تشهد اللغات الموجودة في السوق اللغوية الوطنية نقاشاً حامي الوسيط خلال الفترة الأخيرة، بفعل بعض التصريحات السياسية التي أعادت موضوع "فرنسة" أو "تعريب" العلوم إلى الواجهة، ما تسبب في خلاف فكري وسياسي عميق بين مجموعة من التيارات بالمغرب. وفي الوقت الذي يعتبر فيه دعاة التعريب أن "لغة الضاد" من شأنها أن تؤدي إلى الاستقلالية الثقافية عن المستعمر الفرنسي، مسنودة في ذلك بالشرعية التاريخية والدينية والسياسية، تؤكد فعاليات أخرى أن سيرورة التعريب عبارة عن خطاب إيديولوجي طوباوي بسبب محدودية العربية في نقل العلوم. وترى الفعاليات المنتقدة لتصريحات نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، أن الغاية من التعريب الذي سنّه حزب "الميزان" ليس فرض العربية كلغة مؤسساتية مُعصرنة، وإنما إغلاق السوق اللغوية، عبر محاربة اللغات الأجنبية، لأنه لم يساهم في جعلها لغة علمية وحديثة، مؤكدين أن "جميع أبناء قيادات حزب الاستقلال يدرسون باللغة الفرنسية لنيل المناصب". الأسْلمة الوهابية والتعريب سبب "خَرَاب" التعليم قال أحمد عصيد، الباحث في الثقافة الأمازيغية، إن "كلام نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، بخصوص اعتبار تدريس العلوم بالفرنسية جريمة، كلام غير مسؤول بتاتاً، لا سيما أنه صادر عن زعيم حزب سياسي لطالما عرف عن العائلات المؤسسة له أنها تدرس أبناءها باللغات الأجنبية، ولا يوجد بينها أحد يُدرس أبناءه باللغة العربية". وأضاف عصيد، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن كلام بركة يعد "جريمة حقيقية، لأنه يقول للشعب شيء ويُميّز أبناءه بشيء آخر يحرمه على أبناء الشعب، على اعتبار أن عائلات الحزب درست وكوّنت أبناءها باللغات الأجنبية حتى يستفيدوا من مراكز الامتيازات، ما يحيل على وجود مشكل حقيقي في كلامه". وأوضح الناشط الحقوقي أن "قرار تعريب العلوم سنة 1980 جاء بقيادة حزب الاستقلال، خلال عهد عز الدين العراقي، بعدما تحالف مع الحسن الثاني الذي وضع برنامج الأسلمة الإخوانية والوهابية داخل المجتمع المغربي، بحيث جاء برنامج التعريب متوافقا مع برنامج الأسلمة، مما تسبب في تراجع مستوى التعليم الذي وصل إلى الدرك الأسفل". "فقدنا جودة التعليم بسبب المخطط الذي فشل فشلا ذريعا، ما يستلزم من المغاربة وقفة حازمة للمحاسبة"، يورد الفاعل الأمازيغي، معتبرا أن "الدولة انتهجت سياسة فاشلة طوال أربعين سنة، لكن ينبغي علينا أن نقيم الحصيلة. لماذا فشلنا في التعريب؟ ثم نبيّن الأسباب التي دفعتنا إلى العودة إلى اللغات الأجنبية". وأكد المتحدث أنه "في ظل الغموض الحالي لا يجوز سن سياسات عمومية دون أن نفهم الناس، وذلك بسبب حزب الاستقلال الذي يعد المسؤول عن تخريب المدرسة العمومية بتعريبها وأسلمتها. كما أن النظام السياسي في عهد الحسن الثاني مسؤول أيضا عن الخراب الذي نعيشه، لأنه أراد مواجهة اليسار الراديكالي داخليا ومواجهة الثورة الخمينية الشيعية خارجيا، ما دفعه إلى استعمال الوهابية والإخوانية داخل المدرسة، ومن ثمة انهيار التعليم". العربية لغة الدين والتراث قال عصيد إن "المطلوب من وجهة نظري يكمن في استعمال اللغة العربية من أجل بناء المواطن ووعيه الوطني وشعوره بالانتماء للمغرب، من خلال تدريس المواد باللغة العربية، من قبيل الجغرافيا والتاريخ والتربية