض النفور والهروب والاحساس بالملل. الأستاذة مليكة لعجاج أستاذة اللغة الفرنسية بالثانوية الإعدادية مولاي سليمان بمدينة تيزنيت، تدرك هذه الحقيقة، وتكد وتتعب من أجل جعل المدرسة فضاء يحن إليه تلامذتها فور مغادرته. فقد ركبت كل التحديات لمحاربة اليأس في نفوسهم، وردم مستنقعات الخيبة التي تبتلع المراهقين في مرحلتي التعليم الثانوي الإعدادي خاصة. اختارت الأستاذة مليكة لعجاج أسلحتها بعناية وذكاء، ولقيت مبادراتها إقبالاً كبيراً من التلاميذ والأساتذة والأمهات والآباء وأولي الأمور. حيث عزفت على الأوتار الحساسة في نفوس التلاميذ، ما جعلهم يتنافسون في الإقبال على المشاركة الكثيفة في أنشطتها المتنوعة. وكان الصوت والصورة من أدواتها التربوية المتعددة.. ونظراً لتجربتها في كتابة السيناريو والإخراج المسرحي، اقتحمت مجال السينما بتصوير أفلام تربوية قصيرة. فهي تدرك ما للفيلم التربوي من آثار إيجابية قوية على نفوس التلاميذ، فاستطاعت بذلك تغيير عدد من السلوكات السليبة التي كانوا ضحية لها بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بهم. كان آخر فيلم تربوي قصير تنتجه وتخرجه الأستاذة مليكة لعجاج بعنوان: "شتات"، و قد عمل معها الأستاذ جمال بولحيارا مساعداً في الإخراج وبدعم من جمعية أمهات وآباء وأولياء التلاميذ بالثانوية الإعدادية مولاي سليمان بمدينة تيزنيت، وهذه الثانوية الإعدادية تزخر بأساتذة أكفاء بكل تخصصاتهم، ويرومون دائما ما فيه مصلحة الناشئة. يتناول الفيلم المذكور التفكك الأسري الذي يولد تخلي الوالدين عن دورهما التربوي، ما يؤدي بالأبناء إلى الارتماء بين أحضان الانحراف بأشكاله. ونحن نعرف أن الأسرة هي الدوحة الوارفة التي يأوي إليها الطفل ويحتمي بها من عواصف الحياة وزوابعها القاسية. وإذا سقطت تلك الدوحة، سيجد نفسه في العراء، وذلك ما سيغرس في أعماقه ندوباً لا تندمل، فيركب مطية اليأس والإحباط، ولسوف ينعكس ذلك على تحصيله الدراسي، وعلى معاملاته الاجتماعية، وعلى حياته في المستقبل. بطل فيلم" شتات" تلميذ مراهق عانى من التفكك الأسري بشدة، فأبوه قد طلق أمه، فعاش انفصاماً نفسياً ولد في أعماق كيانه صراعاً مريراً جعله محبطاً وفاقداً كل أمل في الحياة. فهرب من والديه المنفصلين معتقداً أنه بذلك يهرب من واقعه المرير، ولكي يتوج ذلك الهروب أخذ يفكر في الهجرة السرية، فوضع خطة لذلك، لكن العواقب كانت وخيمة، وسوف تكتشفها المشاهدون حين يتم عرض الفيلم. عن أهداف إنتاج الفيلم التربوي تؤكد الأستاذة مليكة لعجاج أن في ذلك ترسيخاً للقيم النبيلة في نفوس التلاميذ، وتوعيتهم بضرورة التشبث بالدراسة، وتقبل الواقع المعيش والتحلي بروح التحدي للتغلب على كل الصعاب، وفيه أيضا رسالة مبطنة لأولياء أمور التلاميذ مفادها أن المدرسة وحدها لايمكن أن تقوم بدورها في التربية ما لم تؤازرها الأسرة، وأنجع الحلول لتربية ناشئة قوية ومنتجة تأتي من البيت، فالتماسك الأسري المشبع بالحب والحنان يغدي ويسقي مشاتل الأمل في نفوس الأبناء. إن فيلم " شتات" يوجه الناشئة إلى ضرورة الابتعاد عن تيارات الانحراف الجارفة، ويغرس في كيانهم المعاني الحقيقية للمواطنة والعمل المشترك الذي يرسخ قيم التضامن والعمل المشترك لدى المتعلمين. كما أن تقريبهم إلى العمل السينمائي مهم جداً، وذلك بحضورهم ورشات السيناريو والإخراج والماكياج والتصوير...إلخ. لم يكن إنجاز الأستاذة مليكة لعجاج للفيلم التربوي "شتات" سهلاً أبداً، فقد واجهت صعوبات كبيرة تتمثل في عامل الوقت، حيث تضطر إلى الاشتغال في التصوير خارج أوقات عملها وفي أوقات فراغ التلاميذ الممثلين. كما أن ضعف الإمكانيات اللوجيستيكية كان حجر عثرة، ففضاءات التصوير تبعد عن مدينة تيزنيت بكيلومترات عدة. وقد بذلت مجهودات جبارة إلى جانب فريق العمل حتى خرج " شتات" إلى النور. وبذلك حق لنا القول: إن الأستاذة مليكة لعجاج تحارب بالصوت والصورة.. أجل.. إنها تحارب بؤر اليأس والاحباط ومكامن الانحراف في نفوس الشباب عن طريق إنتاج أفلام تربوية هادفة. * حسن المددي - شاعر وروائي مغربي