الملايين الستة الذين قرروا الذهاب إلى صندوق الاقتراع يوم الجمعة قالوا كلمتهم، وعبروا عن رأيهم ووضعوا حزب العدالة والتنمية على رأس قائمة الأحزاب الفائزة في جمعة الانتخابات، والأمل يحذوهم في تدشين مسلسل جديد وعميق للإصلاحات السياسية التي وعد الملك محمد السادس بتطبيقها في خطابه في يوم التاسع من مارس الذي بشر ببوادر ميلاد ملكية برلمانية ونهاية الملكية التنفيذية، رغم أن الدستور الجديد خرج في صورة غير مطابقة لمنطوق خطاب تاريخي في يوم تاريخي هو التاسع من مارس فإن المغاربة لم ييأسو من رحمة الله وظلوا يرقبون التأويل الديمقراطي لدستور جاء مثل قصيدة شعر قابل لكل أنواع القراءات والتأويلات حسب تعبير محمد الطوزي أحد واضعي دستور 2011. الآن على الجميع أن يحترم إرادة الناخبين وقوانين اللعبة الديمقراطية، وأن تعطى للإسلاميين المعتدلين الفرصة لإظهار كفاءتهم وشجاعتهم وقدرتهم على إخراج البلاد من "عنق الزجاجة"، وعلى عبد الإله بنكيران وحزبه أن يتحملا كامل مسؤوليتهما وهما يقودان السفينة في بحر متلاطم الأمواج، فكراسي السلطة وثيرة لكن تبعاتها ثقيلة. إن الجميع يتذكر كيف تبخرت أسطورة التناوب التوافقي في بضع سنين، وكيف احترق "رمز تاريخي"، مثل عبد الرحمان اليوسفي، في خمس سنوات، وكيف انطفأت شموع حزب كان المغاربة يعلقون عليه آمالا كبيرة. لقد فشل مشروع الانتقال الديمقراطي (1998-2003) لأن اليوسفي لم يفاوض جيدا، ولم يطلب ضمانات دستورية وقانونية وسياسية لإنجاح مهمة صعبة أطلق عليها الملك الراحل الحسن الثاني "السكتة القلبية". لقد دخل اليوسفي، ومعه أحزاب الكتلة إلى غرفة إنعاش المغرب بلا معدات ولا صور إشعاعية ولا نتائج تحليلات مخبرية.. دخلوا لإسعاف المريض بالنوايا لحسنة، ولم ينتبهوا إلى أن "المخزن" لم يمت، كما قال يوما محمد اليازغي. الاشتراكيين ومعهم الإستقلاليون وحلفاؤهم دخلوا لإسعاف المريض فخرجوا وحالتهم أسوأ وأخطر من حالته. عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية أمامه نموذج ناجح في تركيا حيث نجح أردوغان في وضع بلاده على سكة التقدم والتحضر، وأمامه نمادج أخرى كثيرة سيئة لحكم بدى رسلاميا وتحول إلى كابوس يقض مضجع الشعب. بنكيران أكثر حظا اليوم من عبد الرحمان اليوسفي أمس، بيديه اليوم عدد أكبر من المقاعد في البرلمان، وفي الشارع على يساره حركة شباب مستعجلة لترى ثمار الربيع العربي تمشي في شوارع المغرب، وفوق علم المملكة اليوم دستور جديد أعطى صلاحيات أكبر للحكومة ورئيسها وللبرلمان وفرقه. نعم، المهمة مع ذلك صعبة لأن الوضع الاقتصادي يضغط بقوة على أعصاب الدولة والمجتمع، وجزء من السلطة لا ينظر بعين الرضا إلى وصول الإسلاميين إلى رئاسة الحكومة ولو كانت ائتلافية، وملفات كثيرة موضوعة على الرف، وستتحرك كلها في وقت واحد، وأخطر من كل هذا هناك "عقدة" لدى الإسلاميين اسمها "حساسية القصر" من لحاهم، وإذا انساق "إخواننا" نحو تقديم ضمانات مبالغ فيها لتجاوز هذه العقدة، فربما يضيعون اللبن في الصيف. قبيل تشكيل عبد الرحمان اليوسفي لحكومة التناوب، سألت الصحافة المفكر عبد الله العروي عن رأيه في دخول اليوسفي إلى الحكومة، فرد بالقول: "ليس المهم كيف دخل، المهم كيف سيخرج من الحكومة". صدقت نبوءتك أيها الحكيم.. خرج اليوسفي غاضبا، مجروحا ويائسا من حكومة علقنا على أبوابها آمالا كبيرة... وبقي منها الآن الدرس والعبرة، ومن عضته الحية يخاف من الحبل...