1- عن الفن الفن تعبير عن الواقع بطريقة إبداعية تتجاوز الشكل المُدرَك للواقع كما هو، تتجاوزه نحو أشكال مختلِفة عن ما يقدمه هذا الواقع للحواس بشكل مباشر. إلا أن الفن لا يكون كذلك إلا بشروط ليس أقلها توفر العمل الفني على بنية متناغمة ومنسقة ومتكاملة تتميز بالقدرة على الإدهاش وعلى التشويق، إدهاشٌ وتشويقٌ أساسه ما يقدمه هذا الفن من طينة غير المألوف من الصيغ والبنيات في الحكي. يتعلق الأمر بتعبير إبداعي عن المعيش مهما كانت درجة الرمزية التي يركبها هذا التعبير الإبداعي. لم يكن الفن أقرب إلى المحاكاة التي رفضها هيجل (1) كتعريف أرسطي للفن أكثر مما هي عليه اليوم في عصر الصورة. نقصد بالمحاكاة اليوم ما تمثله الصورة من تشبه شديد بالواقع. ونقصد بالصورة بالطبع، ليس صورة النقش أو النحت ولا حتى صورة الرسم عبر مختلف مدارس الفن التشكيلي وعصور تطوره من الانطباعي حتى التجريدي ..، الصورة المُصنَّعة بواسطة التكنولوجيات الحديثة. إنها الصورة التي انطلقت في وجودها مع ظهور فوتوغرافيا « داغير »، وتبعتها صناعة الصورة السينمائية وسحرها الخاص على الجماهير مع الإخوة « لوميير »، ثم الصورة التلفزيونية ومكرها الذي بلغ ذروته اليوم مع سيطرة « الآلة السياسية والتجارية ». إن الصورة اليوم هي السمة « السلطوية » و « المُتسلطة » لعصر يُعرِّفُنا بأقصى ما هو آت من درجات تحوُّلٍ الفن والإعلام على حد سواء، ولاشك في ذلك مع الذكاء الإلكتروني المتسارع النمو بشكل ينفلت من مراقبة العقل القيمي. 2- عن الإعلام. لا حياة جماعية دون « إعلام ». ظهرت هذه الحقيقة بناء على ضرورة التواصل التي رافقت، ليس ظهور اللغة فحسب، مصِيريَّةُ مرْكزَةِ السُّلطة في الجماعة، وذلك حِمايةً للمصلحة العامة ومَنْحا للمعنىً لاحتكارها ولمشروعيةً ممارستها باسم الفضاءات العمومية المشتركة وضرورتها لأفراد الجماعة رغما عن اللاتكافؤ الصارخ الذي كانت ترعاه الأنظمة الثيوقراطية والأوليغارشية والاستبدادية على وجه العموم، وذلك قبل الترسيخ الديموقراطي الحديث الذي لازال يتعايش، مع ذلك، مع مساحات من الديكتاتوريات المتعددة اللبوس. لم يعد الإعلام اليوم وحيد الاتجاه، من جهة أخرى، من الحاكم المستبد نحو رعاياه، قيصراً كان أو أمبراطوراً، بل غدا هذا الإعلام ثنائيا بل ومتعدد الأبعاد والاتجاهات بسبب الانفتاح الديموقراطي الحديث والمعاصر، وذلك بعد ثورات الأنوار وما تلاها من تحول نحو الرأسمالية ثم مجتمعات ما بعد الحداثة حيث التواصل والمعرفة هما الأساس، . إن الإعلام اليوم هو السلطة الرابعة بالتأكيد. فهو آلية النقاش والتفكير والتدبير والتوجيه والتوعية والتربية والتنشئة والتواصل العمومي. إن الإعلام اليوم هو الوجه المشرق لدمقرطة المعرفة ولنشر الوعي. تلك صورة نسبية بالطبع بالنظر إلى أنه أيضا الوسيلة الرسمية للدول ولمؤسساتها الاقتصادية والسياسية والتجارية والثقافية والعسكرية والأمنية للتعبير عن سياساتها وعن مواقفها وبالتالي عن مصالح القائمين عليها، على الرغم من أنهم ليسوا أكثر من منتدبين - نظريا - لتدبير الشأن العام المشترك لفترة محددة وتحت طائلة ثنائية المسؤولية والمحاسبة، مقابل توفرهم على كل وسائل تنفيذ هذا التفويض والقيام به على أحسن وجه. 3- من الإعلام إلى الصناعات الثقافية والفنية. إن الإعلام، في نهاية المطاف ونتيجة لكل ما سبق، هو واسطة بين الدولة والمواطنين الذين يستمدون منه معنى