على المواطنة وغيرها، بينما يجب تدريس العلوم باللغات الأجنبية لأنها تواكب الانفجار المعرفي الذي يحدث في العالم كل ثانية، مثل العلوم الفيزيائية والرياضيات والهندسة والطب، بحيث لا يمكن الزعم بإمكانية تدريس الطلاب المغاربة باللغة العربية، لأنه يصدر في العالم ما يقرب 45 ألف كتاب سنويا في العلوم الدقيقة لا نترجم منها سوى نحو خمسة كتب، مما يدل على أن العربية ليست لغة البحث العلمي". وشدد المصدر عينه على كون "أهل العربية جعلوها لغة الدين والمحافظة والتراث، ومن ثمة لا يمكن الاشتغال بها في الفيزياء، بل يجب تطوير العربية في حد ذاتها، بعدما جعلوها لغة مقدسة وجامدة. يجب ألا يستمر المغاربة في نهج الخطأ". وبخصوص مبرّر عدم وجود أطر مؤهلة للتدريس بالفرنسية، قال عصيد إنه "كلام غير دقيق، لأن الدولة حينما تقرر شيئا معينا تقوم بالتكوين، والأمر نفسه ينطبق على الفرنسية التي ستدفع الدولة إلى إعادة تكوين المدرسين، فبعد انهيار جودة التعليم وتراجعه فَقَد المدرسون اللغات الأجنبية، بل حتى اللغة العربية مشمولة بذلك، بعدما صاروا يدرسون بالدارجة فقط". وختم المتحدث تصريحه بالقول إن "ما يحدث في المدارس حول التربية الدينية ينطبق على الفرنسية؛ ذلك أن الملك أعطى القرار لمراجعة الكتب الدينية، لكن لم نُكوّن الأساتذة بخصوص التطرف، وإنما ركزنا على الكتب عوض تغيير العقلية، حيث بات التطرف ينتقل إلى التلاميذ بشكل شفهي عبر الأستاذ. إن اعتماد الفرنسية يحتاج أيضا إلى التأهيل على غرار البلدان التي تنتقل من الفرنسية صوب الإنجليزية كرواندا". التغيّرات ترجمة لدينامية الوضع اللغوي إن "الصراع اللغوي" السائد ليس وليد اللحظة، بحيث سبق أن تحدث أحمد بوكوس، عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، عن الموضوع في درس افتتاحي خصّ به كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية سنة 2006، قائلا: "التحليل الماكروسوسيولغوي للوضع السائد بالمغرب يبين أنه متسم بتنوع الألسن وبدينامية ملحوظة تتمثل في تساكن اللغات، عبر تجاورها أو تضادّها أو تراكب استعمالاتها". وأضاف بوكوس، ضمن الافتتاحية التي نشرتها جامعة الحسن الثاني على شكل كُتيّب صغير، أن "اللغات فيما بينها لا تحظى بنفس القيمة الرمزية ولا ترصد لنفس الاستعمالات، فهي تحتل مواقع متباينة في التعود اللغوي للمتكلّمين"، معتبرا أن التغيرات الجارية في استعمال اللغات ترجمة لدينامية الوضع اللغوي. اللغة العربية، بحسب المتحدث، مطالبة بالاستجابة إلى متطلبات الحياة المعاصرة بالنظر إلى وضعها كلغة رسمية، "وذلك بأن يتم تحديثها متى أريد منها أن تكون أداة فعالة تمكن المجتمع المغربي من النمو الاقتصادي والاجتماعي"، يقول بوكوس، مشددا على كون "سلوكات المتكلمّين في ممارستهم اللغوية إزاء اللغات المتواجدة تتحدد وفق قوانين السوق اللغوية، حسب ما لكل لغة من قيمة". "من البديهي أن علائق القوى بين اللغات مرتهنة بحالة العلائق بين المجموعات الاجتماعية التي تدعمها وتتمثل بها، ذلك أن الوضع اللغوي يعكس إلى حد ما الوضعية السوسيو-ثقافية"، يورد الأكاديمي المغربي، مضيفا: "يظهر بوجه عام أن المجموعات الداعية إلى التراثية الإيديولوجية والثقافية تساند العربية المعيار، بينما المجموعات المنحازة إلى الليبرالية أكثر انفتاحا على الازدواجية اللغوية".