الجدل الدائر أخيرا حول «لغة التدريس» يكشف أن هذه الإشكالية لم تحسم رغم مرور 63 سنة على استقلال المغرب. هل ندرس بالعربية أم بالفرنسية أم بهما معا؟ إلى حد الآن لم نستقر على حال، والجدل الدائر أخيرا حول «القانون الإطار» يكشف ذلك. وزير التربية الوطنية، سعيد أمزازي، يسابق الزمن من أجل عودة التدريس بالفرنسية، وحتى قبل أن يصادق البرلمان على القانون، أعلن أنه بصدد تعميم مسلك التعليم الإعدادي بالفرنسية. حاليا، هناك 1363 إعدادية تحولت لتدريس المواد العلمية بالفرنسية لفائدة 85 ألف تلميذ، ويجري تعميم التجربة من خلال تكوين 1000 أستاذ لتأهيلهم لتدريس الرياضيات وعلوم الحياة والأرض والفيزياء بالفرنسية. أما التعليم الخاص، فإنه عمم تدريس العلوم باللغة الفرنسية. يبرر وزير التعليم هذا التوجه بكون التلاميذ يجدون صعوبات في الجامعة، لأنهم يدرسون المواد العلمية بالعربية، فيجدونها في التعليم العالي بالفرنسية، وهذا يؤثر على تعليمهم، ولا يجعلهم متكافئي الفرص مع خريجي التعليم الخاص. لكن برلمانيين من الأغلبية والمعارضة، خاصة من البيجيدي والاستقلال، يرون أن الوزير يتجاوز ما جاءت به الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم، التي صادق عليها المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والتي نصت على أن «العربية لغة أساسية في التعليم»، وأنه يمكن تدريس «بعض المجزوءات والمضامين» باللغات الأجنبية، أي أنه داخل بعض المواد يمكن تدريس بعض الفصول بلغة أجنبية، وليس تدريس المواد كلها بالفرنسية. وبسبب هذا الخلاف توقفت مسطرة المصادقة على مشروع القانون، وانتقل الجدل إلى خارج البرلمان، عندما وصف نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، سياسة فرنسة التعليم ب«الإجرام» و«الخطأ»، لأنها لا تراعي وضع التلاميذ، وعدم توفر أساتذة، فتعرض لهجوم إعلامي، قبل أن يخرج عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، في فيديو، ليعلن دعمه موقف بركة، وليهاجم «اللوبي الفرانكفوني». لماذا لم يستطع المغرب حسم هذا الإشكال؟ منذ استقلال المغرب كان التعليم مفرنسا، لكن أحزاب الحركة الوطنية رفعت شعار تعريب التعليم عنوانا للهوية المغربية المستقلة، وجرى تطبيق ذلك إلى أواخر السبعينات، فيما بقيت الفرنسية حاضرة لغة ثانية، لكن ليست لغة تدريس، فيما استمر تدريس المواد العلمية بالفرنسية في التعليم العالي. وبقدر ما أسهمت سياسة التعريب في تحسن مستويات التخرج من البكالوريا، خلق عدم تعريب الجامعة مشكلة للخريجين، كما أن مردودية تدريس الفرنسية لغة ثانية في التعليم لم تكن مرضية. يمضي التلميذ 1800 ساعة في تعليم الفرنسية من الابتدائي إلى الثانوي، دون أن يتقن الفرنسية. فأين الخلل؟ في التلميذ أم في الأستاذ أم في البيداغوجيا؟ أمام هذا الوضع، كيف تصرفت الأسر؟ جزء من النخبة الفرانكفونية حسمت موقفها منذ مدة، فاللغة العربية عندهم «غير صالحة»، وهم لا يتكلمون بها أصلا، وينفرون ممن يتحدث بها. أبناء هؤلاء يتحدثون الفرنسية في البيت، ويلجون مدارس البعثات أو المدارس الخاصة، ويكملون دراستهم في الخارج. وهناك جزء كبير من الطبقة الوسطى الحديثة التي ظهرت خلال العقدين الماضيين، بمن فيها إسلاميون ومحافظون، باتوا يتعاملون ببراغماتية مع موضوع لغة التدريس، فرغم «حبهم المبدئي للعربية»، فإنهم يدركون أنها غير كافية لضمان مستقبل أبنائهم، لذلك، يتسابقون أيضا إلى البعثات الفرنسية، أو إلى التعليم الخاص الذي يركز على الفرنسية. حاليا هناك مليون تلميذ في التعليم الخاص في المغرب. وهناك الفئة الثالثة، وهي الأغلبية الساحقة من فئات الشعب من الفقراء وذوي الدخل المحدود، وهؤلاء «فئران التجارب»، من المستفيدين من مجانية التعليم العمومي، الذين يعرفون أن أبناءهم يتعلمون بالعربية، لكن الفرنسية أيضا أساسية، ليس فقط في التعليم العالي، بل أيضا في تعزيز فرص الحصول على الوظيفة، وفرص العمل في القطاع الخاص، لأنها لغة الإدارة والاقتصاد في المغرب. ارتبطت التجارب الدولية الناجحة بحسم تدريس التلاميذ باللغة الرسمية، خاصة في الابتدائي، بالموازاة مع التدريس الجيد للغات، كالإنجليزية والفرنسية، وغيرهما، أما في المغرب، فإن السياسة اللغوية لم تحسم بعد، وتحولت إلى مصدر تجاذب، والنتيجة أن نسبة كبيرة من تلاميذ التعليم العمومي لا يتقنون العربية ولا الفرنسية.