(1) تمهيد النساء شقائق الرجال يساوينهم عند الله كما تصرّح الكثير من الآيات ، لكن الأعراف والتقاليد القديمة السابقة على الإسلام فرّقت بين الرجل والمرأة لأسباب اقتصادية وعسكرية . ولما جاء الإسلام العظيم ، وجد الأعراف الاجتماعية قويّة مترسّخة ، فاحترمها ما دلمت ليست منكرا ولا فاحشة ، وسعى لعلاج وتهذيب جوانب الظلم فيها . ومن تلك الأعراف أن المرأة لا ترث قريبها إذا ترك بعده أحد عصبته كالأب والابن والأخ ... إذ كان العاصب يتولّى كفالة يتامى الميت وأرملته . وهذا بطبيعة الحال قد يكون ظلما لليتامى والأرامل إن كان العاصب سفيها غبيا أو فاجرا منحرفا . وأوّل ما بدأ به القرآن أنه أعلن حق الأنثى في ميراث الوالدين والأقربين ، ولو ترك الميت عَصبَة أو عاصبا ، فقال الله تعالى في سورة النساء – الآية 7 : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) . وقد كان هذا الإعلام بأحقية المرأة في الميراث صدمة اجتماعية كما تشير بعض الروايات المذكورة في تفاسير هذه الآية ، إذ لم يتوقّع جمهرة الصحابة أن ينقض القرآن عادة حجازية راسخة . وبعدما هدأت النفوس ، وتهيّأت القلوب ، وسكنت العقول ، جاءت آيات المواريث التفصيلية التي أكّدت حق الأنثى في الميراث ، لكنها لم تعطها في المجمل إلا نصف الذكر المساوي لها في الجهة والقرابة ( البنت مع الابن – الأم مع الأب – الزوجة مقابل الزوج – الأخت مقابل الأخ ) استسلم الصحابة لهذه الثورة القرآنتية على العرف الاجتماعي لأنها أمر من الله مختوم بالوعيد والتهديد في قوله تعالى من سورة النساء ذاتها – الآيات (12 – 13 – 14 ) : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ) فعلى فرض ضعف الروايات الدالة على تبرّم قطاع واسع من الصحابة وصدمتهم من توريث الأنثى ، فهذه الآيات القاسية الشديدة تكفي في الدلالة على وجود شيء من ذلك ، فكان من المناسب ترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من العصيان . وبطبيعة الحال ، لم يكن وقتها من الحكمة في شيء أن يجعل القرآنُ الأنثى مساوية للذكر في الميراث بعبارات قطعية صريحة ، لذلك أعطى للرجل ضعف المرأة المساوية له في القرابة بألفاظ وصيغ ظنية لا قطعية ، في انتظار تغيّر الظروف الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية التي ستفرض على فقهاء المسلمين الاجتهاد لظروفهم وأزماتهم ، والتفطّن لكون أنصبة الإرث القرآنية ظنّية لا قطعية تترك هامشا واسعا للتفكير ، وتُفسح المجال أمام فكرة المساواة . لقد صٌدِم قطاع واسع من المسلمين لمجرّد توريث المرأة مع وجود العاصب ، وكانوا متبرّمين من إعطائها نصف حظ المساوي لها في القرابة ، وخشي النبي على إيمانهم إن هو هدَم الكعبة وأعاد بناءها على أساس إبراهيم عليه السلام ... فكيف يضمن إسلامهم لو فرض عليهم المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث ؟ إن عقلية الرجل المسلم في القرن الواحد والعشرين لم تستوعب بعد أن أخته تستحق مثل حظّه من الميراث في والديهما ، على الرغم من أن الذكر لم يعد محاربا يحمي العشيرة ، ولا ملزما بإيواء أخته والنفقة عليها ، ولا مستقل النفقة على أسرته الصغيرة نظرا لعمل زوجته ، وعلى الرغم من أن الأنثى صارت تُسهم في ثروة الوالدين من خلال عملها ، وملزمة واقعا بالإنفاق على أولادها مع زوجها ... بل إن الرجل المسلم العشائري البدوي الفلاح اليوم ، لا يزال يتحايل على حق أخته ، فيعطيها القليل ، أو يقنعها بالتنازل ، أو يعرقل توزيع التركة حتى تبقى الغلّة حصرا للذكور ... وأكثر من ذلك ، فالرجل المسلم إلى اليوم ، الأب والزوج والابن والأخ ... يستولي على ميراث الأنثى بعدما تملكه بقوة القانون ، لأنها في نظره لا تستحق الإشراف على مالها . فإذا ماتت امرأة مثلا ، وتركت