محمد الغناج إن تاريخ الحضارات الإنسانية، منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، يؤكد أهمية الفنون التشكيلية والدور الذي لعبته وتلعبه في مختلف مجلات الحياة، لاسيما أن هذه الفنون قادرة على التأثير في مواقف متعددة، تستجيب بسرعة لأساليب التعبير الفني وتنفتح بقوة على المفاهيم الجديدة لقيّم الجمال، وهذا ما سمحت به طبيعة الصورة ذات النظرية (الفينومينولوجيا) عندما غيّرت نظرة الإنسان عبر تاريخ الفنون وجعلته يتفاعل مع ما أثارته الأعمال الفنية الكبرى من أفكار منذ العصور الأولى، إلى يومنا هذا. وعلى هذا الأساس، ظلت حاجة الناس إلى معرفة الفنون والمتعة والجمالية والاستفادة من متعة الجمال ضرورة ملحّة، تشجع على تطوير الحواس وتساعد على تشكيل الحياة انطلاقا من تأهيل المجتمعات على الاستجابة السليمة والذوق الخلاق لكل ما يحيط بالإنسان من أجناس تشكيلية متنوعة، كالعمارة، اللوحة الفنية، النحت، الزخرفة والديكور... إن تلقي هذه الفنون والانفتاح عليها هو سفر طويل يرحل بنا نحو عالم تلتقي فيه كل الأشكال التعبيرية الممتدة على صفحات التشكيل، تضمن السبل والوسائل لتحسين حياتنا، الحاضرة والمستقبلية. ونحن بصدد مناقشة دور الفنون التشكيلية في مجالات الحياة اليومية الحديثة، لا بد من النظر في فضائها الواسع، الذي يشمل فنون التصنيع والهندسة والديزاين والسيراميكا. يهدف فن التصميم أو الديزاين، بالأساس، إلى توسيع المعرفة البصرية ويعمل على خلق آليات التواصل مع المادة في مدلولها ومعانيها وفي تصميماتها كقاعدة تطبيقية يمكن من خلالها تنمية الصناعة الحديثة وتعزيز مكانة الإنتاجات الفنية لوحة، أثاث، ملابس، تُحف فنية.. وكلها مواد تساعد على تثقيف الناس وترفع من مستواهم الفني وتلبّي حاجاتهم الحسية والوجدانية، وهنا تكمن خصوصية الفنون التطبيقية في انعكاساتها الإيجابية على سلوك الناس وتصرفاتهم، بفعل قوة التعبير الجمالي والإستطيقي، الذي يعكس امكانيات المبدع في الخلق والابتكار. يتطور الإنتاج الصناعي بسرعة مذهلة ويزداد تأثيره على حياة المجتمعات يوما بعد يوم، لاسيما أن الصناعة والتقدم التكنولوجي والاقتصادي غيّرا، وبعمق، صورة الإنسان في المجتمعات المتحضرة وجعلته يلهث خلف الظروف الجديدة، ليتفادى نمطية الحياة المليئة بالقلق والحزن وأحيانا الموت، وهذا ما جعل المبدعين في الغرب يشتغلون جنبا إلى جنب مع المهندسين ورجال السياسة والاقتصاد، مساهمين بدورهم في ظهور حواضر عملاقة ومراكز صناعية عالمية وعواصم سياسية ومدن تتكاثر بشكل يوازي المعدل السريع والمذهل لهذا التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي وكذلك الثقافي، حيث ظلت بصمات المبدعين حاضرة وبقوة في التخطيط الحضاري لتنظيم المدن والبوادي، بتوظيفهم القيّمَ الفنية والروحية في التصميم والبناء وإضفاء الملامح الإستيطيقية عليها. لقد استطاع المهندس المعماري الكبير فالتروبيوس أن يجد طرقا وأساليبَ جديدة لمواجهة الحياة الواقعية للقرن العشرين، حيث كان يؤمن بدور الفنان التشكيلي ويعتبره العنصرَ الوحيد الذي يملك القدرة على تجديد فضاءات الحياة وتطويرها، وكانت فكرة دمج الفنون في الإنتاج الصناعي، والتي كان يدعمها فالتروبيوس، تهدف، بالأساس، إلى توسيع نشاطات الفنون لتشمل المهن الحِرَفية والصناعية وجعلها عناصرَ مُلحّة في تغيير نمطية الحياة عند الإنسان الغربي.. وعلى هذا الأساس، ظهرت مدرسة «الباهاوس»، التي كان يقودها المهندس ابتداء من سنة 1919، ومن أهم من نادى به فالتروبيوس حيث قال: «لا بد للفنان أن يكون على علم بما يجري في قطاعات الإنتاج، وعلى رجال الصناعة أن يتعلموا كيف يقبلون القيّم الفنية والجمالية التي يقدمها الفنان، وأن ثقافة الفن يجب أن ترتبط بمعرفة الصانع الماهر والمنفذ، من أجل خلق أشكال جديدة ومبتكَرة في العمارة وفنون التصميم الصناعي والتجاري وأدوات الحياة». ومن أقوال فالتروبيوس المأثورة: «في الماضي كان العمل الفني بمثابة عمل فرديّ يمارِس فيه الفنان حريته الكاملة لملء البياض بالأسلوب الذي يراه مناسبا، لكنْ الآن أصبحت مهنة الفنون جماعية تتم بمشاركة المصممين والصناع والمهندسين والفنانين التشكيلين إلى جانب رجال الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع».