" إن الشخصية المنحدرة من كتاب كل شيء فيه مقرر سلفا، ستصل في نهاية المطاف، إلى كتاب آخر تسجل فيه حكاياتها ( الليالي)، كتاب بمثابة صدى وانعكاس للأول. هكذا يفرض المكتوب ذاته أولا وأخيرا، بدءا وختاما. " عبد الفتاح كليطو، العين والإبرة، الفنك 1696، ص:154, نبش ينبش فهو نباش، هل تدرون ما معنى النباش في اللغة؟ يقول صاحب اللسان : نَبَشَ الشيء يَنْبُشُه نَبْشاً استخرجه بعد الدَّفْن، ونَبْشُ الموتى : استخراجُهم، والنبَّاشُ الفاعلُ لذلك، وحِرْفَتُه النِّباشةُ والنَّبْشُ نَبْشُك عن الميّت وعن كلّ دَفِين. ويتجه المعنى الدارج في المغرب لكلمة النباش إلى ذلك الشخص الفضولي الذي يسأل عن كل صغيرة وكبيرة إذا كان بالغا راشدا مميزا، ويعني ذلك "العفريت " بالنسبة لغير البالغ الذي يُقلب في خبايا الأمور الصغيرة والمتناهية الصغر، والتي قد لا تخطر لك على بال. النباش يسأل ما لا يُسأل عنه، قد يكون سؤاله محرجا لكونه يدخل في جزء من ذاكرة " المقدس"، وقد يُغلفها "بالمدنس" وهنا تقع المشكلة. النباش يتجه إلى تغليف حديثه بالجنس غالبا أثناء إلقاء نكتة أو حين تشبيهه لشيء مادي بحالة معنوية. ولكن النباش سيتخذ بعدا آخر في اصطلاح الفقهاء، أصحاب وضع الحد والجزاء، وتفصيل "الطيب من الخبيث" والصالح من الطالح "كتقييم" لأحوال الناس بأقل ما يمكن من المشاكل. وبما أن النباش هو خالق المشاكل فإننا سنجازيه بأقصى العقوبات حتى لا يعود إلى نبشه هذا. يرتبط النباش بالحفر إذن، والحفر ليس دليلا للبحث عن المحفور أركيولوجيا دائما. إنه هنا مُلوث، موسخ خائض فيما لا يخوض فيه الناس، فهو بجمع صفتين دنيئتين: السرقة، والنبش من أجل السرقة، ولذا فهو يجازى بالعقوبتين : قطع اليد، واللعنة أبد الآبدين في الدنيا والآخرة. ولكن النباش في حديثنا المجازي هذا سيأخذ صفة نبيلة لكونه يرجع الحياة للميت ولو من خلال الحفر. ينبش النباش من أجل الاستفادة من الجسد الميت، وإضفاء "الحياة " على هذا الجسد. الجثة هي مجال النباش المبحوث عنه (المكتوب). ولكن النباش في حديثنا يمتطي عدة مصاعب قبل أن يصل إلى مراده، الحفر والخوض في التراب الوسخ، تراب (قد يكون تراثا) غير نقي. قد يصادف النباش في حفره، وهو يتخذ وسائله الذاتية في هذه الحالة غالبا (الأظافر)، قد يصادف أحجارا وقِطع زجاج قد تكون لمحرمات كالخمر مثلا. ثم إن النبش عملية تتم في الليل غالبا ولذا فالنباش شخص غير مرغوب فيه. كل كتابة هي بمثابة نبش في الذاكرة الجماعية والفردية، إحياء لجثة ميتة من أجل إرجاع الروح لها، أليس هذا ما يقوم به عبد الفتاح كليطو. البحث في الجثة هو بحث عن سر مكنون سنظل كتابا ومتلقين نبحث عنه طيلة حياتنا؛ لا تسلم يد النباش في كل مرة. كم من نباش صادف القطْع حقيقة ( قطع اليد ) أو معنويا وهو يخوض في هذا المحظور، كابن رشد والحلاج مثلا. الكتابة العالمة قد تقي قليلا هذا النباش من الجزاء المشين، لأنها لحسن الحظ تتوجه لأناس وهي مغلفة برموز ومتخيل رمزي هو الواقي والتقية. انبش تقول اليد، احذر يقول العقل، لا تغامر كثيرا. (أذكر محمد الماغوط، وعبد القادر الجنابي، وأدونيس وأنسي الحاج، ومحمد خير الدين). احذر في نبشك، فالسلطة التي تحميك والتي هي كتابتك قد تتحول إلى ضد لك، ضد مناقض. فأنت بين منطقة الملائكة والشياطين تخوض حرب البينية حيث الاختلاف والتشاكل، وحرية الرأي وحقوق الإنسان والحيوان أيضا، بما أن النبش على الحيوان قد يكون له المصير نفسه، أي قطع اليد. إنك تخوض في منطقة ظلمانية صعبة التمثيل وصعبة المخرَج. انبش أنا نباش يقول الكاتب. سأستقبل نبشك وأقرأ هذا النبش وأعلقه معك على أستار الناس، يقول القارئ. كل كتابة لا تسير في هذا الاتجاه مصيرها العادية. الدهشة والإدهاش هو ما على الكتابة الجديدة أن تمارسه ولكن انطلاقا من ماذا ؟ انطلاقا من أدوات، من نصوص غائبة قد تكون جثثا نسرق منها ما نريد من أجل المتاجرة بأعضاء قد تكون مشروعة إذا قبل أصحابها ذلك. نخوض في هذا المتخيل استنادا إلى نفس الأدوات ( التراثية )، والتي قد يتحول فيها الشيء إلى ضده ونقيضه، فمن الضد والنقيض تأتي العافية والنقاء، لا مدنس بلا مقدس. ولا مقدس بلا مدنس. والاستعارات والمجاز، هذا الاختراع العظيم هو منقذنا من ضلال الدنيا. وهو محول نبشنا المذموم لغة وشرعا إلى حالة راقية، بل وضرورية في الكتابة النابعة من سر مكنون. النبش المحمود هو قيمة كبرى في الأدب، إذا كان في الحياة العادية بمعنى اليومي مذموما، لكونه الأداة الأساسية لتعرية المستور، وإظهار السر المكنون، هذا الغائب الذي سيظل كل كاتب وشاعر، وستظل كل كتابة تبحث عنه، وسيظل كل متلق، متلهف لاستقبال هذا المنبوش، ومن تَمَّ يتخذ قيمته المعنوية، وبالتالي تقوية كل ثقافة أصيلة نريدها أن تتأصل في حداثتنا الجديدة. أليس هذا ما قام به وما زال كاتب كبير هو عبد الفتاح كليطو.