زوجها مع ابنهما وابنتهما ، فالزوج الذي هو أبوهما يأخذ الربع نصيبه ، بينما يقتسم الابن والبنت الباقي على أساس التفاضل ، ثم يستولي الأب على نصيب البنت من خلال استرضائها أو الاقتراض منها ... لكنه نادرا ما يطمع في نصيب الابن الذكر ولو كان عزَبا . وترث المرأة زوجها ، فيحتال عليها أخوها أو أبوها الذي لا علاقة له بالزوج الميت إلا من خلالها ... إذا كانت هذه عقلية الرجل المسلم ونظرته للمرأة في القرن الواحد والعشرين ، فكيف كانتا عند الإنسان العربي البدائي زمن النبوة الحديث عهدا بالجاهلية ؟ كيف لو نزل القرآن حينها بالمساواة في الميراث بين الابن والبنت أو الأخ والأخت ... ؟ أعتقد أن شريحة كبيرة من المسلمين كانت سترتد إلى الكفر أو النفاق . يكفي القرآن إنصافا للأنثى العربية خاصة أنه قبل 1400 سنة أحدث ثورة اجتماعية ونقلة جبّارة في عقلية العرب ونفسيتهم نحو المرأة . لولا تلك الثورة / الصدمة ، لظلّت الأنثى إلى اليوم محرومة من الإرث قانونا . لقد " تمرّد " المسلمون - بقيادة سيدنا عمر (ض) وإقرار الخلفاء والفقهاء المجتهدين بعده - على ظاهر القرآن في قضايا كثيرة تسمى المسائل الشاذة في علم المواريث ، لأن العرف والعادة كانت حينها أقوى من ظاهر النص . خذ مثلا مسألة " العمريتين " أو " الغراوين " المشهورتين عند الفقهاء عامة والفرَضيين علماء المواريث خاصة : لو مات رجل وترك أباه وأمه وزوجته . يعطي ظاهر القرآن للزوجة الربع في قوله تعالى : ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ) ، وللأم الثلث بقوله سبحانه : ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ، والباقي للأب بالتعصيب لأن القرآن لم يحدّد له شيئا في هذه الحالة ، والباقي هنا أكثر من الثلث بقليل . ولو ماتت امرأة ، وتركت أباها وأمها وزوجها ، فظاهر القرآن يعطي النصف للزوج بقوله تعالى : ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ) ، والثلث للأم بالآية السابقة ، والباقي للأب بالتعصيب ، والباقي هنا هو السدس ، والسدس نصف الثلث ، فتأخذ الأم ضِعفَ الأب بظاهر القرآن . لم تقع مسألة من هذا النوع زمن النبوة أو خلافة الصديق أبي بكر ( ض ) ، لكن في زمن الفاروق عمر ، توفيت امرأة عن زوجها وأبيها وأمها ، فحدثت الضجة والرجة . فلما كان الباقي للأب نصفَ نصيبِ الأم في حال وفاة الزوجة ، وأقلّ من ضِعف نصيبها في حال وفاة الزوج ، فإن المجتمع المسلم المتشكل من الصحابة أساسا ، لم يستسغ التقسيمة بظاهر القرآن ، فاضطر سيدنا عمر بضغط من المجتمع والعرف والتقاليد للاجتهاد والاستشارة ، فكانت النتيجة هكذا : لا تأخذ الأم في الحالتين ثلث التركة ، بل الثلث مما بقي بعد ربع الزوجة أو نصف الزوج . فلو فرضنا أن الميت امرأة : يأخذ الزوج نصف التركة ، ثم يقسم النصف الثاني على ثلاثة أقسام : للأب قسمان وللأم قسم واحد ، فتكون النتيجة هكذا : للزوج نصف التركة ، وللأب ثلثها ، وللأم سدسها . أي أنهم أخذوا السدس من ثلث الأم بظاهر القرآن ، وأضافوه لسدس الأب ، فصار نصيبه ضعف نصيبها ، وهو أقل ما يقبل به المجتمع حينها . ويتأكّد الأمر حين تتأمل فعلهم في حال وفاة الزوج : تأخذ الزوجة الربع كاملا ، ثم تبقى ثلاثة أرباع : للأب ربعان ( وهما النصف ) وللأم ربع ( وهو نصف النصف ) فتتساوى مع الزوجة ، بينما أعطاها ظاهرُ القرآن ثلث التركة كاملا ، والثلث أكبر من الربع ، وأكبر من نصف النصف . شرح عملي بالنقود : إذا مات رجل تاركا مئة مليون ( 100000000 ) ، فحسب ظاهر القرآن : للزوجة الربع ، وهو 25 مليونا ، وللأم الثلث ، وهو أزيد من 33 مليونا ، وللأب الباقي بالتعصيب ، وهو 100000000 – ( 25000000 + 33000000 ) = 42000000 تقريبا . وعلى الرغم من أن 42 مليونا أكبر من 33 مليونا ، فإن الواقع الاجتماعي رفض أن يقلّ نصيب الأب عن ضِعف نصيب الأم ، فتحوّل التوزيع هكذا : للزوجة الربع كاملا ، وهو 25 مليونا ، وللأم ثلث الباقي ، أي ثلث 75000000 ، وهو : 75000000 / 3 = 25000000 ، أي ربع التركة في الأخير ، وللأب ما بقي ، وهو 50000000 ، أي نصف التركة وضعف الربع . وإذا خلّفت الزوجة ( 100000000 ) ، فالتوزيع حسب ظاهر القرآن : للزوج النصف فرضا ، وهو 50000000 ، وللأم الثلث فرضا ، وهو حوالي 33000000 ، وللأب ما بقي تعصيبا ، وهو 27000000 تقريبا . فيكون نصيب الأب أقل من الأم بحوالي 6000000 فقط . لكن الواقع العربي كان يرفض ذلك بحكم العرف والتقاليد ، فاستحالت التخريجة هكذا : للزوج النصف فرضا ، وهو 50000000 ، لأنه رجل له عشيرة تحمي نصيبه فلا مجال للنقصان منه ، وهذه واقعية معقولة . وللأم ثلث ما بقي اجتهادا ، وهو ثلث 50000000 وليس ثلث 100000000 ، فتأخذ خارج 50000000 / 3 ، وهو أزيد من : 16000000 بقليل . وللأب ما بقي اجتهادا ، وهو 34000000 تقريبا . فيكون الأب قد أخذ ضعف الأم في الحالتين ، لأنها أضعف حلقة في المسألة . ولو كان بإمكانهم النقصان من نصيب الزوج ، لقسموا التركة بالتساوي بين الزوج والأب والأم ، فيأخذ كل واحد منهم الثلث ، من خلال نقل السدس من الزوج إلى الأب ، لكنهم لم يقدروا على ذلك . وللعلم ، فمنذ سيدنا عمر إلى اليوم ، فإن الدول السنية لم تعد للعمل بظاهر القرآن ، إذ لا تزال متمسكة بالعمريتين المنسوبتين إلى عمر بن الخطاب باعتباره خليفة المسلمين الذي سبق لتطبيقهما . هل هذا الاجتهاد تمرد وعصيان للقرآن ؟ لا . فما هو إذن ؟ إنه مواءمةُ النص القرآني والواقع الاجتماعي . بعبارة أخرى : إنها الواقعية التي يفرضها المجتمع على النص الديني المحتمل للتأويل أو ذي التطبيق الحرفي المستحيل . ويمكننا الاستنتاج من هذه المسألة وشبيهاتها أن الصحابة الكبار لم يكونوا يرون آيات المواريث تعبّدية توقيفية ، ولا قطعية الدلالة ، لذلك اجتهدوا فخالفوا ظواهرها . كما يمكن القول : النص الذي لا يستسيغه المجتمع ، فيتعسّر إنفاذه ، ويكون متعلّقا بشؤون الدنيا من حكم وسياسة واقتصاد ... يجوز تعطيله وتجاوزه ، من غير أن يكون ذلك عصيانا وتمردا على الدين ، ذلك أن الدنيا شأن خاص بالناس ، لا يتدخل فيه النص إلا إرشادا وتوجيها ، ما لم يخرق المجتمع محرّما صريحا قطعيا . لقد أدرك الخليفة عمر والذين وافقوه وأقروه أن ثلث الأم ليس قطعيا ، لذلك سمحت لهم أنفسهم بالنقصان من حظها لصالح الأب . أو أنهم كانوا واعين بأن المواريث شأن دنيوي يجوز تكييف نصوصه مع الواقع المحكوم بالعرف والتقاليد . أو أنهم كانوا على وعي بما سنتعرّض له في الجزء الثاني من الموضوع . وحينها سنضرب مزيدا من الأمثلة الدالة على أن الخلفاء لم يجمدوا على ظواهر آيات المواريث . ولنطرح الآن هذا السؤال المحيّر : هل كان بالإمكان أن يأمر القرآن بالمساواة بين الذكر والأنثى بصريح العبارة ؟ الجواب : قطعا ، لا . والبرهان هو أن مجتمع الصحابة لم يستسغ المساواة بين الأب والأم في " العمريتين " ، ولا قبِل تفضيلها عليه في حال وفاة الزوجة عن أبويها وزوجها . لقد راعى القرآن الحكيم نفسيات الصحابة المتشكلة من الأعراف والتقاليد ، فجاءت حظوظ الأنثى نصف حظوظ الذكر غالبا . وهي حظوظ ظنية لا قطعية وإن استعمل فيها الأعداد . وهي حظوظ مرنة دنيوية لا توقيفية تعبّدية . وبالعودة للأصل الذي هو تساوي الذكر والأنثى عند الله ، فإن المساواة بينهما في الميراث هي الغاية التي سيتجه المسلمون نحوها ولو بعد ألف عام من اليوم . ونراه قريبا ، ويراه غيرنا بعيدا . إن الهدف من ثورة القرآن على العرف ، والمتمثلة في توريث الأنثى مجملا ثم منحها نصف الذكر المساوي لها ، هو تهيئة العقول والنفوس للمساواة بعد آلاف الأعوام