لحياتهم السياسية الجماعية، ويشكلون به وعيهم ودلالات وجدوى مواطنتهم، وأهم تلوينات أذواقهم وانفعالاتهم وبالتالي، مواقفهم الأخلاقية والقيمية على وجه الخصوص، وذلك تحت تأثير هذا الإعلام ومنتوجات صناعته بما فيها الفن الحامل لهذه القيم بشكل أو بآخر. إنه الإعلام القوي وكأنه « الأخ الأكبر » لجورج أورويل (2). يعني ما سبق بإيجاز أن الإعلام هو حامل ومُُروِّجٌ الإنتاج الثقافي والفني، وهذا ما يفتح باب التساؤل عن رهانات التداخلات المُمكنة والمحتَملة، بين « الترويج والتسليع » وذلك موضوع آخر. لم تبلغ الصورة من قبل في تاريخ البشرية إذن شأنا مثل هذا الذي بلغته اليوم في حياة الإنسان. حدث ذلك، من جهة أخرى، مع تطور « الصناعات الثقافية » التي ظهرت بشكل واضح وعملي وبراغماتي مع بناء أول وأضخم « كوليزيوم » في روما القياصرة من طرف قاتل أبيه الأمبراطور « Commode » قصد الاستيلاء على الحكم (3). إنه الكوليزيوم الذي أنشئ لجعل طقوس الفرجة الجماعية على المنافسات العنيفة والدموية، آلية فعَّالة لتطويع الرعايا وإلهائهم عن حياتهم المدنية والسياسية، وتيسيرا للتَّمَكُّن من السلطة وممارستها دون حسيب أو رقيب. لا يهدد الممارسات السُّلطوية والمُتسلِّطة سوى الفكر الواعي بالتناقضات وبالتساؤلات الثانوية والمُفتعلة أساسا، المنصرف للتفكير في الجوهري وفي الأهم بالنسبة لكرامة العيش وبحرية، الحرية باعتبارها شرطا لإنسانية الإنسان بالمعنى الكانطي. يحدث ذلك اليوم أيضا مع تقدم الديموقراطيات الليبرالية واقتصادات السوق ومجتمعات ما بعد الحداثة، بتنوعها في البنيات وفي ايقاعات التنمية، وما تفرضه من تسارع للتواصل الجماهيري ومن دمقرطة للمعرفة بكل ما يشوبها من تطويع وتجاذب بين مختلف جماعات الضغط. إنها جماعات الضغط التي تمتلك الاستراتيجيات الكبرى والرهانات العظمى للإقتصاد العالمي بكل امتداداته، والتي أصبحت تمتلك الآليات الكبرى للصناعات الثقافية والفنية والإعلامية العالمية.تتم هذه المراقبة بل السيطرة من خلال الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات التي تمتلك الإنتاج ولوجيستيكياته بل وأضواءه وشبكات توزيعه كما هو الأمر عليه في هوليوود بشكل نموذجي. لا يمكن في هذا السياق اغفال تسارع تقدُّم تكنولوجيات وسائل التواصل الجماهيري وتأثيرها العميق على أشكال التعبير وأنماط السلوك اليومي والقيم التي تؤطره. وقد راهنت وتراهن الكثير من السياسات العمومية التنموية على تعميم تجهيز أغلب التجمعات الحضرية والقروية بشبكة الإنترنت والهاتف والتلفزيون عبر الأقمار الإصطناعية وعبر الإنترنت (IPTV)، كما تراهن على تعميم شبكات المواصلات في كل تنوعاتها، لتطوير النظرة إلى تصورات وقيم منها تصور الزمان والمكان والإنتاج والمواطنة … هدف كل هذا العمل هو تحقيق التقدم والتنمية، وبناء آليات وميكانيزمات خلق الثروة وتطويرها وحسن توزيعها بين المواطنين نظريا على الأقل. يقع تحقيق هذه الأهداف النبيلة التي حددها فلاسفة الأنوار منذ القرن السابع عشر الميلادي تحت طائلة الانحراف كلما تضخمت أجهزة الدولة (4) وغدا الإنسان وحيد البعد (5). 