ماذا لو اختارت لجنة السهر على تنظيم الإنتخابات المغربية أن يكون يوم الإقتراع هو السادس والعشرون من شهر رمضان الكريم. على أن تعلن النتائج ليلة القدر المباركة ؟ ففي هذه اللية العظيمة تكبل كل الشياطين .. وتحل مكانها ملائكة الرحمن ويكثر خلالها الخوف والورع من الله . وما أحوجنا لهما يوم الخامس والعشرين من نوفمبر 2011. قد يبتسم البعض ويجد في الأمر وسيلة للحيلولة أو التقليل من فرص التلاعب والغش في الأصوات. فيما قد يرى البعض في الصيام شماعة يعلق عليها أي فتور في العملية الإنتخابية.. ولربما يخرج علينا بعض الشيوخ المتبرلمين ( نسبة إلى البرلمان ) بفتاوى تتيح الإفطار يوم الإقتراع .. فتغيب بركة الصيام ويغيب معها الخوف من الغش . وتعود حليمة لعادتها القديمة. لكن لا تقلقوا فليس هناك ما يدعو للإرتباك فالسيف سبق العذل و " والفأس وقع بالرأس ". فالشيطان كان أذكى من اللجنة المشرفة على الإنتخابات , أو لعله توقع منها احتياطات , قد تربك حساباته وهو الذي لا يترك مكانا للتقدير أوالمغامرة ولا يعشق المفاجئات. قديما قيل أن الشيطان يتقن الإختباء في التفاصيل , وتفاصيل إنتخاباتنا كثيرة, متنوعة ومبالغ فيها. وليس هذا برأيي بل هو بإجماع كل متتبع مختص للمشهد السياسي و الإنتخابي المغربي. منذ كان الشيطان لا يكلف نفسه عناء الإختباء ومنذ كانت النتائج تبيت جاهزة في دوائر أم الوزارات. لتفرز في اليوم الموالي أسماء ومرشحين هم نفسهم من يرفع اليوم شعار محاربة الفساد وقطع الطريق على المفسدين .. " وداويني بالتي كانت هي الداء " وللأمانة الفكرية لا ضير من التذكير بأن أعتى " الديموقراطيات " العالمية تعيش حالة الشيطنة وخبث التفاصيل. ولعل هذا ما يهَون على بعض مسؤولينا ممن يسيل لعابهم لكل ما هو مستورد . حتى لو كان هذا المستورد تفاصيل عقيمة وتعقيدات بروقراطية لا تسهم في تكريس تمثيلية حقيقية لرأي الشارع وصوته. ففي أميركا مثلا لا يتحدثون صراحة عن شيء يسمى " التقطيع " أو " Gerrymandering" ليس خجلا أو خوفا بل لإتفاق ضمني بين الفاعلين السياسيين على عدم إشراك الناخب في تقنيات تقطيع الدوائر الإنتخابية بل تترك هذه العملية لمشيئة المرشحين و من يمثلهم من محامين وغيرهم. وليست لنا في ذلك أية عبرة لأننا والحمد لله أساتذة التقطيع وجهابدة علم " التقوليب ". وإذا كانت تفاصيل التفاصيل تغيب عن واجهة المشهد الإنتخابي الأميركي الذي قطع أشواطا كبيرة في التمثيلية الحقيقية لصوت الناخب , فماذا عن مغرب خرج لتوه من عملية نصب متوارثة للإرادة الشعبية. ؟ ماذا عن تلك الترجمات السريعية لمقتضيات دستورية قيل أنها جاءت لتروي عطش المغاربة لدولة تتساوى فيها الرقاب ويقطع فيها دابر الفساد وتصد الأبواب في وجه تجار الأصوات. فحولها البعض ومَحوَرَها في خدمة مصالحه الإنتخابية وجعلها مطية لركوب موجة التغيير ؟ هل يدرك الناخب المغربي أن تدبير الشأن الإنتخابي في وطنه يتم وفق تفاهمات وتوافقات حزبية لا تكترث كثيرا بالسلطة العليا لأسمى وثيقة قانونية في البلاد وهي الدستور؟ هل يعلم المغاربة أن التوافق بين ممثلي الأحزاب يكون أكثر من كاف لفض أي خلاف حول مدينة أو دائرة من الدوائر حتى دونما العودة إلى القواعد الشعبية لهذه الأحزاب فما بالك العودة إلى الشارع الذي لا يراد له أن يعرف من يقطع خريطة وطنه السياسية ومن يصمم أدق التفاصيل وأكثرها تأثيرا في جوهر العملية الإقتراعية. ليس سهوا بل عمدا نرى الأحزاب التي لا تقاطع اليوم انتخابات 25 نوفمبر تركض في حملاتها الإنتخابية وقد تناست جوهر الدستور وضرورة الإلتزام بنصوصه حرفيا , شرطا وليس إختيارا.. فالدستور لا يسمو منه جزء دون جزء ولا يجوز أخذ بعضه وترك بعضه. وعملا بقواعد االعبة لم تك عملية إقصاء صوت الجالية المهاجرة (ما يفوق 10% من الشعب المغربي) من حقه في التصويت سوى شيطنة من شيطانيات لجنة التفاصيل الدقيقة ومن يشرف عليها من عباقرة. لجنة تحججت بصعوبة العملية واستحالة فتح مكاتب للتصويت في القنصليات والسفارات المغربية بالخارج. وكأننا بالفعل نحتاج أن نفتح مكاتب للتصويت .. عجبي .. عجبي ألم يك الجواز البيومتري والبطاقة البيومترية قمة في توظيف التكنولوجيا الرقمية في خدمة المواطن.. أليست هذه البطاقة البيوميترية كافية لربط صوت المواطن عبر موقع إلكتروني يدلي من خلاله المواطن المهاجر بصوته .. أم أن الأمر معقد بواطن الأمور وخبايا القرار يوحيان بأن إستثناء مغاربة الخارج من التقطيع الإنتخابي هو في عمقه بسبب العجز التام لدى المؤسسة الحزبية والحكومية على توليف أصواتهم وقولبتها على طريقة خذ وهات. أما التحجج بالتقنيات فهو حيلة قديمة ولن تنطلي علينا. ثم ما معنى أن تحصر عملية الترشيح وفق معايير الدوائر وفتح المجال للبعض وحجبها عن البعض الآخر ؟ ما معنى ألا يكون الترشح مباشرا ودون وساطات لجان الأحزاب وتزكياتها.؟ ألا يجوز ان يكون المرشح حرا في الترشح ضمن ىلية سهلة وبسيطة مما قد يسهم في بلورة حقيقية للإرادة الشعبية. ألم يجمع المغاربة وعلى مدى زمن طويل أن التجربة الحزبية في المغرب لم تقدم نموذجا جيدا للحكامة ولم ترتقي للمستوى المطلوب في تدبير الشأن العام ؟ بل ظلت على مدى تاريخها المشوه مجرد مسرحية أبطالها هم هم لم يتغيروا فقط تتغير أقنعتهم وتموقعاتهم. ألم يخلف حزب الإستقلال ما وعد به القلة القليلة التي صوتت له في 2007 ومثله الإتحاد الإشتراكي وبعده العدالة والتنمية ..؟ فلماذا إذن يقر الدستور صراحة حق كل مغربي في الترشح ثم توكل هذه المهمة لأطراف غير محايدة بل هي في الأصل جوهر المشكل وسببه ؟ كيف نسمح للحزب أن يكون الطريق الأوحد والضامن الأساس للإرادة الشعبية ونحن أعلم الناس بفضائح هذه الأحزاب وسبيلها للنجاة ( أرجو فهم كلمة النجاه بكل المعاني ) .. ألسنا أعلم الشعوب بصفقات أحزابنا فيما بينها لتقطيع الوطن إلى دوائر تسمح لنفس الوجوه أن تتصدر النتائج ( الدكتور سعد الدين العثماني مثلا يترشح في المحمدية بدل أكادير؟ !! والأمثلة كثيرة ). أما كان هناك من سبيل أن ينتخب الشعب لجنة محايدة تشرف على الإنتخابات.. لجنة لا تنحني لأوامر السلطات العليا ولا تداهن الأحزاب ولا تمارس السياسة. إنه السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبإلحاح محرج .. هل يتقدم المرشحون في الدوائر التي ولدوا فيها ؟ أم تلك التي يقطنون فيها ؟ أم يفضلون ( a La Carte ) تلك التي يملكون فيها حظوظا أقوى للفوز؟ الفوز بأي ثمن بل ومهما كان الثمن.؟ إن البرلماني وفور إنتخابه يتحول من مرشح حزب بدائرة معينة إلى ممثل للشعب كافة .. فمرشح الإتحاد الإشتراكي بدائرة ما لن يمثل عند فوزه دائرته حصرا بل يتحول إلى ممثل لكل المغاربة من طنجة إلى الكويرة .. بل وسيمتلك الصفة التمثيلية والسلطة التشريعية باسم كل المغاربة بمن فيهم أنا و إخواني المهاجرين الذين فُرض عليهم التخلي عن حق الإقتراع المباشر واستيعاضه بالوكالة. إن تعميق الحديث في موضوع التقطيع الإنتخابي والإسهاب فيه. أمر أكثر من مشروع. بل وضرورة تفرضها المواطنة الحقة والإحساس بالمسؤولية وما تمليه علينا من واجبات, لعل أهمها الوقوف في وجه قطاع الطرق وسارقي الأصوات ومزوري إرادة الشعب والمغامرين بسلامة وأمن الوطن والمواطنين. بالأمس كان الشيطان صريحا ويملك شجاعة المواجهة , كان مكشوف الوجه عاري الملامح أما اليوم فقد إختار أن يدق أسافينه قبل أن ندلي بأصواتنا بل وقبل حتى أن تطبع الأوراق وتجيش الحملات. قلنا في البداية أن الشيطان يعشق الإختباء