تصلني رسائل أصدقاء منهم العزيز الغالي ومنهم الصديق الصدوق، وتصلني رسائل من أناس لا أعرفهم ولكنهم يريدون إخباري بالخبر لأنني صحافي، ربما أهتم بتنفيذ تغطية ما. الأمر يتعلق برسائل إخبارية وصويرات وملصقات لتوقيعات لكتب ورقية جديدة، يستعد كتبتها وناشروها للاحتفاء بها في مدينة الدارالبيضاء. أغبط جميع الذين سيرقصون فرحا؛ لأن كتابا جديدا باسمه صدر وسيباع وسينتشر، وسيتحدث عنه الناس، الكتابة فعل وجودي جميل في حياة الإنسان. ما زلت أتذكر يوم أحضرت كراطين ورقية كبيرة الحجم، من مطبعة في الرباط، لكتابي الورقي "زمن العرفان"، أحسست بولادة من جديد، وأخيرا طبعت روايتي الورقية، وفي نفس المساء، تولد لدي شك هدام، وماذا بعد؟ ماذا سأفعل بكل هذه النسخ الورقية؟؟؟ في روايتي الأولى "زمن العرفان"، طبعت ووزعت ونشرت وأهديت روايتي، خسرت ماليا، ولكنني ربحت التحدي في محيط ثقافي مريض بالسرطان. ولكنني اليوم حزين جدا، ومحبط جدا مرة أخرى، لماذا؟ لأنني أصدرت رواية يتيمة، طبعتها من مالي الخاص، لم تنل حظها في تقديري، لم يحتفي بها أحد، ولم يتصل بي أحد!!! شعرت بملايين لحظات الألم وحيدا، شعرت بأنني أمام احتمالين، إما أنني روائي فاشل، إذن يجب عليّ أن أحاول من جديد الكتابة، في حياتي لا أومن لا بالمستحيل ولا بغير الممكن، أنا مؤمن بأنني ولدت لأكتب. استمعت لعشرات الدروس، ولعشرات التوجيهات، حيال الكتابة والرواية ووووووو وماذا بعد؟؟؟ ولكنني لم أستمع يوما من صديق ولو صدوق لوصفة لأصبح روائيا في 7 أيام؛ لأنها لا توجد أصلا، ولكن من حقي أن أحظى بفرصتي كاملة في كتابة نص روائي صالح للقراءة، وما زلت أجتهد لإخراج روايتي الثانية "صنع في المغرب"، ولو اقتضى الأمر نشرها رقميا على شكل ملف "PDF". تواصلت مع عشرات من دور النشر المغربية، لا أحد منها اهتم بي ولا تفاعل معي، الجميع غير مهتم بتاتا، منهم من احتقرني واستصغرني وتأفف مني، أتعرفون لماذا؟ لأن الشللية منتشرة في المشهد الثقافي المغربي، وأبوك صاحبي تقتل الرواية أيضا، ولأن لا أحد يريد أن يراك كاتبا روائيا. يجلس الشيوخ الكبار في المغرب في الرواية، دركيين يمنعون اقتراب أي اسم جديد من الرواية، حتى لا ينزع عنهم قشابة الروائي المبجل، وينزلهم من صوامعهم، أسماء مغربية شاب شعرها تكتب كي لا يقرأ لها أحد. لا أعرف كيف تسللت روايات مغربية ناجحة على قلتها في الوصول لدار نشر مكنتها من الانتشار مغربيا. في المغرب، هنالك عملية اغتيال لكل الشباب الراغبين في الانتشار، ومن تسلل منهم من ثقوب نانوسكوبية، أي دقيقة في الصغر، فهو محظوظ جدا، وينتشر لأنه اسم جديد وروائي ناجح. في معرض الكتاب، تواصلت مع أبرز دور النشر المغربية، المعادلة بسيطة جدا، تريد أن تصور معنا مرحبا، أنت كصحافي يهمنا أمرك، ولكن كمشروع روائي لا نهتم بتاتا ولو بقراءة كتابك في مسودته. يريدون مني أن أظهرهم كناشرين ناجحين متألقين، يشتكون من غلاء أثمنة الورق، وغلاء ثمن كراء الرواق، وغياب سياسة حكومية