4- الصناعة الفنية والتحديث والقيم. لم تعد الثقافة باعتبارها البنية الفوقية للاقتصاد وللحياة المادية للناس محايدة ترتبط بالترفيه أو بشَغْلِ « الوقت الثالث أو أوقات الفراغ ». ظهر ذلك منذ ظهور الدولة وبالتالي تفويض السلطة لفئة قليلة « مختارة »، كي تدبر الثروة التي تشمل الخيرات المادية والمعنوية وتوزيعها بين أفراد المجتمع. ومع دخول الثقافة بمعناها الواسع ميدان السياسة إذن كوسيلة للتعبأة وللإقناع بتولي السلطة وممارستها، والتي نَظَّر لها السوفسطائيون مع الديموقراطية اليونانية المبتورة بنظامها العبودي، أصبحت صناعة الثقافة والفن كصيغة مُثلى من حيث نجاعة التأثير عبر الحكي، أصبحت ديناميةً جوهريةً في تدبير الحياة المدنية وتنظيمها وحمايتها وتطويرها. كان هذا التحول في صناعة الإنتاج الثقافي والفني جوهريا وتاريخيا بأبعاد مُفارقية تجمع السلبي مع الإيجابي، والقيمي النبيل مع النفعي الربحي لكن الثابت في كلاهما هو الارتباط بالصناعة والسوق: إن الثقافة والفن صناعة ذات وجهين، تحدد ملامحهما الاستراتيجيات التنموية ومدى اندماج الاختيارات الثقافية والفنية ضمنها كأولويات تنزع نحو ربط تحويل الطبيعة لخدمة الإنسان، بالثقافة لتنمية وتطوير أنسنة حياة هذا الإنسان. للصناعات الثقافية شروط وجود وغايات تمنح ديناميتها معنى وفعالية وقوةً تأثيراً. من ذلك بداهة ضرورة التوفر على فضاءات مدنية للإنتاج والترويج والفكير والبحث والتجريب لتطوير صيَغها. ككل إنتاجات البنيتين التحتية والفوقية في أي مجتمع ستكون الصناعات الثقافية إما بنَّاءة أو هدَّامة لإنسانية الإنسان: - فهي إما مُقوِّيةً لعقلية التسامح والتعايش والاعتراف بالحق في الاختلاف وبالتالي حماية وصيانة لقيمة الحريات الفردية وللفضاءات العامومية على قاعدة احترام البيئة وقيم العمل والواجب والمسؤولية - أو أنها تحت سلطة ووصاية وفي خدمة عطس ما سبق أي العنف في كل صيغه وامتداداته وأشكال تجلياته. هكذا تكون الصناعات الثقافية رافعة للتحديث والتمدين والتحضُّرِ وترسيخ القيم الكونية النبيلة، أوأنها تكون وسيلة لنشر والعنصرية والإقصاء ورفض الاختلاف وبالتالي العنف. 5- مكانة الصورة ضمن الصناعات الإعلامية والفنية. يكبر شأن الصورة في الحياة اليومية المعاصرة مع الانتشار غير المسبوق لشبكة الإنترنت ولمجموعات البث التلفزي التي تساير بل تساهم في تطور التكنولوجيات وفي بلورة أكثر نجاعة للنظريات التواصلية. تحتل هذه النظريات اليوم المكانة التي هي لها، ليس في تسيير دفة الحكم فقط، (صناعة وتوجيه الرأي العام حيث بلغت حد استباق ردرد الفعل باستقراء مساراته ومنحنياته تاريخيا ثم انطلاقا من ذلك التكهن النسبي بما قد يصدر نتيجة لقرارات معينة … )، بل وفي تنظيم وتدبير وتسيير الاقتصاد وتطويره في أجواء تنافس دولي لا سابق له أيضا. نتيجة لكل هذه العوامل غدت صناعة الصورة، وهي الأكثر استغلالا وتوظيفا لهذا التطور ولهذه الوفرة ولهذه الجهوزية التواصلية العمومية والاجتماعية المعاصرة عبر وسائل الإعلام والتواصل الجماهيري إذن، غدت، هي الوسيلة والآلية والأداة اللأقوى تأثيرا في صناعة ونجاعة، أوعدم فعالية، المنتوج الثقافي عموما والفني خصوصا. وتأتي نجاعتها أساسا من باب تأثيرها على المتعلمين ومحيطهم، أو من حيث تأثيرها على التنشئة الاجتماعية وآلياتها، أو من خلال تأثيرها على برامج التربية النظامية وغير النظامية ذاتها من خلال نفس السياقات. لا تَحَكُّم في الصناعات الثقافية اليوم، بما فيها التوظيف البراغماتي للتراث المعماري وللغنى الثقافي التراثي سياحيا ودبلوماسيا واقتصاديا وبيداغوجيا، إلا بالوعي الذكي والعالِم « بلغة وبثقافة السمعي البصري » (6) الذي به تتم