من زمن النبوة ، إذ لكل فترة تشريع ومنهاج خاص بها كما تشير آية المائدة – 48 : ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) . فليس من الحكمة أن تظل قوانين زمن النبوة وما بعدها صالحة كلها بعد التغيرات الجذرية في المجتمع والاقتصاد والحرب ... لا يعقل أن يبقى المسلمون جامدين على ظواهر النصوص قرآنا أو حديثا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألفي عام أو مليون سنة . والواقع الفقهي تاريخا يدعم ما نقول به . إن ابتداع الوصية الواجبة على الجدّ أو الجدّة لصالح أبناء الابن المتوفى قبل أبويه أو أحدهما ، ثم تنزيلهم كلّهم منزلته ، فالوصية الواجبة لأبناء البنت المتوفاة أيضا قبل أبويها أو أحدهما أو تنزيلهم منزلتها ... أفكار عظيمة وحلول جبّارة حكيمة لأوضاع اجتماعية لم يعهدها زمن النبوة أو الراشدين . إلزام الجدّ أو الجدّة بالوصية في حدود الثلث للأحفاد ، وتنزيلهم منزلة أحد أبويهم ، إنقاص واضح من حظوظ الورثة الآخرين بالفرض أو التعصيب . لكنه إنقاص اضطراري فرضته التحولات العميقة في مجتمعات المسلمين بعد توسع دولتهم وامتزاج الشعوب المفتوحة مع العرب . إذا كانت مجتمعات النبوة والخلافة والأمويين تلزم الأعمام بكفالة أيتام أخيهم كأنهم أبناؤهم ، فإن مجتمعات المسلمين ما بعد ذلك لم تكن كذلك ، فكانت الوصية الواجبة علاجا اجتماعيا لمعضلة إنسانية ضاغطة . ولما كان بعض الأجداد يتهاونون في الوصية الواجبة أو يتبرمون منها ، فيموتون دون عقدها ، فيتعرّض الأحفاد للحرمان من " حقهم " في ثروة الأجداد ، فإن القانون المغربي الحالي يكفل للأحفاد نصيبهم وإن لم يترك الأجداد أي وصية . ولما كان الأعمام في القديم هم الذين يكفلون يتامى إخوانهم ، فإن الفقهاء لم يبتدعوا الوصية الواجبة لأبناء البنت ، فكان الأخوال يحتكرون التركة كلها على مرأى ومسمع يتامى أختهم . أما في مدونة الأحوال الشخصية المغربية المعاصرة ، فأبناء البنت المتوفاة قبل أبيها أو أمها ، يأخذون بقوة القانون نصيبهم من تركة الجدّ أو الجدة على سبيل التنزيل أو الوصية الواجبة . طبعا ، لا يزال بعض " الفقهاء " التقليديين يرون توريث الأحفاد مع وجود العم ظلما وعصيانا . أما توريث الأحفاد في الجدّ لأمّ ، سواء كان هناك خال أم لا ، فهو رجس من عمل الشيطان عند تلك الفئة من " الفقهاء " التي تلفظ أنفاسها الأخيرة . توثيق العمريتين / الغراوين من الموطإ : قال الإمام مالك بن أنس في كتاب الفارئض من سِفر الموطإ : ( بَابُ مِيرَاثِ الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ وَلَدِهِمَا : قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا: ( ... ) وَمِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ وَلَدِهَا، إِذَا تُوُفِّيَ ابْنُهَا أَوِ ابْنَتُهَا، فَتَرَكَ الْمُتَوَفَّى وَلَدًا أَوْ وَلَدَ ابْنٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، أَوْ تَرَكَ مِنَ الْإِخْوَةِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ مِنْ أَبٍ أَوْ مِنْ أُمٍّ، فَالسُّدُسُ لَهَا. وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمُتَوَفَّى، وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ، وَلَا اثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ فَصَاعِدًا، فَإِنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ كَامِلًا إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ فَقَطْ. وَإِحْدَى الْفَرِيضَتَيْنِ، أَنْ يُتَوَفَّى رَجُلٌ وَيَتْرُكَ امْرَأَتَهُ وَأَبَوَيْهِ، فَلِامْرَأَتِهِ الرُّبُعُ. وَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا بَقِيَ. وَهُوَ الرُّبُعُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَالْأُخْرَى: أَنْ تُتَوَفَّى امْرَأَةٌ. وَتَتْرُكَ زَوْجَهَا وَأَبَوَيْهَا. فَيَكُونُ لِزَوْجِهَا النِّصْفُ. وَلِأُمِّهَا الثُّلُثُ مِمَّا بَقِيَ. وَهُوَ السُّدُسُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ، إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْإِخْوَةَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا " ... ) وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/128) لابن رشد الحفيد ت 595 : ( وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الَّتِي تُعْرَفُ بِالْغَرَّاوَيْنِ، (وَهِيَ فِيمَنْ تَرَكَ زَوْجَةً وَأَبَوَيْنِ، أَوْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ) ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي الْأُولَى لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَهُوَ الرُّبُعُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُوَ النِّصْفُ . وَقَالُوا فِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ زِيدٍ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأُولَى: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ عَاصِبٌ . وَقَالَ أَيْضًا فِي الثَّانِيَةِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ ; لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْضٍ مُسَمًّى، وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَدَاوُدُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٌ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ لَمَّا كَانَا إِذَا انْفَرَدَا بِالْمَالِ كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ كَذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُ الْأُمِّ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبِ خُرُوجًا عَنِ الْأُصُولِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ أَنَّ الْأُمَّ ذَاتُ فَرْضٍ مُسَمًّى وَالْأَبَ عَاصِبٌ، وَالْعَاصِبُ لَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مَحْدُودٌ مَعَ ذِي الْفُرُوضِ، بَلْ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيلِ أَظْهَرُ، وَمَا عَلَيْهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي مَعَ عَدَمِ التَّعْلِيلِ أَظْهَرُ، وَأَعْنِي بِالتَّعْلِيلِ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ أَحَقُّ سَبَبَيِ الْإِنْسَانِ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ (أَعْنِي: الْأَبَ مِنَ الْأُمِّ) . انتهى انظر إلى قوله رحمه الله : ( كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُ الْأُمِّ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبِ خُرُوجًا عَنِ الْأُصُولِ ) ، ثم اسأل : عن أي أصول يتحدث ابن رشد ؟ إن كان يقصد أصول الشريعة ، فإنها سوَّت بين الأب والأم في حال وجود الولد لقوله تعالى : ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) . فكان الواجب أن تتم المساواة بينهما في العمريتين وليس المفاضلة بتقنية اختراع ثلث الباقي . فظهر أنها أصول المجتمع والعرف والتقاليد ، وليس ذلك عيبا ما دام المجتمع قد استساغ ورضي ، لكنه ليس اجتهادا مقدسا يلزمنا والمسلمين بعدنا إلى يوم القيامة . إن المساواة بين الأب والأم في ميراث الأبناء اليوم ، مسألة وجيهة ، إذ لم يعد الأب وحده الذي ينفق على أولاده ، فالأم موظفة وعاملة ومقاولة وتاجر ... وقبل ذلك وبعده ، فإنها خادم للأولاد من المهد إلى اللحد ، فلماذا لا تستحق الثلث كاملا من رأس المال أو المساواة مع الأب على الأقل في الغراوين / العمريتين ؟ يتبع [email protected]