في التفاصيل .. ولعلنا نراه يتقن فعل ذلك في بلدنا .. فباسم الدستور يتسلل الشيطان إلى الدوائر القروية ويفرض لوائح لا تمثل أهل الدائرة . تارة بقناع اسمه الحزب وتارة باسم حفظ التوازنات وتارة أخرى بذريعة اللحاق بالفرص وقطع الطريق على هذه الجهة أو تلك. وليت الأمر توقف عندهذا الحد بل نجد الشيطان قد أدرك قيمة ووزن كلمات مجلجلة مثل : - الشعب يريد المصباح .. الشعب يريد الميزان .. الشعب يريد البقراج - عفوا .. عفوا .. الشعب يريد الشفافية في كل شأن من شؤون الحكم - الشعب يريد المعنى الآخر للديموقراطية .. ديموقراطية ترتكز على الممارسة الفعلية للحق .. تحت غطاء القانون والمساواة أمامه .. - الشعب يريد مصالحة وطنية مع كل مكوناته الفكرية والإديولوجية - الشعب يريد إنتخابات لا تستثني شريحة من الشرائح .. مهما كان الخلاف مع هذه الشريحة أو تلك. أمام العجز الفاضح للأحزاب السياسية المغربية في تقديم مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي واضح الخطوط والمعالم وقابل للتطبيق عملا لا قولا فعلا لا مزايدة .. وأمام انعدام القدرة التأطيرية للناخب المغربي.. أدار هذا الشعب ظهره لديموقراطية أحزاب لاتعكس آماله ولا يجد نفسه في طروحاتها. فتبلورت لديه ممارسة الإنكماش على الذات والإنخراط في حركات ترفع الشعار الديني ( العدل والإحسان مثلا ) ليس دائما إيمانا بكل مرجعياتها العقائدية والنظرية بل فقط لوجود قواسم مشتركة توطد علاقته بها ولوجود خطاب روحي يتسم بمشاركته مشاكله والإنخراط في حلها ممارسة وتطبيقا. وهو ما قد يشكل تفسيرا لمحاولات إستنساخ تجربة العدل والإحسان بأساليب حداثية وباستعمال ما يكفي من المرونة والإنتهازية لكسب ورقة الشارع دونما السقوط في فخ الدوغما. ولعلها وجدت تجاوبا نسبيا بسبب الشعور الشعبي بضرورة الإنتقام من الأحزاب العلمانية وليس إيمانا من المغاربة بصدق نواياها. مهما تعمقت الهوة بين الشعب والمؤسسة الحزبية في المغرب فإن المغاربة رغم ذلك برغماتيون في تقييمهم لفعل ممارسة السلطة. فالإجماع على الآداء الراقي للملك في القطاعات الإقتصادية والإجتماعية هو أبرز دليل على هذه البرغماتية .. وهي ذات البرغماتية التي تجعل المغاربة يفضلون الجلوس في بيوتهم بدل التصويت لمرشحي أحزاب يعلمون مسبقا أنها سوف تتقاسم الكعكة فيما بينها وتوزع المناصب على أبناء الأمين العام أو الوزير الأول وخالاته وأبناء عمومته. إن مركز الخلل لم يك دائما في نصوص الدساتير المغربية بل في محكم اللوائح التنظيمية وميكانزمات تطبيقها .. الشعب صوت على الدستور بصوت الملك واستجابة لدعوته فكل المغاربة يحبون محمد السادس . ومحمد السادس راكم من الإنجازات ما يسمح له أن يزايد على كل الأحزاب مجتمعة فهو المالك للوسيلة والكاريزما والمؤتمن شرعا من قبل الشعب على مستقبل البلاد. وما عدا ذلك من الممارسات السياسوية في المغرب فهي مجرد هراء واستغلال للمناصب وإلا فليكشف لنا السيد الوزير الأول عن حقيقة ومبررات وجود أفراد عائلته بمناصب جد هامة في البلاد. إن المتأمل للمشهد الإنتخابي المغربي يدرك فورا أن العزوف عن الإقتراع إنما هو بسبب غياب الثقة وعجز الأحزاب في خلق قاعدة الثقة .. وهي ( أي الأحزاب ) رأس الفساد وسببه وهي من ألقى بمصالح الطبقات الفقير في ذيل أولوياتها وارتمت في أحضان الفئوية والقوى المالية الداعمة لحضورها في الشارع حضورا ( ديكوراتيا ) يؤثث ولا يؤثر في ما يجمع على تسميته باللعبة الديموقراطية. لعبة تبدا باللعب والتلاعب بمال الشعب وحقوقه في ممارسة مواطنته. فإذا كانت الإنتخابات هي الجزء الواضح من جبل الثلج فإن تفاصيل تنظيمها هي الجزء الأعظم الذي نراه وهناك قطعا يختبئ الشيطان. أضف الكاتب على الفايسبوك