صناعة الصورة ونسج دلالاتها وتوجيه معانيها نحو الوعي واللاوعي معا. يتم تأثير الصورة على التواصل الجماهيري، وهو مقصد الصناعات الفنية، من خلال ما تنقله من معارف ومعلومات وتصورات، بل ومن قيم حتى. يتم هذا النقل داخل سياقات تقنية وجمالية تطوِّعُ مضامينها، قبل توجيهها، كمؤثر على الرأي العام ذهنيةً وأذواقا ومواقف، بما يتضمنه ذلك من تركيز، أو تهميش، لهذا الحدث أوذاك أو لهذه المعلومة أو تلك أو لهذه الشخصية العمومية الكاريزمية أوتلك ضمن مساحة التنافس السياسي على السلطة محليا أو وطنيا أو إقليميا ودوليا حتى. يتم كل ما سبق في تفاعل وباستغلال ذكي وماكر، لا أخلاقي في الغالب، لما يَروج وما يُرَوَّجُ في اليومي المشترك. كما يحدث ذلك أيضا على نطاق وبسرعة لا سابق لها في تاريخ البشرية وذلك بسبب "الزواج الكاثوليكي" بين الإلكترونيك والعلم وبين العقل والوجدان (7). لقد نتج عن تطور السمعي البصري عموما، ومن خلال مسار تاريخي تفاعلي طويل ومعقد بين: تكنولوجيات الإلكترونيك وعلم وهندسة المعلوميات وعلوم إنسانية ونظرية بحتة كالرياضيات وعلم النفس والسيميائيات والسوسيولوجيا وعلوم أخرى شتى وعالم صناعة الصورة وأدواتها وآليات تصنيعها، نتج عن كل ما سبق تقويض خفي وحثيث وذكي، يكاد يكون سريا، لسلطة الكلمة لفائدة سلطة الصورة. تكمن السِّرية فيما أعتقد في طبيعة سلطة الصورة التي "تتخفى" وراء سلطة الكلمة التي تتوهم أنها لا زالت تحتفظ بصولتها التاريخية مستمرة وشامخة، في حين أن الكلمة غدت أكثر نخبوية في صفائها، بعدما كانت شعبية بل وشعبوية لقرون طويلة. للكلمة سلطة الادراك والمنطق والتجريد والمعنى أولا، بينما للصورة سلطة الانفعال والتخييل والتشويق والحكي والتماهي. في الكلمة الأسبقية للعقل والمنطق أما مع الصورة فالأسبقية للجسد وللوجدان أولا (8). 6- نحو صناعة المعنى في فن الإبداع البصري. تستمد الصورة المصنوعة بالتكنولوجيات الحديثة سلطتها عبر ومن خلال وفي تواطؤ مع وسائل الإعلام. تتخذ هذه الصورة موقعها من خلال السمعي البصري بالضرورة، وذلك عبر التلفزة والإنترنت اللتان تجمعان الكلمة والصورة في كل أشكالهما. تستمد هذه الصورة سلطتها من منطق مغايرٍ لثقافة الأبجدي مكتوبا ومسموعا ومنطوقا الذي يعتمد تقليديا على التجريد والاستدلال والتفسير والفهم وبالتالي التحليل والنقد، بينما الصورة تعتمد منطقا مختلفا هو ما ينبغي اعتماده في الصناعات الفنية كآلية جوهرية للتواصل مع المجتمع. لقد أصبحت الصورة المصنعة بواسطة التكنولوجيا وبكل مهارات التحكم في كثافتها ونصاعتها وجودتها وطَيْفِيَّتِهَا، أصبحت حسب الدراسات السيميائية والسيكولوجية والسوسيولوجية وحسب معايير قياس نِسَبِ المتابعة والمشاهدة للقنوات التلفزيونية، (رغم مكر هذه الأرقام وهامش عدم ملاءمتها بسبب ارتباطها الجوهري بصناعة القرار وبرهانات الاقتصاد من جهة، وبسبب اختزاليتها للعوامل الإنسانية من جهة ثانية … ) أصبحت الصورة اليوم إذن هي السلطة عيْنُها. فقد أصبح صانعها نفسه يخافها لأنها كالأقدار، قد تنقلب عليه كمسخ فرانكنشتاين. تقوم الصورة في جميع الحالات وبحذق، إلى جانب الفعل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي ... تقوم بدور جوهري في صناعة دولة اليوم كقوة إقليمية أو عالمية، تحاول الصورة الوطنية في كل بلد (التلفزية والسينمائية ولاحظ ارتباك صورة كل بلد باستراتيجياتها السياسية