مالية للدعم المباشر لهم، ومن إغراق المعرض الدولي للكتاب في مدينة الدارالبيضاء بأجنحة مؤسسات حكومية وغير حكومية. خبرني أحدهم بأن ما لديه يكفيه من روايات ورقية للبيع، ولا يريد مزيدا من نشر الجديد، ويفكر في إعلان إفلاسه وتغيير النشاط. وأما الطريف أن يكتب لك صاحب دار نشر عبارة: "أنت صحافي مالك والرواية؟" يبدو أن الكتابة جريمة عند البعض لا يجب اقترافها. بالعودة إلى جريمتي الروائية الأولى "زمن العرفان"، كان مذاق الشراب مرا جدا، شجعني أصدقاء أحباء على قلتهم، اعتبروا أن كتابتي للرواية أمر طبيعي، لأنني أكتب يوميا، ولكن لا أحد مد يد العون لخياطة صلة وصل بناشر يمكنني من الاستمرار، هذه حقيقة وواقع أمر مغربي أعترف به. في جريمتي الروائية الأولى "زمن العرفان"، شعرت بالغربة في الوطن، لماذا؟ ظننت أن بقدر احتفائي كصحافي مهني بالآخرين، ستتم قراءة النص والتعاطي معه، ولو من رد الجميل، ولو من زاوية الاهتمام بهذا الوافد الجديد!!! فإذا كان نصي ناجحا، ينوه به، لأحصل على طاقة إيجابية، وإذا كان فاشلا، يطلب مني أن أعاود المحاولة كي أنجح في الكتابة، أعتقد أنني مثل تلميذ في القسم، لا يمكن طردي لفشلي ولرسوبي ولكن يتوجب تركي أحاول وأحاول. المشهد المغربي مُشعر حتى الثمالة بالغربة روائيا، حجم الإقصاء كبير جدا يصل إلى الإلغاء، لأن لا شلة لك ولا حزبا وراءك ولا هم يحزنون. أكبر الأسماء في الثقافة المغربية تعاني من أنانية مفرطة، لا تقبل أبدا فكرة الأجيال الجديدة، تصدر كتبا ورقية جميلة جدا في الإخراج الفني والورق، قرأت للكثيرين أصابهم العقم، فتحولوا إلى مانعين لظهور التجديد في الأدب المغربي. فصاحب أهم نص في الأدب المغربي في 100 سنة، الراحل محمد شكري، مبدع "الخبز الحافي"، لولا الأمريكي بول بولز، عرابه ومقدمه إلى العالم، لما اعترف المغاربة يوما بهذا الرجل المبدع والملهم في قصة حياته ومحاربته لأميته عن كبر. أعترف بغربتي الوحيدة في النص، سأواصل وحيدا سيري، أكتب وأمسح وأكتب، أفشل لأنجح، وأصمم لأن التصميم سر بقائي واستمراري. ولكن رغم كل هذا الصد، وكل هذه الشللية، وكل هذا الإغلاق الموصد، وكل هذه التفاهات التي نتنفسها كل يوم، عازم على إخراج روايتي الثانية، لأن لدي مشروعا عاشرا روائيا ورقيا في الأفق. وأما معرض الكتاب في مدينة الدارالبيضاء، بعد زيارات سنوية منذ 14 عاما، فهو من أكبر التجمعات البشرية في المغرب، يأتي في فبراير، ليشرب الجميع قهوة سوداء، ويمثل الجميع دور المثقفين، وينفثون سيجارات، ويقدمون أنفسهم كروائيين وشعراء ومثقفين. لا أومن بمعرض الكتاب في مدينة الدارالبيضاء، ليس لأن لا كتاب لي فيه، ولو أن هذا أمر محزن لي، ولكن لأن هذا الحدث لا يقدم أي خدمة للكتاب ولا للقراءة، ولأنني تابعت عشرات وعشرات اللقاءات حول الكتب لا تحضرها إلا كراسي فارغة. يجب الاعتراف بأننا في مجتمع لا يقرأ، وبأن الوقت حان لإيقاف معرض الدارالبيضاء للتفكير في صيغة جديدة تصلح لدعم ثقافة القراءة في المغرب.