والعسكرية والتنموية … ) وبكل ما أوتيت به من ذكاء وتمكُّنٍ أن لا يتم تجاوزها من مراكز النيوليبرالية المعاصرة وصناع قراراتها الكبرى في إعادة تشكيل خرائط "الإقتصاد" والتجارة والمالية والصناعات الثقافية الكونية بما تتضمنه من طاقة تربوية خلاقة. مع انتشار تكنولوجيات الصورة المعتمدة في إخراجها الذكي على آليات، الإنفعال الجارف والجسد الغاوي والايقاع المشوق والتماهي الداعي خفية للتقمص، والأهواء الموقظة لمكنونات اللاشعور الدفين، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى المُتخيَّل الجماعي الكوني، مع هذا الانتشار تنبعث الطاقة الهائلة لتأثير الصورة في الصناعات الفنية على الجماهير وعلى الرأي العام وتوجهاته وميولاته واستيهاماته، يتم كل ذلك عبر كثافة الضوء وتغيرات اللون وقوة الصرخة وايحاءات الحركة وترنح الجسد وتأوهات الصوت. كل هذه الميكانيزمات والتقنيات والفنيات تصنع الطاقة المُعيلة لإيقاظ المشترك الدفين في النماذج الأصلية لمشاعر الخوف والحب والكراهية والعنف في صوره المُفارِقة الأكثر إيغالا في المتخيل الجمعي الإنساني. تلك هي عالمية الصورة وقوة تأثيرها وسحر فعاليتها ومكر وظيفيتها. الإحالات: (1) لا أحد يراهن الآن على نظرية المحاكاة، فهي من باب المستحيل عند النظر، كما قال هيجل، إلى اكتمال وعظمة الطبيعة التي لا يستطيع الإنسان تجاوزها إلا بابتكار صيغ للتعبير عنها ليست فيها بل تخصه هو وحده ككائن مفكر ومبدع ينتج الجميل، بالمعنى البنيوى للكلمة وليس التشويهي لما يجده ملقى على الرصيف من الابتذال والمألوف والشائع. فالتخييل إذن كقوة خلاقة تقتضي التكوين والعمق والقدرة على استلهام الأصيل من المشترك والكوني النبيل هي وحدها طاقة ومحرك الإبداع وليس المحاكاة المستحيلة أصلا. أنظر كتابنا: « عتبات في الجماليات البصرية: كتاب الفوتوغرافيا »، إدريس القري، نشر دار فكر، الرباط، 2016. (2) أنظر رواية الكاتب الروائي البريطاني جورج أرويل المنشورة سنة 1949 تحت عنوان « 1984 » والتي يتحدث فيها عن فقد الإنسان بسبب المدنية التقنية المدمرة لحريته حيث سيصبح تحت المراقبة الدائمة والقاسية للأخ الأكبر كناية عن القوة القمعية والسالبة للحرية. (3) شاهد فيلم المخرج الأمريكي « ريدلي سكوت » تحت عنوان « المصارع Gladiator » الذي يبرز تخييليا، في استلهام لتاريخ الأمبراطورية الرومانية، الاستغلال الماهر للفرجة الجماعية الرهيبة من أجل تطويع الجماهير وتقوية صورة الحاكم في تصور الرعايا، ولعل لذلك دلالات بليغة عن ما يحدث اليوم عبر وسائل الإعلام لكن في اختلاف كبير على كل المستويات. (4) أقصد البيروقراطية التي تحدث عنها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. (5) أنظر في هذا السياق الكتاب الشهير للفيلسوف الأمريكي هربرت ماركيوز : « الإنسان ذو البعد الواحد ». (6) أنظر بهذا الصدد وعن خصوصية لغة وثقافة الصورة كتابنا المترجم : « لغة وسائل الإعلام وثقافتها »، نشر دار فاليا للنشر والتوزيع، بني ملال، 2018، (6) « ستبدأ الإنسانية بالتحسن عندما تأخذ الفن على محمل الجد كما هو الأمر بالنسبة للفيزياء أو الكيمياء أو المال. « إرنست ليفي. (7) « التعليم للتفكير والفن للشعور » هكذا يلخص المخرج السينمائي الروسي الكبير العلاقة بين الصورة والكلمة، أي بين لغة الصورة واللغة المنطوقة أو الأبجدية. *كاتب وناقد وأستاذ الفلسفة والجماليات البصرية.